“الكومنولث” إرث إليزابيث.. عالم ما بعد الإمبراطورية!

منى فرحمنى فرح13/09/2022
خلال العقود السبعة التي قضتها في الحكم، استطاعت ملكة بريطانيا، إليزابيث الثانية، أن تنجو سياسياً. وفي حين أنها تبنت "الكومنولث" لإعادة تأكيد نفوذ المملكة وقيادتها بعد سقوط "الإمبراطورية" وتضاؤل قوتها، غير أن ذلك ساهم في تقليص النفوذ الملكي باستقلال الكثير من "عوالم الكومنولث". ومن المفارقات الأخرى، أن الخروج من الاتحاد الأوروبي قد يؤدي إلى تفكك كيان آخر كان قريباً من قلب الملكة: اتحاد المملكة المتحدة، بحسب فيليب مورفي (*). 

كان عهد الملكة إليزابيث مميزاً من ناحية نطاقه الجغرافي وامتداده الزمني. فحتى لحظة وفاتها، كانت تحكم 15 مما يسمى بـ”بقايا عوالم منظمة الكومنولث”، بما في ذلك كندا وأستراليا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة، وبلدان في منطقة البحر الكاريبي والمحيط الهادئ؛ أو ببساطة “الكومنولث البريطاني”، الذي حافظت على سيادتها عليها. وطوال فترة حكمها، كانت أيضاً رئيسة دستورية لـ 32 دولة مستقلة في جميع أنحاء العالم. ففي عام 2021، انضمت بربادوس إلى 16 ولاية أخرى، بما في ذلك سيلان، وغانا، وباكستان، وترينيداد وتوباغو، والتي قضت خلال فترة حكمها فترة كعوالم كومنولث مستقلة قبل الانتقال إلى الجمهوريات.

هذه التغييرات هي في حد ذاتها أعراض التحولات التكتونية التي حدثت في الوضع الجيوسياسي للمملكة المتحدة تحت إشراف الملكة إليزابيث. عند تتويجها، في عام 1952، كانت البلاد لا تزال تنعم بوهج الانتصار الذي حققته في الحرب العالمية الثانية. وكانت الملكة محاطة من قبل رئيس وزرائها الأول، ونستون تشرشل، وغيره من مهندسي انتصار الحلفاء على ألمانيا النازية، الذين كانوا يأملون في أن يبشر عهدها بعصر ذهبي جديد للقيادة البريطانية العالمية. لكن، ما حدث على مدى العقدين التاليين كان العكس تماماً: فقد فقدت المملكة المتحدة معظم ما تبقى من إمبراطورية كانت تسيطر على ربع مساحة الكرة الأرضية، وتسببت الحرب بتدهور الوضع الاقتصادي وأثرت على الجنيه الإسترليني كعملة دولية رائدة (…). وأمام صراع الأقطاب الذي نشأ بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، تراجع دور المملكة على نحو متزايد، وبدت غير واثقة ما إذا كان مستقبلها يرتبط بأوروبا أو بالحلف الأطلسي.

في دعمها للكومنولث، أظهرت الملكة مهارتها الكبيرة في إعادة اختراع النظام الملكي لعالم ما بعد الإمبراطورية وفي الوقت نفسه أظهرت أيضاً حدود النفوذ الملكي

ولكن بعد ذلك كان هناك “الكومنولث”. بالنسبة لمعظم المراقبين، كانت هذه المنظمة الفضفاضة أكثر بقليل من الانطباع الخافت الذي تركه تفكك الإمبراطورية البريطانية على العالم. لكن في الواقع، كان تاريخه أكثر تعقيداً ووظيفته أكثر أهمية. بالنسبة للملكة، أصبح “الكومنولث” بمثابة مهمة رئيسية، وطريقة لإعادة تأكيد نفوذ المملكة وقيادتها في مواجهة سقوط مستعمراتها وتضاؤل قوتها العسكرية والاقتصادية. ففي أفضل حالاته، عمل “الكومنولث” على تشكيل السياسة الخارجية البريطانية، بل وحتى تضخيمها. ومن بين التحديات التي تواجه الملك تشارلز الثالث الآن العمل على ضمان بقاء هذا الكيان في وقت يبدو فيه النظام الملكي نفسه كمفارقة تاريخية عفا عليها الزمن، حتى كرمز.

