217.9 تريليون دولار أميركي هي قيمة المبالغ التي تُسيطر عليها ما يُسمّى بـ«بنوك الظلّ» حول العالم، وذلك من أصل 461.2 تريليون دولار من الأموال التي تدور في النظام المالي العالمي. يعني ذلك أنّ حوالي نصف حجم الكتلة النقدية في العالم تدور خارج المصارف التجارية، أي خارج المؤسسات «التقليدية» التي عادةً ما تحتكر ادخّار وتوزيع واستثمار الأموال.
تزايد نفوذ “بنوك الظل”، اللاعب القديم / الجديد في عالم المال، أثار «هلع» المؤسسات العالمية التي تُحذّر منذ سنوات من اتسّاع دوره وإمكانية تسبّبه بأزمات مالية ونقدية، على غرار أزمة العام 2008، بسبب عدم خضوعه للقوانين والضوابط نفسها التي ترعى عمل المصارف التجارية، وعدم السيطرة على كامل عملياته وهوية الزبائن الذين يتعامل معهم. آخر هذه التحذيرات صدرت عن صندوق النقد الدولي. ففي تقريره الأخير في نيسان/أبريل 2024 عن الاستقرار المالي، اعتبر الصندوق أنّه «في حالة الانكماش الحاد، يمكن أن تحصل حالات التخلف عن السداد وخسائر كبيرة (…) وسيكون التأثير محسوساً خارج نطاق المقرضين من القطاع الخاص، بما أنّ صناديق التقاعد العامة والخاصة تقوم أيضاً بضخ الأموال في هذه الصناديق الخاصة (مصارف الظلّ)». اللافت للإنتباه في الموضوع، أنّ من يُحذّر منه صندوق النقد الدولي والخبراء الماليين والمصارف المركزية حول العالم، ليس أداةً «اشتراكية» أو نظاماً مالياً لكسر هيمنة ما. فـ«بنوك الظلّ»، وفق التعريف المالي العالمي، انبثقت من صلب العالم الرأسمالي لتُقدّم نموذجاً جديداً للتمويل وتحديثاً لآليات العمل الرأسمالي لكسب المزيد من الأرباح.
ما هي مؤسسات الظلّ؟
لقب “مصارف الظلّ” أطلقه المدير الإداري السابق لشركة «بيمكو» الأميركية (شركة لإدارة الاستثمارات) بول ماكولي على هذه المؤسسات المالية عام 2007، ولكنّه يعتبر أنّ نظام «بنوك الظلّ» بدأ قبل ذلك بكثير، تحديداً مع تأسيس صناديق الاستثمار المشتركة في أسواق المال خلال سبعينيات القرن الماضي.
بالنسبة إلى صندوق النقد الدولي، تشمل “مصارف الظل”، صناديق الأصول البديلة “التي تجمع المال من المستثمرين المؤسّسين (مثل شركات التأمين، صناديق التحوّط، صناديق الاستثمار العقاري، صناديق التعويضات..) وتُقدّم القروض مباشرة لشركات السوق المتوسطة في الغالب، التي تُعتبر محفوفة بالمخاطر أو كبيرة جداً لتقترض من البنوك التجارية وصغيرة جداً حتى تُدرج في الأسواق العامة»، ولكن حالياً «أصبحت تُقدّم القروض للشركات الكبيرة التي كانت تُموّل نفسها سابقًا عبر المصارف أو القروض المشتركة. ربّما تُفضّل الشركات الكبيرة الإجراءات التي تُرافق الاقتراض من مؤسسات الائتمان الخاص لتجنّب الإفصاح عن العديد من المعلومات». يُحذّر تقرير «الاستقرار المالي العالمي» الصادر عن صندوق النقد، من أنّ هذه المؤسسات “أصبحت مُنافسة لأسواق الائتمان الرئيسية الأخرى (أي المصارف) من حيث الحجم».
