تم الإحتفاء بأحد مهندسي إستراتيجية العقوبات على روسيا، بإعتباره قد نجح في “اختراق اقتصاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المضاد للعقوبات”. ووُصفت العقوبات، ومعها النكسات الروسية في ساحة المعركة، بأنها رد فعل قويّ زاد من احتمالات أن تنتصر أوكرانيا، وزادت أيضاً فرص تغيير النظام في موسكو.
ولكن على الرغم من اختراق روسيا في حصنها، إلَّا أنها لم تنهار ولم تستسلم حتى الآن. فضوابط رأس المال ورفع أسعار الفائدة من قبل الحكومة ساعدا في تجنب الأزمة المالية وانهيار الروبل. وبعد التراجع الأولي، تعافى إنتاج النفط الروسي وصادراته، مدفوعاً بزيادة ملحوظة في المشتريات من الصين والهند ودول آسيوية أخرى. كما أن البطالة لا تزال عند مستويات يمكن السيطرة عليها. التوقعات طويلة الأجل تقول إن الركود الاقتصادي سيعمّ في روسيا. ومع ذلك، سيكون الركود أقل كارثية مما تخيله كثيرون في البداية: فالبنك المركزي الروسي يتوقع الآن انكماشاً “أطول أمداً، وأقل عمقاً”.
من سيتحمل تكاليف الحرب الاقتصادية بشكل رئيسي هي الاقتصادات الأضعف في دول الجنوب
ومع ذلك، إذا لم تتحقق الآمال الغربية الأكثر تفاؤلاً بالعقوبات، فإن التنبؤ المعاكس؛ بأن العقوبات سيكون لها عواقب وخيمة على الدول التي تفرضها؛ تبين أيضاً أنه غير دقيق. وقد ثبُتَ أن التحذيرات من أن العقوبات من شأنها أن تُسرع من زوال الدولار الأميركي كعملة احتياطية في العالم وتؤدي إلى تفكك الاقتصاد العالمي، كلها غير صحيحة. فالدولار اليوم أقوى من ذي قبل، والتدفقات التجارية ظلَّت مستقرة على نطاق واسع.
وللحد من تعرضها للعقوبات الأميركية وسياسة أسعار الفائدة، تستخدم دول مثل البرازيل والصين والهند وتركيا والإمارات العملات الإقليمية في التجارة الثنائية بشكل متزايد. ومع ذلك، لم يؤثر ذلك على جاذبية الدولار كعملة احتياطية. أضف إلى ذلك، أن تخفيض شحنات الغاز الروسي إلى أوروبا “سلاح لا يمكن استخدامه إلَّا مرة واحدة”. فحظر الغاز الذي يفرضه الكرملين سيشجع في النهاية على التنويع والتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، مما سيعزز أمن الطاقة في المنطقة بدلاً من إضعافه.
أفضل ما يمكن أن نأمل فيه هو أن يؤدي الحرمان الاقتصادي إلى جعل نظام بوتين غير قادر مادياً على مواصلة الحرب
هناك تشابه ملحوظ بين التوقعات التي كانت روسيا تبرر فيها غزوها العسكري وما كان الغرب يأمل في أن تحققه عقوباته الاقتصادية. فقد أراد الطرفان هزيمة خصومهما بضربة سريعة ومفاجئة تؤدي إلى انهيار فوري. ومن الواضح أن هذا لم يتحقق. في الواقع، إن انتصارات أوكرانيا الأخيرة في ساحة المعركة وتحول بوتين في نهاية المطاف إلى التعبئة العامة في روسيا قد ينذران بحرب طويلة. لقد تكيفت روسيا والغرب، وأصبح كل منهما يشكل بالنسبة للآخر أهدافاً أكثر صلابة للأسلحة الاقتصادية. في نهاية المطاف، فإن من سيتحمل تكاليف هذه الحرب الاقتصادية بشكل رئيسي هي الاقتصادات الأضعف في دول الجنوب.