الحفاظ على القصر

بالنسبة للعديد من المراقبين، كان تعلق الملكة بـ”الكومنولث” ودفاعها المتكرر عنه مثيراً للفضول. ففي حين كان  “الكومنولث” بالنسبة لكثيرين بالكاد مرئياً، كانت الملكة واحدة من الأشخاص القلائل الذين كانوا يتعاملون مع كلمة “الكومنولث” كما لو كان لها وجود مادي واضح في العالم (…). ولفهم تعلق الملكة به، من الضروري معرفة كيف تطور، والدور المحوري الذي لعبته عائلة وندسور في الإمبراطورية البريطانية التي سبقت وجوده.

كان الإرث الإمبراطوري للمملكة المتحدة هو الذي شكَّل حكم إليزابيث منذ البداية. ولطالما أشار معلقون؛ مراراً وتكراراً؛ إلى التعهد الذي قطعته خلال زيارتها إلى جنوب إفريقيا، في يوم عيد ميلادها الحادي والعشرين، في العام 1947. يومها توجهت بكلامها إلى الأمة، قائلة: “سأكرّس حياتي كلها، سواء كانت طويلة أو قصيرة، لخدمتكم وخدمة عائلتنا الإمبراطورية العظيمة التي جميعنا ننتمي إليها”. وكما قال المؤرخ ديفيد إدجيرتون مؤخراً، فإن المملكة المتحدة لم تكتسب زخارف الأمة الحديثة إلا في النصف الثاني من القرن العشرين. قبل ذلك، كانت العائلة المالكة في ذروتها، وتعكس الطبيعة الطبقية للمجتمع البريطاني.. في تلك المرحلة، وعلى الرغم من أن المملكة المتحدة قد تخلت بالفعل عن إمبراطوريتها في جنوب آسيا، ظلَّ مسؤولون بريطانيون يتوقعون أن تبقى معظم الأراضي الاستعمارية المتبقية تحت السيطرة البريطانية لعقود مقبلة. وعندما اتضح أن هذا لن يحدث، احتاجت الملكة إلى طريقة جديدة للحفاظ على الدور المركزي للعائلة المالكة داخل الدولة البريطانية وخارجها. وجاءت الإجابة السريعة والجذابة في فكرة “منظمة الكومنولث”.

في الواقع، كان “الكومنولث” قد تشكل بالفعل منذ أوائل القرن العشرين. فخلال فترة الحروب، أعلنت الأجزاء المتمتعة بالحكم الذاتي في الإمبراطورية البريطانية (أستراليا وكندا وإيرلندا الحرة ونيوفاوندلاند ونيوزيلندا وجنوب إفريقيا) استقلالها الدستوري عن المملكة المتحدة، وتم تطبيق مصطلح “الكومنولث”، الذي تمت صياغته لأول مرة في ثمانينيات القرن التاسع عشر، بشكل متزايد على هذه المجموعة. وجاءت الحرب العالمية الثانية لتختبر حدود استقلال هذه الدول عن السيطرة البريطانية، حيث ظلت الدولة الإيرلندية الحرة (غادرت الكومنولث في عام 1949) على الحياد، بينما ترددت جنوب إفريقيا كثيراً قبل أن تدخل الصراع إلى جانب الحلفاء (في البداية كانت متعاطفة مع ألمانيا). بعد الحرب، انضمت الهند وباكستان إلى “الكومنولث”. وفي عام 1949، سُمح للهند بالبقاء في “الكومنولث” كجمهورية، وبالتالي إزالة العامل الوحيد الذي كان يجمع الدول الأعضاء معاً حتى الآن: الولاء المشترك للتاج. تضمنت الاتفاقية اعتراف الهند بالملك جورج السادس، ليس كحاكم لها بل كـ”رئيس للكومنولث”.

بالنسبة للملكة إليزابيث، التي اعتلت العرش بعد ثلاث سنوات، ستكون هذه الاتفاقية وسيلة لتحديث النظام الملكي. فهي، وعلى عكس والدها الذي ندم كثيراً على فقدان لقب إمبراطور الهند، فقد تبنت ظهور “الكومنولث الجديد” الذي بشر به استقلال الهند. وعلى سبيل المثال، قرر قصر باكنغهام أخذ مسافة من الجهود العقيمة التي بذلها رئيس الوزراء البريطاني السابق أنتوني إيدن، الذي سعى للإطاحة بالزعيم المصري جمال عبد الناصر خلال أزمة قناة السويس في عام 1956 بسبب مناهضته للإستعمار البريطاني في إفريقيا والشرق الأوسط. في الوقت نفسه، أوضحت الملكة أنها لا تشعر بأي إستياء تجاه أي من القوى السياسية التي دفعت المستعمرات البريطانية في إفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي نحو السعي للحصول على استقلالها في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. ويبدو أن الملكة أيدت تماماً التفسير “الرسمي” بأن إستقلال المستعمرات كان النتيجة الطبيعية للوصاية البريطانية المستنيرة (على الرغم من حقيقة أن المملكة المتحدة، وفي وقت مبكر من حكم الملكة إليزابيث، شنَّت سلسلة من الحملات الوحشية لمكافحة التمرد في قبرص وكينيا وملايو).