غسان ديبة: كل هذا التحرير للأسواق انتهى تراجيدياً بأزمة 2008 الكبرى التي كادت تطيح بالرأسمالية لولا (للمفارقة) تدخّل الدولة والمصارف المركزية حول العالم لإنقاذ الرأسمالية من نفسها. بهذا يكون كينز قد أنقذ الرأسمالية مرتين
ما يُخيف صندوق النقد والقطاع المصرفي أنّ “بنوك الظلّ” باتت تستحوذ على حوالي نصف الكتلة النقدية في العالم، في وقت أنّ المؤسسات التي تعتبر نفسها «حامية الشرعية الرأسمالية» تُريد أن تبقى الكتلة النقدية كاملة مُحتكرة ومُسيطر عليها في مكان واحد يخضع للنُظم والقواعد التي تُحدّدها.
يُعيد أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية – الأميركية، غسان ديبة تصويب النقاش. يعتبر في حديث مع موقع «180 بوست» أنّ المسألة الأساسية في تحليل ظاهرة مصارف الظل «ليس في تعريفها وإنّما في فهم طبيعة دور جميع المؤسسات المالية في ديناميكيات الرأسمالية. هذه الأخيرة تحتاج إلى تمويل الاستثمارات، وخصوصاً في الرأسمال الثابت. كما أنّ تمويل شراء المنازل والقروض الناتجة عنه أصبحت أيضاً أساسية».
يُضيف ديبة أنّ هذا التمويل «يأخذ أشكالاً مؤسساتية محددة من مصارف ومؤسسات مالية، تتضمّن ما يمكن تسميته مؤسّسات الظل التي لا تخضع لتنظيم معين، وهذا التنظيم أيضاً متغير». كيف ذلك؟
يشرح ديبة أنّه في الدول الرأسمالية المتقدمة، وخصوصاً في الولايات المتحدة وبريطانيا في عهدَي رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر، تم تخفيف التنظيم الدولتي كجزء من موجة التخصيص واللبرلة التي اعتبرت أنّ الدولة تعيق عمل الاقتصاد الحرّ، وأنّ هذا الاقتصاد لديه ميكانيزمات أوتوماتيكية تمنع حصول الأزمات. وترافق ذلك مع ثورة مضادة في الفكر الاقتصادي ضد أفكار (الاقتصادي الانكليزي جون مينارد) كينز وتدخّل الدولة التي سيطرت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى السبعينيات. هذا الفكر الاقتصادي أسّس القاعدة الأيديولوجية للنيوليبرالية، وأعطى البُعد العلمي بأنّ الأسواق الحرة ومن ضمنها الأسواق المالية هي مثلى. كل هذا التحرير للأسواق انتهى تراجيدياً بأزمة 2008 الكبرى التي كادت تطيح بالرأسمالية لولا (للمفارقة) تدخّل الدولة والمصارف المركزية حول العالم لإنقاذ الرأسمالية من نفسها. بهذا يكون كينز قد أنقذ الرأسمالية مرتين».
نصف النقد العالمي خارج المصارف
بلغ حجم مصارف الظلّ سنة 2022 حوالي 217.9 تريليون دولار أميركي مقابل 243.31 تريليون دولار لدى القطاع المصرفي «التقليدي»، بحسب التقرير الصادر عن «مجلس الاستقرار المالي – FSB» (هيئة دولية انبثقت عن مجموعة العشرين التي تضم الحكومات والمصارف المركزية من 20 دولة والاتحاد الأوروبي) في كانون الأول/ديسمبر سنة 2023. نسبة مصارف الظلّ انخفضت من 49.8% سنة 2021 إلى 47.2% سنة 2022، ويُعيد الـ«FSB» هذا الإنخفاض إلى «تأثير رفع المصارف المركزية لأسعار الفائدة»، فقد ارتفعت في الوقت نفسه «إجمالي الأصول المالية التي تحتفظ بها البنوك التجارية بنسبة 6.9%». مع الإشارة إلى أنّ هذه الأرقام تستثني بيانات دولة روسيا.
