نعمْ.. تجرَّؤوْا، وأصلِحوا النّظامَ اللّبناني!

عندما تموتُ منظومةٌ فكريّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة، تتّضحُ ضرورةُ تغييرها عند بعض المراقبين والمثقّفين والنّاشطين، ولو ظلّت هذه المنظومة تتوهَّمُ وتُوهِمُ وكأنّها تُقاوم أو تتحدّى موتَها الأكيد. وهذا ما يحصلُ بالذّات مع النّظام اللّبناني القائم منذ مرحلة ما بعد اتّفاق الطّائف، ومع المنظومة السياسيّة التي ولّدها هذا النّظام، قبل عام ٢٠٠٥ وبعده.

فشل النّظام الطّائفي التوافقي-التّحاصُصي الحالي في لبنان فشلاً مؤكّداً: انهار معه الاقتصاد والنّقد والمصارف.. وانهارت عمليّاً، معها جميعَها، وظائفُ الدّولة الحقيقيّة، ما عدا بعض الاستثناءات النّادرة طبعاً. الفشلُ الذّريعُ لهذا النّظام ولمنظومتِهِ، إذن، مسألة لا مجال فيها بعدُ للبحث، برأيي.

وبالرّغم من هذا الفشل الذّريع، وبالرّغم من كلّ هذه الانهيارات الكبيرة والعميقة، يرفض اللّاعبون السيّاسيّون الأساسيّون في لبنان طرح مسألة تغيير هذا النّظام وانشاء نظام جديد، بشكل واضح وصريح (ولو من باب الإصلاح التّدريجي). فالبعضُ يتحجّج بأنّ هذا التّغيير المنشود قد يُفيد الطّرفَ الأكثر ثقلاً في ميزان القوى السّياسي الحالي: وهو “حزب الله” وفريق المقاومة. والبعضُ الآخر يتحجّج بأنّ هكذا سير – لا بدّ منه أصلاً – نحو دولة المواطنة قد يضرّ بمصالح “المسيحيّين” ويدفعهم إلى الهجرة. والبعض الآخرُ أيضاً يتحجّج بأنّ هذا البلد قائم على الطّائفيّة، ليس فقط في السّياسة، وإنّما أيضاً على المستوى الاجتماعي، وبالتّالي لا يمكن تحقيق هكذا تغيير نحو نظام لا- طائفي، ولو بالتّدريج، إذ أنّ قدَرَنا هو العيشُ تحت نظامٍ يقوم على التّمييز الطّائفي-العنصري وعلينا القبول بهذا القدَر. البعضُ يتحدّثُ أيضا، وفي نفس السّياق، وهمساً في الأروقة في الأعمّ الأغلب، عن تخوّف لدى بعض المراجع الدّينيّة (المؤسّساتيّة) من أي تغيير من هذا القبيل، ولو كان ذلك ضدّ رأي المراجع الدّينيّة العالميّة المعنيّة ومن نفس طائفَتِها!

من يحمي السّنّة والشّيعة والمسيحيّين والدّروز والأقليّات هو خروج أفرادهم من كونهم مجرّد أرقام ضمن جماعاتهم، إلى كونهم أفراداً متساوين في الحقوق والواجبات مع باقي المواطنين. هذا ما يحمي كلّ اللّبنانيّين مهما كانت مناطقهم أو انتماءاتهم الطّائفيّة

من المؤكّد أنّ الانصياع لكلّ هذه الحجج هو ضربٌ من الجهل أو ضربٌ من الجنون أو ضربٌ من سوء النّيّة للأسف. إذ أنّ النّظام القائم حاليّاً قد سقط، فهي ليست مسألةَ تخمينٍ أو توقّع: لقد سقط هذا النّظام، وإنْ حاول البعض إيهامنا بالعكس. لقد سقط النّظام وسقطت المنظومة، والقائمون حالياً بهذا النّظام وبهذه المنظومة هم عبارة عن “زومبيات” سياسيّة وحزبيّة ومؤسّساتيّة لا أكثر. لقد سقط النّظام هذا، وسقطت المنظومةُ معهُ منذ سنوات، وما يحصلُ اليوم هو مجرّد عمليّة تمرير للوقت، من خلال إحياء وهمي لأموات حقيقيّين.. بانتظار مواعيد ومواقيت وسياقات إقليميّة ودوليّة.