أصر قصر باكنغهام، طوال فترة حكم الملكة، على أن حركات الاستقلال في المستعمرات هي نتيجة طبيعية للوصاية البريطانية المستنيرة

في السنوات الأخيرة، تكهن العديد من المحللين بشأن ما يمكن أن يحدث في “العوالم المتبقية” من “الكومنولث” بعد وفاة الملكة. لكن التغيير كان قد بدأ بالفعل في السنوات الأخيرة من حكمها، وتحديداً في منطقة البحر الكاريبي مع قرار بربادوس بالتخلي عن النظام الملكي والتحول إلى جمهورية في عام 2021. ويبدو أن أنتيغوا وبربودا وجزر الباهاما وبليز وجامايكا ستتبعها على الأرجح. ومع ذلك، وطوال فترة حكم الملكة، ظلَّ قصر باكنغهام مصراً على أنه لا يمكن للتغييرات السياسية التي تحدث في ممالكها أن تُحرجها كملكة دستورية، طالما أن هذه التغييرات حدثت وتحدث بوسائل دستورية. وأن كل ما كان يهمها هو أنهم ظلّوا جزءاً من “الكومنولث”. ومن هنا يمكن القول إن الزيارة التي قام بها الأمير تشارلز (الملك الحالي) إلى باربادوس، لتمثيلها في الحفل الذي أُقيم بمناسبة انتقال البلاد إلى جمهورية، كانت بالفعل إشارة قوية على استمرارية وجودها كملكة دستورية.

إقرأ على موقع 180  "الباروميتر العربي": نسبة مؤيدي حزب الله في لبنان.. تتزايد!

قليل من الإمبراطورية كثيرٌ من الأصدقاء

الجدير بالذكر أن الملكة أليزابيث حوَّلت لقب رئيس “الكومنولث”؛ وهو بناء دبلوماسي أُستحدث لإبقاء الهند الديموقراطية في الفلك البريطاني؛ إلى شيء واقعي وملموس أكثر. وقد فعلت ذلك من خلال سلسلة ثابتة من التراكمات التدريجية على مدار فترة حكمها: فقد زارت جميع الدول الأعضاء في “الكومنولث” تقريباً، ودعمت دورة ألعاب “الكومنولث” وخدمة يوم “الكومنولث” السنوية التي أُقيمت في وستمنستر آبي، وحضرت اجتماعات لا حصر لها مع رؤساء حكومات، وجعلت القصر الملكي “مالبورو هاوس” بمثابة “مقر” لـ”الكومنولث”. بالإضافة إلى ذلك، عزَّزت الدور الدبلوماسي التقليدي للملوك الأوروبيين من خلال حرصها على المشاركة في معظم زيارات الدولة (الداخلية والخارجية)، تنمية العلاقات الشخصية الدافئة مع العديد من قادة “الكومنولث” (امتدت أحياناً عبر أجيال). وبذلك، استطاعت الملكة أن تُخفف من وطأة فقدان المملكة المتحدة لموقع “الإمبراطورية”، وفي الوقت نفسه كسبت أصدقاء في جميع أنحاء العالم (…).

ومنذ أن تحوّلت الإمبراطورية البريطانية إلى “كومنولث متعددة الأعراق والثقافات والأديان”، سعت الملكة إلى محاكاة كل هذا التنوع داخل المملكة المتحدة. فقد اهتمت بلقاء مختلف الجماعات الدينية والأقليات العرقية في البلاد، وكانت أول ملكة بريطانية تزور مسجداً إسلامياً في المملكة. كما أنها جاهدت لجعل المملكة المتحدة مكاناً أكثر ترحيباً بالوافدين الجُدد (…).