مايكل شيفر: مقهى ستاربكس هو أيضاً من أضخم المصارف. فالناس تنشىء محفظة الكترونية، تُراكم فيها المبالغ، وتدفع بها ثمن القهوة. ستاربكس مؤسسة غير مصرفية، لا يستخدم أموال الناس، ولا يستثمر في سندات الخزينة، ولكنّه أيضا يأخذ أموال العملاء ويفتح لهم حسابات
يُقسّم الـ«FSB» مصارف الظلّ إلى ثلاث فئات:
(1) التعريف الواسع يضمّ كلّ المؤسسات المالية التي ليست مصارف مركزية أو مصارف تجارية أو مؤسسات مالية عامة، ومنها: شركات التأمين، صناديق المعاشات التقاعدية، شركات مالية مُساعدة…
(2) الوسطاء الماليون الآخرون: تضم هذه الفئة المؤسسات المالية الخارجية، صناديق الأسهم، صناديق التحوط، صناديق الاستثمار الأخرى، المؤسسات المالية الأسيرة، مقرضو الأموال، الأطراف المقابلة المركزية، الوسطاء الماليون، شركات التمويل، الشركات الاستئمانية، أدوات التمويل المهيكلة.
(3) التعريف الضيّق لمصارف الظل يشمل المؤسسات المالية التي صنّفتها السلطات المعنية على أنها تقوم بأنشطة الوساطة الائتمانية التي قد تشكل مخاطر على الاستقرار المالي. ويبلغ حجم هذه الفئة: 63.1 تريليون دولار.
لماذا هذا التعريف الواسع؟ «لأنّها جميعاً لا تخضع لنُظم وقواعد العمل المصرفي في تبادل الأوراق المالية وتداول النقد»، يُجيب الممثل السابق للبنك الدولي في ليبيا، وأحد كبار الاقتصاديين السابقين في صندوق النقد الدولي، مايكل شيفر في حديث لموقع «180 بوست». ويُضيف إنّه يندرج أيضاً تحت هذا التعريف المحافظ الالكترونية وكونتوارات التسليف وغيره، «يُمكن أن نقول إنّ مقهى ستاربكس هو أيضاً من أضخم المصارف. فالناس تنشىء محفظة الكترونية، تُراكم فيها المبالغ، وتدفع بها ثمن القهوة. ستاربكس مؤسسة غير مصرفية، لا يستخدم أموال الناس، ولا يستثمر في سندات الخزينة، ولكنّه أيضا يأخذ أموال العملاء ويفتح لهم حسابات».
“مصارف الظلّ”.. لعنة السوق
كيف اندلعت أزمة العام 2008 المالية؟ أقدمت شركات «وول ستريت» غير الخاضعة للتنظيم المصرفي (أو ما يُسمّى بمصارف الظل) على الكثير من الرهانات المحفوفة بالمخاطر والقروض العقارية غير المقرونة بضمانات كافية، الأمر الذي أدّى إلى انفجار «فقّاعة العقارات». ولم يتمّ إيجاد حلّ سوى عبر عمليات الإنقاذ من الحكومة وزيادة القيود والتنظيمات المصرفية. هذه هي رواية المسؤولين والخبراء الماليين لأزمة سنة 2008. بتعميم هذه الرواية، تقوم المؤسسات الحاكمة بـ«تحييد» القطاع المصرفي عن الأزمة، وتظهيره كأحد «المُتلقين» لارتداداتها لا المُشاركين فيها، مقابل تحميل كامل المسؤولية للمؤسسات المالية الرديفة. فبات اليوم الحديث عن مصارف الظلّ يرتبط بأزمة الـ2008 والتخويف من إمكانية تسبّبه بأزمات جديدة، برغم أنّ المصارف ومصارف الظلّ هما وجهان لعملة واحدة.
