ببساطة أرجع عددٌ من المشاركين اختلاف تصرف دول جوار فلسطين في نكبة أولى عن تصرفها في نكبة ثانية، وبالتحديد إقدامها في النكبة الأولى على التدخل العسكري الصريح وتعمدها عدم التدخل في الثانية، أرجعوها إلى الآتي:
أولاً؛ خشية عامة في عواصم الجوار من أن تأتي النكبة الثانية بمواصفات النكبة الأولى. نعرف الآن أن بعض المواصفات، وبخاصة في الحرب كما في النتائج المباشرة وغير المباشرة، كان كارثياً، وإن كنا في الوقت نفسه نعرف أن مواصفات أخرى اختلف حول حدود كارثيتها المؤرخون ومحررو الكتب المدرسية في شتى أنحاء العالم العربي.
ثانياً؛ شكوك في القدرة الذاتية لكل دولة على حدة بالنسبة للقوة الإسرائيلية المعززة بالقدرات الأمريكية والبريطانية أو الغربية عموماً؛ وشكوك أقوى في القدرة العربية على التصدي لجيوش الغرب بالإضافة إلى شكوك في مدى تناسب الإرادتين الروسية والصينية مع اللحظة الراهنة في تطور النظام الدولي؛ وشكوك أكثر في نوايا وقدرات الجانب الفلسطيني في هذا الصراع الوجودي. كلها وغيرها عوامل ساهمت في صنع موقف دول الجوار العربي القريب والبعيد على حد سواء.
ثالثاً؛ الموقف من العامل الإيراني. لعبت إيران دوراً مزدوجاً في مراحل صنع وتطور النكبة الثانية. إذ بينما نجحت في تعزيز قوة جناح أو أكثر داخل الساحة الفلسطينية للعمل ضد إسرائيل فقد فشلت في خلق جبهة شرق أوسطية تحمي فلسطين والمقاومة وداعميها من وحشية ردة فعل الصهيونية ومن جبروتها. من الصعب أيضاً تناسي الترتيب أو التمهيد لوقوع مثل هذا الحدث أو غيره بحملة دبلوماسية عربية وغربية وصهيونية أثمرت تعبئة مناهضة لإيران وأنشطتها في شتى أنحاء العالم العربي.
***
لعبت إيران دوراً مزدوجاً في مراحل صنع وتطور النكبة الثانية. إذ بينما نجحت في تعزيز قوة جناح أو أكثر داخل الساحة الفلسطينية للعمل ضد إسرائيل فقد فشلت في خلق جبهة شرق أوسطية تحمي فلسطين والمقاومة وداعميها من وحشية ردة فعل الصهيونية ومن جبروتها
انتقلنا لمناقشة بدائل المستقبل، بدائل تُقلّل من فرص العودة الدورية لنكبة بعد أخرى. لاحظت من موقعي في الاجتماع أن لا أحد من الحاضرين عرض بديلاً يكفل للفلسطينيين مستقبلاً آمناً ومستقراً لعقود عديدة قادمة. معذورون ولا شك، فالانطلاق من وضع دولي غير مستقر وغير ثابت ثابت المعالم ووضع إقليمي لا يبعث على التفاؤل، كفيل بأن يستبعد من النقاش الجاد أية بدائل واقعية تثير الاطمئنان أو تردع النكبات. مع ذلك ناقش المشاركون بدائل أقل طموحاً يمكن أن توفر فرصاً إيجابية وإن محدودة. ناقشوا الآتي:
أولاً؛ يمكن لمشروع دولي، على نهج مشروع مارشال لإعمار أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، أن يخلق فرصاً جديدة أمام مختلف دول المشرق. حاول صاحب الفكرة تبرئتها من اتهام بالتشابه مع المشروع الإبراهيمي بأن وضع لفكرته شروطاً. من هذه الشروط أن يكون البديل المقترح نابعاً من إرادة دولية متعددة الأطراف والصين فيها طرف مؤسس ورئيسي. يشترط أيضاً أن تكون إيران عضواً مستفيداً كبقية الأعضاء ولا تكون لإسرائيل أية ميزة خاصة. يكون لفلسطين الوضع المميز باعتبارها بؤرة المشروع والمستفيد الأكبر من برامج الإعمار وبناء الدولة.
وُجّهت انتقادات لهذه الفكرة باعتبار أنها برغم مختلف الاحتياطات والشروط تظل أقرب شيء ممكن من مفاهيم الشرق أوسطية كبديل للنظام العربي ومن الفكرة الإبراهيمية التي نشأت محاطة بكثير من الشكوك الدينية والقومية والفلسطينية.
