أنطون سعادة في الزمن الآتي؟ لم لا؟ شرط أن يُستفاد من إخفاقات الماضي، وأخذ العبر. الكلام والفكر ملزمان بأن يترجما في السياسة والنضال. التاريخ القومي، العربي والسوري، يفضحان الأخطاء الهائلة والقاتلة. لا يمكن البناء على هذا الماضي أبدًا. لا بد من التفكير بدقة، بالمستقبل، على قاعدة نقد الماضي ونقضه، وخلق دينامية تشحن العمل والخطط والنضال، بفضيلة الخطوة خطوة.. القفز على السلطة فاشل. البراهين متوفرة. التسلل إلى السلطة، على أكتاف عسكر أو طوائف أو مذاهب أو دعم أجنبي خيانة.. الشعب هو مصدر السلطات، إذًا، الشعب يلزم أن يبث الوعي فيه، كي يتحمل مسؤولياته، لأنه مدعو إلى أن يحكم بنفسه على مصيره، ضمن دولة تتصدى للمهمة الصعبة.
لا فوز أبدًا دون مشاركة الشعب وشرائحه كافة.
إذًاً؛ الحزب هو أساس لا العقيدة وحدها. النص أخرس، ينطقه الرجال، ويتحقق بالنضال والوعي والمعرفة والتضحية والتراكم.
إذا كان ذلك كذلك، فيلزم النظر تحديدًا، ببنية الحزب الديمقراطية. لا زعيم بعد زعيم. لا قائد ملهمًا. القيادة تشاركية من فوق إلى القاعدة ومن القاعدة إلى الأعلى. واحدان يلتقيان في مشروع، حقله الدائم، بث الوعي وإنتاجه وتحصينه، وتوفير الظروف لترجمته أفعالًا وإنجازًا.
وعليه، فإن المتوقع، ليس التبشير بالعقائد، بل الالتزام الفعلي بها على قاعدة التعميم لا على قاعدة التأميم. القيادة الحزبية بحاجة إلى أطر ديمقراطية، وإلى حلقات حوار دائم، وإلى تقييم مستدام، وإلى مراجعة دائمة. الحزب ليس غاية أبدًا، هو وسيلة. وعليها أن تنجح من خلال ما تقوم به. هو ما تنجزه شعبيًا. لا تغيير أبدًا من دون الشعب. لا تغيير مستدامًا، إلا إذا كان مصانًا من الشعب، ومنظماته ونقاباته وجمعياته واختصاصات أهله في الإنتاج والمعرفة والعمل.
هذا يعني أن المطلوب أن يبدأ التأسيس من خلال الأهداف العملية، لا النظرية التي تتطلبها حاجات البناء والتغيير. الممارسة فن صعب. الخطابة والكتابة فنان سهلان. يعوّل عليهما كمرجعيتين، ولا يعول عليهما كأدوات إنجاز. الوعي أساس. المعرفة ركن، الهدف غاية، المجتمع أولًا وأخيرًا.
لماذا المنظمات الدينية ناجحة ولو كانت فاسدة؟ لا نجاح يقاس بالعقيدة المقدسة أبدًا، بل بالممارسة والمؤسسات والعلاقات والمنافع. الأحزاب لم تنشئ بعد مرجعية مريحة للشعب أبدًا. الأحزاب تملي ولكنها لا تنشئ أبدًا.. الأحزاب تثرثر ولا تنجز. البرهان: العرب بالأمس واليوم.
لا مفرّ من التنظيم الحزبي، ولكن هذا لا يكفي. الأساس لهذا التنظيم، أن يكون ذا برامج وتحديد أهداف في المجتمع. قلنا، لا تغيير إلا بالمجتمع. أنطون سعادة لم يراهن على سلطة بل على الشعب. فماذا يريد الشعب؟
أولًا؛ أن يشعر أنه مواطن يتساوى بالحقوق والواجبات مع سواه من المواطنين، أي لا تمييز طائفيًّا أو عرقيًّا أو دينيًّا أو عشائريًّا أو عائليًّا.
ثانيًا؛ أن يتحسس الكفاية من عمله المشروع. الكفاية أساس العدالة وهي طريق إلى التضامن الاجتماعي. الظلم مرفوض وممنوع. التخصيص مرفوض. العمل أساس. الإنتاج ضرورة حيوية.
ثالثًا؛ أن يكون مصانًا من أي اعتداء. أي الإنسان أولًا. شعبنا لم يسمع صوته أبدًا. إذ، لا صوت يعلو على صوت السلطة والدين والمال.
رابعًا؛ أن يكون طموح الوحدة متدرجًا، عبر خطط توعية وبرامج عملية. المساواة والحرية تفرضان على القيادات، صيانة الكرامة الإنسانية. الخبز ثمين، إذا كان بعرق الجبين.