في هذا الإطار، يُحلّل غسان ديبة أزمة 2008 التي تُمكّننا من فهم «دور المؤسسات المالية في إحداث الأزمات في الرأسمالية، وبالتالي الحاجة الى تنظيمها». فبعد تحرير الأسواق المالية في الثمانينيات الماضية، «تمّ استحداث أدوات مالية جديدة، مثل المشتقات المالية، وزاد التداول والاستثمار بها بشكل كبير. كما تمّ تحويل القروض الحقيقية، كقروض المنازل في الولايات المتحدة، إلى مشتقات مالية، مع تقسيمها وتحويلها إلى أدوات استثمار، تم الاستثمار بها من قبل كبرى المؤسسات المالية في العالم. عندما انهارت الأسواق العقارية في الولايات المتحدة، تبخّرت قيم هذه المشتقات وتدحرجت كرة الثلج المالية الى أن وصلت الأسواق المالية الى حالة التجمّد، وانهارت مؤسسات مالية كبرى مثل ليمان بروذرز، مما استدعى في النهاية بإلقاء الأفكار النيوليبرالية جانباً، وتدّخلت الدول بالسياسات المالية والنقدية لإنهاء الأزمة. وفي صلب هذه الديناميكية هو بحث الرأسمال المالي عن الأرباح عبر هذه الاختراعات المالية».
شجّع التنظيم المصرفي الأكثر صرامة في «هجرة» المال من المصارف إلى شركات الائتمان الخاصة، وتمّ تحفيز المُستثمرين، كشركات التأمين وصناديق التعويضات والمعاشات، على الانتقال إلى بنوك الظلّ بسبب تقديمها عوائد أعلى وشروط أقلّ
هروب من تقييدات المصارف
الانهيار المالي سنة 2008، دفع الجهات الرقابية إلى إدخال «إصلاحات تنظيمية» إلى عمل المصارف، كزيادة متطلبات رأس المال، والتشدّد في إصدار القروض، مقابل الاحتفاظ بأصول أكثر «أماناً». ترافق ذلك مع تخفيض أسعار الفائدة لتحفيز النمو. فاستفادت مؤسسات التمويل الخاصة، أو مصارف الظلّ، من الوضع الجديد.
شجّع التنظيم المصرفي الأكثر صرامة في «هجرة» المال من المصارف إلى شركات الائتمان الخاصة، وتمّ تحفيز المُستثمرين، كشركات التأمين وصناديق التعويضات والمعاشات، على الانتقال إلى بنوك الظلّ بسبب تقديمها عوائد أعلى وشروط أقلّ.
ليست قواعد العمل المصرفي وحدها السبب في زيادة شعبية بنوك الظلّ. ففي أكثر من محطة، برهنت أنّها قادرة ومُستعدة على أن تلعب دور «الملاذ الأخير» الحقيقي للشركات ورجال الأعمال والمُستثمرين الذين بحاجة إلى النقد. خلال انتشار وباء «كورونا»، أزمة منطقة اليورو، الحرب الروسية – الأوكرانية والأزمة الاقتصادية الناتجة عنها، وغيرها من الخضّات العالمية، واصلت مصارف الظلّ الإقراض في حين لجأ القطاع التقليدي إلى تقليص الإنفاق ورفع الفائدة لامتصاص السيولة وضبط التضخّم في السوق، الذي لم يُضبط ولم تنفع معه إجراءات الكُتب. كتب نائب الرئيس التنفيذي لـ«اتحاد إدارة الاستثمار البديل (AIMA)»، جيري كرول إنّه «بدلًا من أن يكون القطاع البديل قناةً تؤدّي إلى تعزيز المخاطر المالية، أثبت أنّه مسار حيوي لامتصاص الصدمات داخل الاقتصاد». وقد صدرت دراسات تُبرهن أنّ مصارف الظلّ «قد تكون مفتاحاً لتخفيف الضرر في حال ظهور أزمة سيولة تتسبّب بها البنوك التقليدية مُستقبلاً».
«كلّ الحقّ على مصارف الظلّ»
كلام المُختصين بقطاع التمويل البديل لا يُقنع المؤسسات التقليدية وخبرائها. مثالٌ على ذلك تقرير صندوق النقد الدولي الذي يعترف بأنّ «الائتمان الخاص يخلق فوائد اقتصادية كبيرة من خلال توفير التمويل طويل الأجل للشركات»، ويُقرّ بأنّ تقييم المخاطر الشاملة للاستقرار المالي نتيجة بنوك الظلّ «يُمثّل تحدياً نظراً لعدم توفّر البيانات اللازمة»، إلا أنّه يُصرّ على أنّ «هجرة الائتمان من البنوك المُنظّمة والأسواق العامة الشفّافة نسبياً إلى عالم الائتمان الخاص الأكثر غموضاً يخلق مخاطر محتملة». لم يسبق أن نما السوق البديل بهذه النسبة من قبل، ولذلك يعتبر صندوق النقد أنّ «مثل هذا السيناريو المعاكس (في هجرة الائتمان من المصارف التقليدية إلى السوق البديل)، يُمكن أن يشهد تأخيراً في تحقيق الخسائر يعقبه ارتفاع كبير في حالات التخلّف عن السداد وتخفيضات كبيرة في التقييمات».