أمّا التحجّجُ بنتائج الانتخابات النّيابيّة الأخيرة لمنع السّير نحو تغيير النّظام (السّياسي والاقتصادي) الفاشل هذا: فلا يُمكن لعاقلٍ أن يأخذَ بظاهر نتائجِ هذه الانتخابات، وقد حصلت ـ باطناً وظاهراً – تحت ضغط الأمن الغذائي والمعيشي الهائل.. والتّصويتُ خوفاً على لقمة العيش لا يُعوَّلُ عليه عندنا، ولا عند أهل العقلِ والأمانة الفكريّة. هذا لا ينفي أبداً وجود توجّهات استراتيجيّة قد ثبّتها النّاخبون، بالإضافة إلى مسألة الأمن المعيشي، كما حصل في الجوّ الشّيعي مثلاً فيما يخصّ التأييد الواضح لتوجّه قيادة المقاومة.. لكن، في الأعم الأغلب، ومع بعض الاستثناءات كالتي ذكرناها حول تأييد خيار المقاومة (وقد يُضاف إليها الدّافع التّغييري في بعض البيئات)، كانت هذه الانتخابات النّيابيّة برأيي بمثابة  “انتخابات الضّرورة”، وقد نزل معظم النّاخبين إلى التّصويت على أساس أنّ الضّرورات تبيحُ التّصويت للمحظورات.. “أمَّن يُجيبُ المضطّرَّ إذا دعاه ويكشفُ السّوء..”!.

من يقول للّبنانيّين إنّ نظاماً كهذا يمكن أن يستمر بلا كوارث وطامات عظمى آتية مجدّداً لا رَيْب.. يكذبُ عليهم. لا يمكن، في القرن الواحد والعشرين، أن يعيش الفرد الإنساني ضمن نظام كهذا النّظام: يرتقي فيه هذا الفردُ اجتماعيّاً وسياسيّاً – بل واقتصاديّاً – لا على أساس الكفاءة والأخلاقيّات، وإنّما على أساس النّسب الطّائفي والمذهبي. ويُفرَّقُ فيه بين المواطن والمواطن الآخر على أساس الولادة (لا حتّى الاعتقاد!) في هذه الطائفة أو تلك! نقول “أيّ تخلّفٍ أخلاقيّ وروحيّ هذا” قبل أن نقول “أيّ تخلّف مؤسّساتي وسياسيّ”! إنّ جعل الانتماء الطّائفي أساساً للارتقاء في المجتمع وفي العمل السّياسي: هو انحراف أخلاقي وهبوط روحيّ قبل أي شيء، وقد تحدّثنا عن هذه المسألة في مقالات عديدة سابقا. لا يُمكنُ – في أيّ نظام عادلٍ – لوازِرَةٍ أن تزِرَ وِزرَ أُخرى. أي، من وجهة نظر موضوعِنا: لا يمكن لأيّ فردٍ أن يحمل عبءَ أخطاء جماعته وقادتها، كما لا يمكن له أن يرتقيَ ويَصل إلى مواقع السّلطة والنّفوذ فقط لأنّه ينتمي إلى هذه الجماعة أو تلك.

المهم: إنّ الاستمرار بالدّفاع عن هكذا نظام، ومن بعض رجال “الديّن” أحياناً (!)، فيه إشكاليّة روحيّة وأخلاقيّة كبيرة، عداك عن الاشكاليّة المؤسّساتيّة والسّياسيّة الآنفة الذّكر. فلنتوقّف قليلاً عن اتّهام بعضنا البعض، ولنسأل أنفسنا: هل يمكن بعدُ القبول باستمرار نظام كهذا النّظام؟ بالطّبع، الإجابة واضحة لكلّ ذي عقل نيّر وقلب سليم. وما رفع شعارات من قبيل “حماية اتّفاق الطّائف” أو “حماية المكتسبات السّنّيّة” أو “مقايضة الصيغة بالسلاح” أو “حماية حقوق المسيحيّين” أو “منع هجرة المسيحيّين” أو “الحفاظ على الأقلّيّات” إلّا شعارات دجلٍ وكذب. من يحمي السّنّة والشّيعة والمسيحيّين والدّروز والأقليّات هو خروج أفرادهم من كونهم مجرّد أرقام ضمن جماعاتهم، إلى كونهم أفراداً متساوين في الحقوق والواجبات مع باقي المواطنين. هذا ما يحمي كلّ اللّبنانيّين مهما كانت مناطقهم أو انتماءاتهم الطّائفيّة.

