بكل الأحوال، تشكّل إتفاقية ترسيم الحدود البحرية الجنوبية سابقة تأسيسية لمفاوضات لبنانية مستقبلية مع كل من قبرص وسوريا، من دون إغفال حقيقة أن الإسرائيلي حقّق مكاسب لا يُستهان بها. المقصود هنا ليس الغنائم الاقتصاديّة فحسب، بل وأيضاً الأرباح السياسيّة – الأمنيّة خصوصاً وأنّه اقتلع حقل “كاريش” برضا الطبقة السياسية اللبنانية و”سعادتها وحُبورها”!
يضاف إلى ذلك انتزاع إسرائيل اعترافاً بالأمر الواقع البحري الراهن، أي “خطّ العوامات”، ما يُمثّل لتل أبيب إنجازاً حيث كرّسته الاتفاقيّة منطقة أمنيّة في وقت كان يمكن للبنان فيه تحصيل رأس الناقورة وحلّ كلّ الاشكاليّات التي بقيت كما كانت، بلا حلول.
من جهتها، ترى إدارة جو بايدن هذا الاتفاق تاريخيّاً، ولعل أكثر ما يهمّ المكتب البيضاوي راهناً هو أن يكون الترسيم ممراً إلزامياً للتطبيع الإقتصادي مع إسرائيل!
وبعيداً عن الفولكلوريات الشعبويّة الإعلامية دعونا نتّفق على أن لبنان لم ينل كامل حقوقه. بل هو حصل على ما أرادت سلطته السياسية مجتمعة تحصيله، برعاية أميركيّة.
لكن من الضروري التأكيد أنّ الـDeal المركّب على “حسن النّيّة” ليس عادلاً بالنسبة إلى لبنان كما أُشيع خلال حملات التطبيل للإتّفاقيّة. الحقيقة أنه لا يزال من المبكّر جدّاً توقّع المكاسب الاقتصادية والعوائد المالية التي “قد” يحققها لبنان من هذا الاتفاق.
إتفاقية دولية
أما وأن الصفقة قد تمّت، دعونا نضع بعض النقاط على الحروف. هذه الاتفاقية هي”دوليّة” كونها تمثّل التقاء دولتين على مصلحة معيّنة. وهي”إتفاق” بين دولتين على الحدود البحرية. عليه، وبحسب القانون الدولي، تحمل هذه الاتفاقية تداعيات اعتراف لبنان بدولة إسرائيل.
تعطي المادة 52 من الدستور اللبناني رئيس الجمهوريّة صلاحيّة المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها بالاتفاق مع رئيس الحكومة. المعاهدات التي تنطوي على شروط ماليّة للدولة وسائر المعاهدات التي لا يجوز فسخها سنة بسنة، كما هي الحال في اتفاقيّة الترسيم، لا يمكن إبرامها الا بعد موافقة مجلس النواب لتصدر بقانون.
هذا الاتفاقيّة اذاً لا تُجدّد، وهي غير قابلة للفسخ، وتمّت بالتشاور مع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وتنطبق عليها شروط الاتفاقيات الدولية حتى ولو تمّت عبر وسيط..
من جهة ثانية، إنّ حكومة تصريف الأعمال لا تستطيع بأي شكل من الأشكال أن تبرم أو حتى أن توافق على أيّ اتفاقية دوليّة. وهنا تُسجّل سابقة لحكومة نجيب ميقاتي. فالمعيار في صلاحيّة تصريف الأعمال يستند إلى ما إذا كانت الاتفاقيّة تلزم الحكومة الجديدة بارتباطات جديدة طويلة الأمد.
أما ما يقال عن رفض مناقشة اتفاق ترسيم الحدود مع إسرائيل في البرلمان لعدم اعتباره اتفاقية دولية، بل أمراً واقعاً يخضع لقواعد الاشتباك وموازين القوى بين الطرفين، وبالتالي توصيف الاتفاق على أنه تفاهم شبيه بتفاهمات عامي 1993 و1996 “فليس الا نوعاً من المزايدات بالوطنيّة”، يقول أحد المخضرمين بالسياسة لبنانياً.