تحذيرات غير مُستندة إلى أدّلة كافية، ولكن دافعها واضح في تقرير صندوق النقد: «نظراً لحجم الائتمان الخاص ودوره في خلق الائتمان، الذي أصبح الآن كبيراً بما يكفي للتنافس بشكل مباشر مع الأسواق العامة، فقد يؤدّي إلى تضخيم الصدمات السلبية التي يتعرّض لها الاقتصاد».
يُمكن الاستنتاج إذاً أنّ «التهديد» الذي يُشكّله قطاع رأسمالي جديد ولكن غير مضبوط بشكل كامل، هو لا يُعجب صنّاع القرار؟ يقول مايكل شيفر إنّه برغم أنّ صناديق التحوط، وشركات التمويل، وشركات الائتمان والاستثمار، وغيرها هي جزء من النظام المالي العالمي «الشرعي»، وتخضع للرقابة والتنظيم، ولكنها «تتسبّب بمخاطر منهجية (أي المخاطر المرتبطة بالاستثمار في السوق ككل)، خصوصاً أنّ الاحتياطي الفيدرالي غير قادر على التدخّل في حال حصول مشكلة». في النظام المصرفي التقليدي، «على الأقل هناك تنظيم ونظام عمل أكثر شفافية». النقطة الأساسية بالنسبة إلى شيفر تكمن «في كيفية إدارة المخاطر، سواء أكان ذلك في شركة نفط أو في الخدمات المصرفية أو في أي قطاع». إنطلاقاً من هنا، «يجب أن يكون هناك قدر مُعيّن من التنظيم، وتحميل المسؤولية للمساهمين».
لا يُمكن الحديث عن قطاع ظلّ فعّال في لبنان، يُشكّل مُتنفسّاً للاقتصاد أو مصدراً لضخّ الاستثمارات. إذ ليس من السهل إقناع صندوق استثماري أو مؤسسة بتمويل إنشاء أعمال جديدة، وإن وُجد ذلك، يبقى في الإطار الفردي الضيّق
المصارف التجارية شريكة مصارف الظلّ
كلّ التحذيرات من مخاطر الائتمان الخاص لم تمنع المصارف التجارية من التعاون معها. يشرح الاقتصاديان الأميركيان، غاري غورتون وأندرو ميتريك في ورقة بحثية لهما أنّه نظراً لأنّ البنوك التقليدية «واجهت مُنافسة شديدة من المؤسسات المالية غير المصرفية، فقد سعت إلى محاولة الحصول على فرص ربح جديدة في الخفاء»، عن طريق توفير القروض للمؤسسات غير المصرفية والمشاركة في أنشطة الادخار غير المُنظمة، لإخفاء أموال خارج ميزانيتها العمومية، وبالتالي التحايل على الأنظمة التي تُجبرها على زيادة رأس المال.
يُقرّ تقرير صندوق النقد بوجود هذه العلاقة. يضعها في إطار الصلات المتنوعة لصناديق الائتمان الخاصة مع المؤسسات المالية، ومنها البنوك التجارية التي «تُعدّ المصدر الرئيسي للديون التي تحصل عليها صناديق الائتمان الخاصة». ويُحذّر صندوق النقد من هذه العلاقة، مُعتبراً أنّ «المخاطر المحتملة على الاستقرار المالي الناجمة عن تعرّض البنوك المباشر للائتمان الخاص قد تم احتواؤها في الوقت الحالي، لأنّ حجم المبالغ المتبادلة لا يزال مُنخفضاً». ففي نهاية العام 2021، «اقترضت صناديق الائتمان الخاصة في الولايات المتحدة نحو 200 مليار دولار من البنوك الأميركية، ما يمثل أقل من 1 في المائة من أصول البنوك (الاحتياطي الفيدرالي 2023)».