من يُخلّص الشّيعي من رعب ماضي القمع والتّذبيح والتّهجير، هو تحوّله إلى مواطن في دولة تؤمّن له ـ كفرد لا كمجموعة – المساواة مع الآخَرين جميعهم في الحقوق والواجبات، وتؤمّن له حريّة المعتقد والتّعبير والمبادرة السّياسيّة والاقتصادية. وهذا نفسه ما يخلّص السّنّي من الصّراع الدّاخلي ـ وهو حقيقيّ، وليس نقاشه موضوعَنا الآن – بين الحنين إلى زمن الخلافة الإسلاميّة (أو ربّما الإيمان بشكل من أشكال القوميّة العربيّة[1])، وبين ضرورة الاندماج الحقيقي والنّهائي في الكيان اللّبناني (ليس فقط بسبب تغيّر الزّعامات الإقليميّة الآني والمؤقّت). وهو نفسه الكفيل بإخراج المسيحي اللّبناني من وهم انتمائه إلى غربٍ – وفي الأعمّ الأغلب: لا هو يريدُهُ، ولا هو صادقٌ معه، ولا هو يريد الله ولا المسيح ولا المسيحيّة ولا الكنيسة أصلاً (ومن يدّعي من سياسيّي ومثقّفي الغرب عكسَ ذلك، خصوصا ضمن الغرب الأوروبي، هو إمّا كاذب دجّال أو حالم مُستهام). والأمر عينُهُ هو الكفيل بإدماج المسيحي اللّبناني نهائيّاً في مجتمع واحد مع بقيّة اللّبنانيّين والمشرقيّين. وهذا التّحوّل ذاته – من كوننا كأفراد، مجرّد أرقام ضمن طوائف، إلى كوننا مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات فيما بيننا، وبيننا وبين الدّولة ـ هو الذي يضمن للأقلّيّات كلّها، بلا استثناء، الخروج من نفق الخوفِ من عودة الماضي القمعي الظّالم، ومن عودة المجازر والتّهجير والإقصاء.

إقرأ على موقع 180  لا جدوى من مجتمع مدني عربي.. بلا سياسة!

والمضحكُ في المشهد الحالي هو الخروجُ المتوتِّرُ للبعض بشعار “حماية الطّائف”، كأنّنا نتحدّثُ عن مَجمعٍ دينيّ أعظم قد حدث، أو نصٍّ مقدّسٍ مُكرَّمٍ قد نزل. مع احترامنا الصّادق لرافعي هذا الشّعار نعتبرُ، بالطّبع، أنّ رفعه الآن لا يصبّ في مصلحة مستقبل لبنان واللّبنانيّين، والهدف من رفع الشّعار هذا هو سياسيّ-مصلحيّ ووقتيٌّ وآنيٌّ بامتياز، مقصده النّيل من فريق معيّن، وتخويف اللّبنانيّين منه لا أكثر. فماذا يجلبُ للمواطن اللّبناني شعار الحفاظ على اتّفاق الطّائف أو يثرب أو مكّة أو بغداد أو دمشق (أو حتّى الصّين!)، إذا كانت النّتيجة هي الإبقاء على الفشل الذّريع، أو تجديده؟ هل الهدف، في سبيل النّيل من بعض الأطراف اللّبنانيّة، توريط اللّبنانيّين جميعهم في أزمات متكرّرة ومتجدّدة، وربّما إعادتنا إلى حروب أهليّة متنوّعة المظاهر والأشكال في المستقبَلَين القريب والبعيد؟ لذلك، ثمة مسؤولية على الدّول العربيّة الشّقيقة، بتوجيه طاقتها نحو طروحاتٍ تُخرجنا من أزماتنا، وأن تُصرف أموالها الطّائلة على مشاريع إنمائيّة وإنسانيّة وحواريّة، بدل صرفها على أناسٍ ومشاريع وشعارات فاشلة بالتّأكيد، وهي أضعف من النّيل من فريق ما (ألم نتعلّم من تجربة ما بعد الـ٢٠٠٥ مثلاً؟).

فلنكفَّ عن التوهّم بإبقاء النّظام الحالي، ولنلتفتْ، بحكمة، نحو المستقبل: ما هي الخطوات التّدريجيّة، التي يمكن البدء بها، في سبيل الوصول إلى نظام مواطنة حضاريّ وعادل؟ هل يتوجّب علينا البدء بتطبيق بعض بنود اتّفاق الطّائف؟ فليكن!