لو دقّقنا في النصّ نجد إذعاناً لبنانياً لشرط عدم تعديل الحدود مستقبلاً. لكن ماذا لو فشل الاتفاق؟ ولماذا يربط الاتفاق العمل بمكمن قانا المحتمل بالموافقة الإسرائيلية؟ ولماذا لا تسمح دولة الكيان لـ“Total” بالبدء بالتنقيب قبل توقيع العقد التجاري عن حصتها في قانا؟ وماذا يعني أنّ الحصّة الاسرائيليّة ستُقتطع من أرباح “Total”؟ ولماذا يتوجب على لبنان فقط أخذ الموافقات الإسرائيلية؟
تضييع فرصة
إنّ اتفاق ترسيم الحدود البحرية الجنوبيّة نتاج لحظة وسياق بالغَي الأهمّيّة، لبنانياً وإسرائيلياً ودولياً. من هنا، لو تمسك لبنان بالخطّ 29، لكان فاوض من موقع قوّة وحصّل أكثر. ولو عدّل لبنان المرسوم 6433، لكان نجح في تصحيح إحداثيّاته القديمة. وطالما أن “المقاومة” هي التي فرضت الاتفاق بمسيّراتها، فلماذا لم يتمسك لبنان بالـ29، ولماذا لم يستفِد من دور “المقاومة” لرفع سقفه وصولاً إلى استعادة حقوقه وتثبيت حدوده الصحيحة؟ ولماذا هذا التوغل في إرتكاب الأخطاء والخطايا طوال 15 سنة؟
إن الخطيئة الأولى التي ارتكبها أصحاب السلطة والقرار كانت في العامين 2006 ـ 2007 في حكومة فؤاد السنيورة عندما حدّد لبنان نقطة غير دقيقة خلال ترسيم الحدود الاقتصادية البحرية الخالصة مع قبرص. قُضمت حوالي 5 كيلومترات من المساحة البحرية الداخلة ضمن الحدود اللبنانية، فاستفادت إسرائيل من السقطة اللبنانية واستغلّتها في ترسيم حدود منطقتها الاقتصادية الخالصة مع لبنان. إلا أنّ حجة إسرائيل هذه ضعيفة فلبنان لم يُصدّق على اتفاقية الترسيم مع قبرص حتى الآن، ولم يسلمها للأمم المتحدة، لذا فهي غير معترف بها دولياً.
الخطيئة الثانية ارتكبتها حكومة نجيب ميقاتي عندما اعتمدت الخط 23 وأهملت رأي المكتب الهيدروغرافي البريطاني بباقي الخطوط، وأحدها الخط 29.
أما الخطيئة الثالثة فكانت بتبني “اتفاق الإطار” لإطلاق المفاوضات بين لبنان وإسرائيل. يعتمد “اتفاق الإطار” الخط الأزرق لترسيم الحدود البرية استناداً إلى قرار مجلس الأمن رقم 1701 لعام 2006 بدلاً من الارتكاز الى قانون البحار أو أقلّه الى اتفاقية الهدنة.
الخطيئة الرابعة كانت عندما اصبح ملف الترسيم بعهدة رئاسة الجمهورية اللبنانية، ورفضها تعديل المرسوم 6433 وبالتالي مصادقتها على التنازل عن حقوق لبنان ضاربةً عرض الحائط بكل الإثباتات التي تثبت حقوقنا.
إتفاق حُسن النية
لو دقّقنا في النصّ نجد إذعاناً لبنانياً لشرط عدم تعديل الحدود مستقبلاً. لكن ماذا لو فشل الاتفاق؟ ولماذا يربط الاتفاق العمل بمكمن قانا المحتمل بالموافقة الإسرائيلية؟ ولماذا لا تسمح دولة الكيان لـ“Total” بالبدء بالتنقيب قبل توقيع العقد التجاري عن حصتها في قانا؟ ولو حصل لبنان على قانا كاملاً لماذا لإسرائيل حصّة فيه؟ وماذا يعني أنّ الحصّة الاسرائيليّة ستُقتطع من أرباح “Total”؟ ولماذا يتوجب على لبنان فقط أخذ الموافقات الإسرائيلية؟
مَن الجهة التي فرضت عدم السماح بالتنقيب لشركات خاضعة لعقوبات دولية؟ أهو بطلب من “Total” أو “Qatar Petroleum” أو الولايات المتحدة أو إسرائيل؟
لماذا يشترط اتفاق “حسن نية” فرض قيود على تطوير الحقول اللبنانية، في وقت لم تُفرض هذه الشروط على الحقل 72 الإسرائيلي والحقول الملاصقة للبلوكات 8 و9 و10 اللبناتيّة؟ ولماذا لم تُمنع الشركات الإسرائيلية من التنقيب كما مُنع لبنان في البلوك 9 خصوصاً مع إمكانية اكتشاف حقول مشتركة؟
خط العوامات
بعد اتفاقية الهدنة عام 1949، اعتمد لبنان الحدود الدولية مع فلسطين التي رسمتها دولتا الانتداب بريطانيا وفرنسا عام 1923(معاهدة بوليه – نيوكومب) كخط للحدود بينهما.
بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان عام 2000، رسم خبراء الأمم المتحدة “الخط الأزرق” بين لبنان وإسرائيل. تعامل لبنان معه كخط انسحاب وليس خط حدود. تحفّظ على 13 نقطة حدودية اخترق فيها الخط الأزرق الحدود اللبنانية لصالح إسرائيل. أما إسرائيل فقد تعاملت معه بوصفه خطَاً حدودياً.
أما نصّ الاتفاقية الجديدة فيكرّس “خط العوامات”، برغم أن القانون الدولي واضح جداً في ما يتعلق بالنقطة الحدودية التي تنطلق من النقطة البرية في رأس الناقورة.
كثيرة إذاً هي الملاحظات القانونية – التقنية على الاتفاقية. عديدة هي الهفوات غير البريئة.
باختصار، تاريخ 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2022 هو تاريخ إعدام لبنان سيادته. التاريخ الذي نصّب فيه لبنان الولايات المتحدة التي لم تكن يوماً منصفة في النزاع اللبناني – الإسرائيلي حكَماً ومرجعاً. أذعن لاتفاقية حسن نيّة من دون ضوابط وتواريخ، تحررت إسرائيل بفضلها للعمل في كل المنطقة كما وفي جنوب الخط 23.. كلّ ذلك مقابل “فقّاعات”.