العلاقة بين المصارف وقطاع الظلّ ليس فقط تعاون بين مؤسستين مُختلفتين، بل إنّ العديد من المؤسسات الاستثمارية غير المصرفية هي مملوكة وتابعة للبنوك الكبرى، التي تُنشأ وتستخدم هذه المؤسسات لتمويل الاستحواذ على الأصول (الرهون العقارية، قروض السيارات، وغيرها..) عن طريق إصدار أوراق مالية مدعومة بالأصول يتم بيعها للمستثمرين في أسواق رأس المال. هذا الشكل التنظيمي، يسمح للمصارف بزيادة حجم عملياتها الإجمالية من دون زيادة ميزانيتها العمومية، وبالتالي الهروب من زيادة رأسمالها التنظيمي، مع الاستمرار في مراكمة الأرباح.
«مصارف ظلّ» أوكسيجين الاقتصاد اللبناني
منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019، توقّفت المصارف التجارية اللبنانية عن أداء دورها في الاقتصاد. فلم تعد تُقدّم القروض لطالبيها، ولا تُوفّر السيولة بالدولار الأميركي، وتُقيّد حركة الحسابات بالليرة اللبنانية، ولا تُساهم في استقرار الأسواق. بعد خمس سنوات من الانهيار المالي والنقدي والاقتصادي والاجتماعي، لم يعد للمصارف فعلياً أي دور في المجتمع. عملها يقتصر على فتح حسابات مصرفية جديدة بالدولار الأميركي (لمن يجرؤ) واستقبال رواتب العاملين في القطاعين العام والخاص، وتقنين السحوبات من الحسابات الجارية. لا قروض ولا استحقاقات ولا استثمارات.
من يؤدّي دور المصارف لبنانياً؟ هل من «مصارف ظلّ» محلية؟
لا يُمكن الحديث عن قطاع ظلّ فعّال في لبنان، يُشكّل مُتنفسّاً للاقتصاد أو مصدراً لضخّ الاستثمارات. إذ ليس من السهل إقناع صندوق استثماري أو مؤسسة بتمويل إنشاء أعمال جديدة، وإن وُجد ذلك، يبقى في الإطار الفردي الضيّق. رفض تقديم التمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، ومعاناة المؤسسات الكبرى في الحصول على النقد، يتعلّق أساساً بغياب المصارف، وبعدم وجود استقرار سياسي ومالي. أما ملاحظة ازدياد عدد المطاعم والنوادي الليلية في وسط بيروت تحديداً، فلا يعني نشاط الاقتصاد وتفعيل القطاعات المُنتجة.
يوجد في لبنان مؤسسات مالية رديفة تعمل تحت رقابة ووصاية مصرف لبنان وهيئة الأسواق المالية، إلا أنّها لا تُشارك فعلياً بضخ التمويل والقروض في الاقتصاد المحلي، بل تُركّز على الاستثمار في الأسواق المالية خارج لبنان، كمؤسسات الوساطة المالية. يُمكن الحديث أيضاً عن كونتوارات التسليف، المحافظ الالكترونية، شركات استثمار الأوراق المالية. عدد من «مؤسسات الظلّ» هذه باتت تُقدّم للزبائن خدمات كانوا يحصلون عليها من المصارف، أبرزها إصدار بطاقات مُسبقة الدفع وتوطين الرواتب.. أما مؤسسة «القرض الحسن»، التي فرضت عليها الولايات المتحدة عام 2007 عقوبات وتقوم بإقراض المال بضمانة الذهب، فيُمكن اعتبارها «مصرف ظلّ» عن حقّ، يفتح الحسابات ويُوفّر القروض من دون دفع الفوائد، من دون أن تربطه أي نوع من العلاقة مع الحكومة أو مصرف لبنان.