أنطون سعادة في الزمن الآتي، يفترض إلغاء الفائت والفاشل والبناء على ما ينبغي تحقيقه، وهو بث الوعي القومي والسياسي والاجتماعي والمعرفي والقيمي والاقتصادي. الوعي الذي يُترجم «مصلحة الأمة فوق كل مصلحة»
خامسًا؛ محاربة كل الأوبئة السياسية: الفساد، السرقة، الدجل، التفلت من العقاب. الرشوة، الواسطة، الزعبرة، التحكم، التكاذب، إلى آخره من موبقات، المواطن كائن حر ومسؤول وعليه أن يحاسب.
سادسًا؛ بث الطموح بالوحدة والنظام السياسي الجديدة وهو نظام ديمقراطي أي نظام لا يتأسس على الديمقراطية، يقود إلى الخراب خراب المؤسسات والمشاريع والغايات وخاصة القضاء. العلة التي تعاني منها الشعوب العربية المظلومة.
سابعًا؛ السعي الدائم لتحقيق جبهات نضالية. تخوض معركة التغيير ومعركة الحرية ومعركة الاقتصاد، ومعركة المواجهة مع الأعداء.
ثامنًا؛ إن مجتمعاتنا في غاية الظلامية، ليست لطبيعة بالناس، بل بفرض وتصميم، عمّمته السلطات النفعية والمنافقة وغير الخاضعة لمساءلة. لا تغيير دون مساءلة ومعاقبة.
تاسعًا؛ الحزب، إن لم يكن مبدعًا للخطط، فسوف يجتر تاريخه أو أفكاره فقط. هذا قمة الإفلاس. إن الخطط تفرض على الحزب، أو الأحزاب الجدية والتغييرية، إنشاء مؤسسات ناجحة. عليها أن تسعى إلى تربية سليمة وتعليم متقدم. من يربح المدرسة يربح مجتمعًا. المدارس عندنا لا تخرّج مواطنين.. الأحزاب مدعوة لإنشاء المؤسسات البديلة دائمًا. مؤسسة الكتاب، ومؤسسة الصحة، ومؤسسة المعرفة، ومؤسسة الإنتاج، ومؤسسة الإعلام. من كسب الإعلام كسب الناس إلى آخره.. الحزب هو دولة الأمة مصغرة، ليس بالكلام بل بالمؤسسات الحزبية- الشعبية.
عاشرًا؛ القوة هي القول الفصل. إذًا، لا بد من بناء قوة رديفة متنامية، من واجباتها الاستعداد الدائم، لخوض معركة التغيير، وصيانة المسيرة. والقوة لا تعني السلاح فقط، بل قوة المعرفة والمواجهة والمنازلة، في السياسة والاقتصاد و..
حادي عشر؛ الحزب يتجنب السياسة الرائجة. بتجنب الأنظمة القمعية. هو مستقل استقلالًا تامًا. واستقلاليته مقدمة لاستقلالية الدولة وسيادتها. إن دينامية الحزب، تقوم على ركائز الإنجاز، وليس على ركاكة الخطب أو صخبها.
ثاني عشر؛ التنظيمات السرية الرديئة، ليوم الحسم أو لزوم الحسم.
أنطون سعادة في الزمن الآتي، يفترض إلغاء الفائت والفاشل والبناء على ما ينبغي تحقيقه، وهو بث الوعي القومي والسياسي والاجتماعي والمعرفي والقيمي والاقتصادي. الوعي الذي يُترجم «مصلحة الأمة فوق كل مصلحة».
أنطون سعادة في الزمن الآتي، هو فكره الذي لا يزال حيًّا، وهذا غير كافٍ أبدًا. المطلوب الإجابة العملية على سؤال: ما العمل؟ وكيف؟ ومتى؟ وبأي أهداف؟
لا أعوّل ولم أعوّل في حياتي على الأقوال، بل على الأفعال، أنطون سعادة فعل قول وفعل. الحزب فصل العقل عن القول، فغاب عن الصراط النهضوي، وهو صراط غير متصل فقط بأعضاء الحزب، بل أساسًا، هو نهضة الأمة بشرائحها الشعبية المتنوعة.
إن تغيير مجتمع، بالثقافة والمعرفة والقدوة والنضال والشفافية، أساس متين، لتغيير الأنظمة الفاسدة، وطرد السلطات الأكثر فسادًا.
ملاحظة أخيرة: قد تثير هذه المعالجة (بأجزائها الثلاثة) ردود فعل حزبية، وهذا ما أرحب به كبابٍ للنقاش، وآمل أن يتحاشى القراء الطعن والسباب والاتهام. فهذا لا يفيد أبدًا. إنه من سقط المتاع.. أدعو إلى النقد دائمًا.. فانقدوني، بلا إهانات. إني أتقبل النقد ولا أعير الشتائم والاتهامات دقيقة من الوقت. قال أنطون سعادة: الحرية صراع، وهذا يفترض التعدد والنقاش.
(*) الجزء الأول بعنوان “أنطون سعادة.. قراءة ما لم يُقرأ“
(**) الجزء الثاني بعنوان “أنطون سعادة شهيداً، من قتله وكيف ولماذا؟“
ـ يُنشر بالتزامن مع مجلة “تحولات” (عدد خاص عن أنطون سعادة).