بين التّنظير.. والواقعيّة

عند هذا الحدّ، سيقول لنا البعض: إنّ ما تطرحونه هو مجرّد تنظير، وهو بعيد عن الواقعَين السّياسي والاجتماعي بالمعنى “العملي” و”البراغماتي”. وهذه، طبعاً، حجّة دوغمائيّة قديمة، لكنّنا سنأخذها بجدّيّة ونناقشها. فالمطلوب من القادة “الدّينيّين” (نضعها ضمن مزدوجين عمداً، وهذا بحث عرفاني آخر لنا عودة إليه إن شاء الله تعالى) والسّياسيّين ليسَ ثورةً فرنسيّةً فوريّةً، أو انفجاراً بولشيفيّاً أحمرَ لا تأجيل فيه، ولا موجةً ثوريّةً عارمةً تطيح بالأخضر واليابس، صباحَ الغدِ، ولا تؤجَّلُ تأجيلا! ليس هذا الخطاب الرّومانسي خطابَ أغلب الوطنيّين في لبنان، وما تصويرهم على أنّهم مجرّد حالمين إلّا لعبة من ألعاب الطّبقة الحاكمة (بشقّيها السّياسي والدّيني). هم، في أغلبيتهم السّاحقة، أناس مثقّفون وعاملون وكادحون ومكافحون، ولا يحتاجون إلى عفاريت السّياسة اللّبنانيّة ليعلّموهم ما هو واقعيّ وما ليس بواقعيّ.

المطلوب طبعاً – مع تعذّر الانتقال والتّحوّل السّريعَين، لأسباب عديدة لا مجال لتفصيلها هنا ـ هو الانتقال والتحوّل التّدريجيَّين على الأقل. فلنكفَّ عن التوهّم بإبقاء النّظام الحالي، ولنلتفتْ، بحكمة، نحو المستقبل: ما هي الخطوات التّدريجيّة، التي يمكن البدء بها، في سبيل الوصول إلى نظام مواطنة حضاريّ وعادل؟ هل يتوجّب علينا البدء بتطبيق بعض بنود اتّفاق الطّائف؟ فليكن! أو فلنتباحثْ كلبنانيّين في نوعيّة الخطوات المطلوبة: قانون أحزاب جديد؟ لا مركزيّة إداريّة موسّعة (لما لا)؟ جرعات من المقاعد النّيابيّة غير الطّائفيّة؟ جرعات أكبر من الوظائف غير المقيّدة بالانتماء الطاّئفي؟ قانون أحوال شخصيّة جديد؟ خطّة عمل متكاملة لتحويل النّظام اللّبناني، تدريجياً، إلى نظام مدني غير طائفي؟ الحوار مجدّداً حول قانون الانتخابات مع طرح لبنان كدائرة واحدة مع النّسبيّة مثلاً.. (إلخ).

من المؤكّد أنّ الخطوات التي يُمكن طرحها كثيرة ومتعدّدة، ولا يتّسع هذا المقال لتفصيلها وتحليلها بطبيعة الحال. لكنّ العبرة هنا هي في تكرار الفكرة الأساسيّة لهذا المقال: أوّلاً، إنّ النّظام الطّائفي الحالي في لبنان قد سقط، وإنّ محاولة تجديده هي ضربٌ من الجنون بل ترقى إلى مستوى الجريمة التّاريخيّة بحق اللّبنانيّين ومستقبلهم؛ ثانياً، إنّ النّظام المثالي الوحيد المناسب للّبناني في القرن الواحد والعشرين هو نظام المواطنة، القائم على المساواة بين الحقوق والواجبات، كما على حريّة المعتقد والتّعبير والنّشاط السّياسي والاقتصادي؛ أمّا ثالثاً، فإنْ تعذّرَ الانتقالُ الجذريّ والسّريع نحو المواطنة، المطلوب ليس رفع شعارات فضفاضة وخدّاعة مثل “حماية اتّفاق الطّائف”، بل إطلاق نقاش صريح حول الخطوات العمليّة في سبيل تغيير النّظام اللّبناني الطّائفي.. الميّت أخلاقيّاً وروحيّاً وثقافيّاً.. والذي سيموت إن شاء الله، عاجلاً أم آجلاً، ظاهراً وباطناً، على المستويَين المؤسّساتي والسّياسي.

[1]  وهذا إيمانٌ محمودٌ وممدوحٌ عندنا، ويمكن أن يتوافق مع الانتماء الوطني طبعاً، ولهذا الحديث تتمّة إن شاء الله، وكذلك فيما يخصّ مفهوم الخلافة الإسلاميّة.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  لا جدوى من مجتمع مدني عربي.. بلا سياسة!