ثانياً؛ للترويح عن الحاضرين وإثارة خيالاتهم راح أحدهم يطرح حلم العمل على زرع خلافات أو تعميق المتوافر منها بين الولايات المتحدة ودولة إسرائيل. وفي معرض دفاعه عن موقفه قال إن هذا الفعل جاري العمل به في العلاقات الدولية، تستهجنه الدول وتمارسه. المهم، حسب رأيه، أن تثق الجماعة العربية بإمكاناتها، وهي ليست قليلة ولا ضعيفة، وأن تتبنى خططاً طويلة الأمد. ولقد أثبتت الأيام أن العلاقات بين هاتين الدولتين يمكن أن تصاب بالضرر. لا يخفى أن “حماس” بصمودها وبتكلفة غالية كادت تفلح في تحقيق ذلك دون أن تقصد أو تتعمد.
ثالثاً؛ العودة إلى أفكار التكامل الاقتصادي والأمني العربي وبالاستفادة من التجارب السابقة مثل أهمية أن يبدأ بسيطاً وينهض متدرجاً ومنفتحاً على العالم الخارجي وبخاصة على مجموعات دول الجنوب. مفيد له أن يستعين بمبادرات صمدت في وجه طوفان العولمة أو عنفوان المشاعر القطرية أو الخلافات الناشئة عن تناقض المصالح الضيقة للنخب السياسية وزعماء الدول.
هذه المبادرات تعرّضت بدورها لانتقادات متنوعة، أهمها بطبيعة الحال فشل نسبي لمختلف تجاربها السابقة على امتداد عمر النظام الإقليمي العربي، وفي الوقت نفسه، غياب أية بوادر أمل أو توافر النية في الإصلاح أو ابتكار أنظمة تكامل جديدة. مع ذلك تخرج الآن من تحت ركام الدمار في فلسطين وردود فعل الشعوب الأجنبية لأزمة غزة والضفة الغربية وتجربة حرب الإبادة التي مارستها مجموعة فاشية الميول الدينية اليهودية ضد الشعب الفلسطيني، تخرج اجتهادات تنحو منحى بعث نهضة عربية شاملة لردع إسرائيل ووقف تمدد الاستيطان اليهودي لتحقيق حلم إقامة دولة إسرائيل العظمى.
نسبة معتبرة من المشاركين ترى أن العرب ما زالوا بعيدين عن تحقيق مثل هذه المبادرات الحالمة في نظرهم لأسباب أهمها:
(1) نفور الطبقات الحاكمة من المؤسسات فكراً وممارسة.
(2) التخلي عن التزام العقيدة القومية.
(3) صعود متوالٍ في الانقسامات الطائفية.
(4) اتساع الفجوات الاقتصادية والإجتماعية داخل الأمة وداخل أجزائها.
تخرج الآن من تحت ركام الدمار في فلسطين وردود فعل الشعوب الأجنبية لأزمة غزة والضفة الغربية وتجربة حرب الإبادة التي مارستها مجموعة فاشية الميول الدينية اليهودية ضد الشعب الفلسطيني، تخرج اجتهادات تنحو منحى بعث نهضة عربية شاملة لردع إسرائيل ووقف تمدد الاستيطان اليهودي
(5) استمرار التوحش الصهيوني.
(6) عجز الأمة وقياداتها عن توليد زعامات قومية أو إقليمية.
(7) الميل المتزايد لتسوية أزمات الديون المستحكمة على مستويات ثنائية عوضاً عن الحلول العربية الجماعية أو متعددة الأطراف.
(8) تطور ملحوظ للأزمات الداخلية في دول عربية نحو الحرب الأهلية بعد أن جرّبت حروب الجماعات والمنظمات الإرهابية، وبعضها غير بريء من شبهة الإيعاز أو التمويل الخارجي.
***
بحكم الظروف اجتمعنا في سرعة وانفض اجتماعنا بسرعة. خرجنا وقد ازداد أكثرنا اقتناعاً بأن الأزمة بثناياها ومرتفعاتها، أو بأخاديدها وقممها، باقية معنا لزمن قد يطول. إن شئنا تفاؤلاً فلنسعَ لتحقيق إنجازات محلية، هنا أو هناك تعيد إلينا ثقتنا بأنفسنا. لن يفيد الهرب أو التأجيل أو التسويف حتى إن هيىء أحدها لنا ولأولادنا من بعدنا. لن يفيد إلا النهوض والرقي وامتلاك نواصي القوة والانتباه إلى حقيقة أفرزتها أزمة غزة وهي أن كل دول الجوار العربي بالنسبة للعقل اليهودي الفاشي ليست إلا مواقع استيطان أو قواعد نفوذ.