وعلى الرغم من أن بوتين نجح في تجنب إنهيار على الطريقة السوفياتية في مواجهة العقوبات الهائلة، إلا أن الاقتصاد الروسي عانى من أضرار جسيمة، ومن المرجح أن يعاني المزيد. يمكن للروس أن يتوقعوا ركوداً اقتصادياً وعزلة متزايدة في المستقبل المنظور. ومع ذلك، فإن السؤال المطروح هو ما إذا كان هذا التدهور الاجتماعي والاقتصادي سيدفع المواطنين إلى المطالبة بإنهاء الحرب، ناهيك عن تحفيز حكومتهم على إنهاء عدوانها المستمر على أوكرانيا. تاريخياً، نجحت العقوبات بتشكيل فرص مهمة لإحداث تغيير كبير في السياسة عندما يمكن للحركة السياسية أن تعمل كوسيلة للتعبئة الشعبية. ولكن على الرغم من بعض الاحتجاجات الأخيرة، فإن سنوات من القمع السياسي المكثف قلَّلت من احتمالات نشوء معارضة فعَّالة في روسيا. ولعلَّ أفضل ما يمكن أن نأمل فيه هو أن يؤدي الحرمان الاقتصادي في النهاية إلى جعل نظام بوتين غير قادر مادياً على مواصلة الحرب.
إن غياب حركات المعارضة القوية المطلوبة للاستفادة من العقوبات يفسر لماذا أثبتت دول لديها اقتصادات أصغر بكثير من اقتصادات روسيا – مثل بيلاروسيا وكوبا وكوريا الشمالية وسوريا وفنزويلا – أثبتت أنها منيعة سياسياً إلى حد ما أمام الضغط الاقتصادي الطويل. وهذا أمرٌ مهمٌ لأن العديد من هذه الدول كانت تخضع لعقوبات شاملة ومُطبقة بصرامة أكثر مما تخضع له روسيا اليوم. وكما هو الحال مع تلك الدول، فمن الصعب تصور نهاية سريعة لحملة الضغط الحالية ضد روسيا. إن تعنت موسكو وسعي أوكرانيا الواثق لتحقيق النصر يعني أنه إذا لم تُعد روسيا الأراضي المحتلة إلى أوكرانيا؛ سواء بالقوة أو عن طريق التفاوض؛ فمن المرجح أن تظل القيود الاقتصادية سارية.
هذا بالطبع له تداعياته على الاقتصاد العالمي. والأهم من ذلك، أنه سيزيد من تعميق إعادة تنظيم التجارة والتمويل الغربيين بعيداً عن روسيا. لقد أدَّى فرض العقوبات على مصدر رئيسي للسلع الأساسية في البداية إلى ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء والمعادن. في النهاية، هدأت هذه الطفرات، لكن العملية كانت مؤلمة وصعبة. أصبحت مصادر الإمداد الجديدة مُتاحة حيث وجدت احتياطيات النفط الأميركية والقمح الأسترالي والغاز الطبيعي القطري طريقها إلى الأسواق العالمية.
عندما أصبح من الواضح أن تطبيق العقوبات الأوروبية على صادرات الطاقة الروسية سيكون أبطأ مما كان متوقعاً، خفَّت الضغوط على أسعار النفط والغاز. ومن خلال خفض الطلب على السلع الأساسية، ساعد التباطؤ الاقتصادي الصيني في خفض التضخم أيضاً. كما عملت حكومات “مجموعة السبع” على تهدئة الأسواق من خلال السعي إلى وضع حد أقصى لسعر صادرات النفط الروسية بدلاً من فرض حظر كامل. وفي أواخر تموز/يوليو، سمحت صفقة تصدير الحبوب برعاية الأمم المتحدة وتركيا بالإفراج عن الحبوب الأوكرانية، ما قلَّل من المخاوف بشأن نقص الغذاء العالمي. ويبدو أن حتى تأثير حظر الغاز الروسي الصادم على أسعار الكهرباء في أوروبا قد انتهى بالفعل. العقوبات تزيد من التقلبات الاقتصادية. لكن لا يبدو أن الصدمات تدوم طويلاً.