إليزابيث الثانية كانت مرجعاً ومدرسة لما يجب أن يكون عليه الملك الدستوري في الشؤون المحلية والدولية: فوق السياسة الحزبية

في الوقت نفسه، كانت نهاية الحرب الباردة تعني أن “الكومنولث” قد فقد قيمته كطريقة للحكومة البريطانية للحفاظ على قنوات اتصال ودّية مفتوحة مع البلدان التي ربما كانت معرضة لخطر الوقوع تحت النفوذ السوفياتي. في السنوات الأخيرة، تعثرت محاولات إعادة اختراع “الكومنولث” كمنظمة “قائمة على القيم”، لأسباب ليس أقلها أن العديد من الدول الأعضاء لم تفِ بمعايير “الكومنولث” المزعومة بشأن قضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان. إن ضعف القيادة وتزايد الشكوك حول قيمة أنشطة المنظمة يعني أنه، على نحو متزايد، تميل إلى اعتبارها جديرة بالإهتمام فقط إذا كان للقصة زاوية ملكية. منذ تسعينيات القرن الماضي، بدا النظام الملكي بشكل متزايد وكأنه نظام يدعم الحياة في دول “الكومنولث”. ومن هنا جاء القرار في 2018 بتعيين تشارلز رئيساً لها. وإذا انهارت المنظمة في نهاية المطاف، فسيكون ذلك على الرغم من أفضل الجهود التي تبذلها الملكة.

حدود النفوذ الملكي

في دعمها لـ”الكومنولث”، أظهرت الملكة مهارتها الكبيرة في إعادة اختراع النظام الملكي لعالم ما بعد الإمبراطورية. ومع ذلك، فهي؛ ومن خلال قيامها بذلك؛ قد أظهرت أيضاً حدود النفوذ الملكي. ربما لا يكون النظام الملكي، بطبيعته، الإطار الدستوري الأفضل للتشجيع على إقامة مجتمعات أكثر مساواة. أضف إلى ذلك أن المملكة المتحدة لا تزال منقسمة بشدة، وبرغم أنها اليوم أقل طبقية بكثير مما كانت عليه قبل 70 عاماً، يمكن القول إن المشكلة الأكبر تكمن في أن الملكة تميل إلى تقديم علاقات المملكة المتحدة مع الدول الأعضاء في “الكومنولث” على أنها سلعة عالمية، في حين أنها لم تبذل أي جهد شخصي مُستدام مماثل للتوفيق بين المملكة وعضويتها في الاتحاد الأوروبي، برغم الروابط القوية بين العائلة المالكة وأوروبا. بالطبع، كانت عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي مثيرة للجدل السياسي. وهكذا كان حال استمرار “الكومنولث”. لقد ظلَّت الملكة محايدة طوال فترة النقاشات والاستفتاء حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016 (…).

ومن المفارقات الأخرى أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد يؤدي إلى تفكك كيان آخر كان قريباً من قلب الملكة: اتحاد المملكة المتحدة. لقد أعطى الطلاق من بروكسل زخماً جديداً لحركة الاستقلال الاسكتلندية (غالبية الاسكتلنديين صوتوا ضد مغادرة الاتحاد الأوروبي). كما أنشأت أيضاً حدوداً جديدة للاتحاد الأوروبي عبر جزيرة ايرلندا، ما أدَّى إلى منح ايرلندا الشمالية وضعاً خاصاً قد يشجع بدوره على تكامل أوثق بين شمال الجزيرة وجنوبها، وعلى إعادة التوحيد بين بلفاست ودبلن. ولكن إذا بدأ ندم الجمهور البريطاني على قرار مغادرة الاتحاد الأوروبي، فلا يمكن القول إن اللوم يقع على عاتق الملكة. لقد كانت من جميع النواحي تقريباً عبارة عن حالة ومرجع ومدرسة لما يجب أن يكون عليه الملك الدستوري في كل من الشؤون المحلية والدولية: أي أن يكون فوق السياسة الحزبية.

– النص بالإنكليزية على موقع “فورين أفيرز“.

(*) فيليب مورفي، مدير قسم التاريخ والسياسة في معهد البحوث التاريخية في لندن، ومؤلف كتاب “الملكية ونهاية الإمبراطورية: بيت وندسور، والحكومة البريطانية، وكومنولث ما بعد الحرب“.

Print Friendly, PDF & Email
منى فرح

صحافية لبنانية

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  مَن يحسُم الحرب.. فاليري الروسي أم فاليري الأوكراني؟