ريتشارد بوكستابر: المؤسسات المالية البديلة ما تزال تنمو، ومن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن يتم تنظيمها لأن هذا يتناقض مع أسس الرأسمالية. فإلى حدّ بعيد، يُمكن القول إنّ الرأسمالية أتت بكينز بعد أزمة 2008 لإنقاذها، ثم أعادته إلى قبره
الأزمة أظهرت نوعاً جديداً من مصادر التمويل «وتحقيق الاستقرار» النقدي في السوق محلّ المصارف، هم الصرّافون. بغياب المصارف، أصبح الصرّافون هم شركاء مصرف لبنان في السوق. يحصلون منه على الليرات، ويشترون بها الدولارات من السوق. كما يتدخلون لسحب الليرات وضخ الدولارات، بمبالغ ضخمة، منعاً لأي لعب بسعر الصرف ورفعه فوق الـ90 ألف ليرة للدولار الواحد. مقابل ذلك، يحصل الصرّافون على عمولة. ولكن لأنّهم ليسوا مصرفاً برغم قيامهم بدورها، وقّعوا «شراكات وهمية» مع 3 مصارف تجارية، يُشاركونها العمولة، حتى تكون هي «شكلياً» أداة مصرف لبنان في ضخ وسحب العملة من السوق وتحقيق الاستقرار. هناك دور آخر يلعبه الصرّافون، وبينهم «الشرعيون»، ويتمثل في تحولهم إلى «مرابين» يُقدمون القروض للشركات الكبيرة ورجال الأعمال، لقاء فائدة شهرية بمعدّل 5%.
الحاجة إلى مال يُنتج المال
في نهاية الأمر، مصارف الظلّ هي طريقة السوق في البحث عن طريقة جديدة لخلق المال والأرباح. يُعلّق غسان ديبة على الموضوع بالعودة إلى ما قاله المصرفي الأميركي ريتشارد بوكستابر في كتابه «شيطان من تصميمنا»: «لقد لاحظ كارل ماركس أنّ النظام الرأسمالي بحاجة إلى توسّع دائم للأسواق من أجل المحافظة على الربح. من أجل أن تنجح الرأسمالية عليها أن تتقدّم إلى الأمام عبر تطوير منتجات جديدة أو فتح الأسواق في المستعمرات المتخلّفة. الابتكار يخلق منتجاً جديداً يسبق الأسواق، أما التوسّع الخارجي فيؤمّن الأسواق للمنتجات الحالية. إن النظرة الماركسية تنطبق حرفياً ومجازياً في آنٍ على الرغبة في الابتكار في المنتجات المالية». ويضيف بوكستابر أنّ «المستثمرين في سندات القروض الطويلة الأمد كانوا سوقاً متخلّفة بالمعنى الماركسي وكان من السهل استغلالهم من الذين كانوا يستطيعون أن يستعملوا النماذج المعقّدة والخبرات المُتخصّصة وطوّروا مشتقّات مبنية على قروض المنازل. كان كلّ ابتكار يضيف تعقيداً للأسواق لسبب بسيط وهو أن التعقيد كان يُباع». إذاً، يقول ديبة، «المؤسسات المالية في الرأسمالية تبحث عن الابتكار من أجل الربح. وفي ظلّ توسّع هذه الأسواق (مصارف الظلّ) لتحتوي على حوالي 217 تريليون دولار، فإنّ الاقتصاد الحقيقي لم يعد كافياً لتحقيق الأرباح، هي أصبحت بحاجة إلى المال الذي ينتج المال. وهنا يأتي دور العمليات التنظيمية لكبح جماح الأسواق. ولكن لديها معضلة أساسية، سبق أن أطاحت بالكينزية، وهي التوفيق بين التنظيم وبين الربح الرأسمالي. ولكن أيضاً للمفارقة، فإن هذه المؤسسات المالية البديلة ما تزال تنمو، ومن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن يتم تنظيمها لأن هذا يتناقض مع أسس الرأسمالية. فإلى حدّ بعيد، يُمكن القول إنّ الرأسمالية أتت بكينز بعد أزمة 2008 لإنقاذها، ثم أعادته إلى قبره».