للقيود الاقتصادية تداعياتها على الاقتصاد العالمي… وستزيد من تعميق إعادة تنظيم التجارة والتمويل الغربيين بعيداً عن روسيا
خُلاصة القول، إن الاقتصاد العالمي قادر على التكيف بدرجة كافية لتعويض الضرر الناجم عن حرب اقتصادية طويلة الأمد. ومع ذلك، كانت التدخلات الحكومية للتخفيف من هذه الآثار متأخرة وعشوائية، على الرغم من أن عواقب فرض عقوبات على دولة مصدرة رئيسية للسلع الأساسية كانت متوقعة تماماً. وللمضي قدماً، يجب تنفيذ أي عقوبات إضافية بعد تبصر أكبر للاقتصاد الكلي. هذا الحذر ضروري ليس فقط لتجنب الأضرار الجانبية في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية ولكن أيضاً للحفاظ على الوحدة السياسية بين الدول التي تفرض بالفعل عقوبات ضد روسيا (…).
وبالنظر إلى التركيز على نقاط الضعف المتبادلة، من السهل نسيان أنه في اقتصادات الحرب، غالباً ما تكون الموارد قابلة للاستبدال أكثر مما كان متوقعاً. عادة ما تحتوي الاقتصادات الصناعية الحديثة على بعض الركود الذي يمكن استخدامه لامتصاص الصدمات. لهذا السبب ستُعاني أوروبا لكنها ستنجو من حظر الغاز الروسي. والواقع أن الكتلة “المحايدة” في الاقتصاد العالمي هي مفتاح توفير مثل هذه الموارد. تبيع الصين سيارات وأجهزة كمبيوتر لروسيا ولكنها تساعد أيضاً الحكومات الأوروبية في تأمين غاز إضافي، مما يدل على أن لديها مصلحة مادية في مساعدة كلا الجانبين في الحرب الاقتصادية. لا يزال الحصار الاقتصادي المفروض على روسيا بعيداً عن الاكتمال، وسيتحول مستقبل هذه الحملة بشكل متزايد إلى تفعيل دور الجهات غير الغربية: الصين، الدول الأفريقية، الإمارات،والهند، إندونيسيا، السعودية، وتركيا.
كما أن الاقتصاد هو صورة مُركبة للاتجاهات التعويضية، فإن آثار العقوبات هي نتيجة قوى سياسية واقتصادية متضاربة
ومع ذلك، تفتقر بعض الدول المحايدة إلى المرونة والقدرة على التكيف مع الاقتصاديات الجغرافية الجديدة. مثال مهم هو التدافع العالمي على الغاز الطبيعي المُسال. فبعدما اشترت الدول الأوروبية معظم الإمدادات المتاحة في الأسواق العالمية لإعادة تخزين مستودعات التخزين الخاصة بها، اضطرت بنغلاديش وباكستان إلى فرض انقطاع التيار الكهربائي على سكانهما (نحو 385 مليون نسمة) لتوفير الكهرباء. كما تتعرض المالية العامة في السلفادور ومصر وغانا وسريلانكا وتونس لضغوط شديدة. يجب على المؤسسات المالية الدولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إلى جانب حكومات “مجموعة العشرين”، تقديم المساعدة لهذه البلدان في الأشهر المقبلة لتجنب كارثة اقتصادية وإنسانية.
إن تقلبات ومنعطفات الحرب الاقتصادية ضد روسيا تجعل من استخلاص نتائج مبكرة أو شاملة أمراً حذراً. إذا انتهت هذه الحرب قريباً، فسيكون ذلك؛ في المقام الأول؛ نتيجة النجاحات التي تحققها أوكرانيا في ساحة المعركة (…). وإذا لم تُسفر الحملة العسكرية عن نتيجة حاسمة، فسوف تترسخ العقوبات باعتبارها سمة شبه دائمة للعلاقات الروسية الغربية.
من الضروري أن يستعد صُنَّاع السياسة الغربيون بشكل أفضل للأزمات المستقبلية الناجمة عن استخدام الأسلحة المالية والتكنولوجية والطاقة. وكما قال المشير البروسي هيلموث فون مولتك: “بعد أول إشتباك مع العدو يبطل مفعول خطة المعركة”. وقد أظهرت الأشهر الستة الماضية أن هذا القول ينطبق أيضاً على الحرب الاقتصادية: بعد الصدمة الاقتصادية الأولى التي تسببها، لا يمكن التيقن من قدرة أي إستراتيجية للعقوبات على الإستمرار.
– النص بالإنكليزية على موقع “فورين أفيرز“
(*) نيكولاس مولدر، أستاذ مساعد في التاريخ – جامعة “كورنيل”.