يقع اليوم اتفاق مار مخايل بين حزب الله والتيار الوطني الحر في صلب هذه الأزمة التي تشكل امتحاناً صعباً للطرفين لجهة معرفة كيفية تخطيها وصولاً إلى الحفاظ على “التفاهم”، برغم الاهتزاز الذي أصابه بفعل الأزمة السياسية ـ الاقتصادية التي ألمت بالبلاد منذ ثلاث سنوات ونيف.
لا يمنع ذلك من القول إن الاتفاق، ومنذ توقيعه في السادس من شباط/فبراير 2006 حتى يومنا هذا، أفرز تداعيات إيجابية على الصعيد الوطني في مرحلة مهمة ومفصلية من تاريخ لبنان.
أولاً؛ استطاع الاتفاق أن يبني جسراً بين طائفتين كانتا على طرفي نقيض خلال فترة الحرب الأهلية. استطاع ميشال عون أن يصوغ خطاباً مؤيداً للمقاومة ضد الإحتلال الإسرائيلي في بيئة كانت معادية لحزب الله وكانت تعتبر ان المعركة مع إسرائيل عبثية ولن تجدي نفعاً خصوصاً وأن معظم القيادات المارونية تاريخياً كانت تتبنى توجهات يمينية لا بل ذهب البعض منها إلى حد التحالف مع إسرائيل خلال الحرب الاهلية اللبنانية.
ثانياً؛ استطاع الاتفاق أن يُؤسس لتحالف حمى لبنان من تداعيات ما بعد إغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط/فبراير 2005. ويعود الفضل للتحالف الذي وقف سداً منيعاً في وجه الحملة الدولية التي قادتها الولايات المتحدة والفورة الطائفية والمذهبية التي استعرت بعد اغتيال الحريري وزادها إحتداماً ما شهدناه من إصطفافات حادة على الصعيد الإقليمي. فقد استطاع التحالف بين حزب الله والتيار الوطني الحر ان يؤمن مظلة للمقاومة وأن يبني تحالفاً صلباً في مواجهة الهجمة الغربية.
غير أن معطيات التحالف في يومنا هذا تبدلت وتغيرت عما كانت عليه عندما وُقّع الاتفاق في شباط/فبراير 2006. فقد كان حزب الله يعاني من وطأة تحالفات سياسية تبدّلت لا بل إنقلبت عليه بعد أن خاض معها الانتخابات النيابية عام 2005، تحت عنوان ما يُسمى “التحالف الرباعي” (ثنائي حزب الله وحركة أمل، تيار المستقبل، والحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية)، فضلاً عن الهجمة التي إتخذت من المحكمة الدولية رأس حربة لإستهداف كل التركيبة التي كانت تحمي المقاومة. هذا الصراع السياسي كان يُغذّيه صراع إقليمي بين مشروعين كبيرين على مستوى المنطقة؛ لذا، كان التحدي أمام حزب الله في منع لبنان من سلوك الدرب الذي تؤدي به إلى “العرقنة” حيث إتخذ الصراع على أرض العراق صبغة مذهبية لا مثيل لها ولا سيما بين العامين 2006 و2008. كان حزب الله بحاجة إلى حليف من خارج بيئته لا سيما بعد فشل رهانه على التحالف الرباعي الانتخابي، وما ساعد في إبرام التحالف سياسة الأبواب المغلقة أميركياً ومحلياً (فريق 14 آذار) بوجه العماد ميشال عون، برغم ما حقّقه من نتائج في إنتخابات العام 2005.
ومن المفيد التذكير أن التيار الوطني الحر كان مكوناً أساسياً في مظاهرة 14 آذار ومعارضاً شرساً للوجود السوري، ولكن قوى 14 آذار استبعدته وحاولت عزله. الإشكالية التي وقع فيها التيار في حينه أن خطابه لم يكن يتلاءم مع التوجهات السياسية لقوى 14 آذار. كان خطابه مبنياً على عودة الدور المسيحي للحكم وتحقيق إصلاحات اقتصادية وسياسية تقوّض نفوذ الطبقة السياسية التي حكمت البلد بعد إتفاق الطائف. زدْ على ذلك أن إنتخابات العام 2005 جعلت التيار الوطني الحر ممثل الأكثرية المسيحية، وكلنا نذكر أنه عندما رجع ميشال عون في أيار/مايو 2005 من منفاه في فرنسا إلى بيروت.. وصف وليد جنبلاط عودته بـ”التسونامي”.
الثابت لدى حزب الله هو الاستقرار الأمني ـ السياسي لا بل يعتبره أولوية تتقدم على ما عداها من عناوين الإصلاح الاقتصادي والإجتماعي والمالي، وهو يدرك أن أي عملية إصلاحية جذرية محفوفة بالمخاطر لأن البلد، كما يقول المؤرخ الراحل كمال صليبي، »بيتٌ بمنازل كثيرة”، تتداخل فيه العوامل الخارجية مع المحلية
كان الاتفاق مصلحة مشتركة للطرفين عِماده أسباب سياسية في الأساس. وقد حافظ على استمراريته لعدة أسباب:
أولاً؛ الأسباب السياسية التي أدت إلى توقيعه لم تتغير لا بل تعززت مع مرور الوقت ولا سيما بعد نشوب الحرب السورية. كان لهذه الحرب دور في تعزيز الاتفاق، فالتيار رأى في تلك الحرب تهديداً للوجود المسيحي وأن تدخل الحزب فيها كان ضرورياً لمنع الجماعات الإرهابية المسلحة من احتلال أراض لبنانية وتهجير سكانها.
ثانياً؛ لم يكن الطرفان شريكين في الحكم على الرغم من أن أحدهما شارك في أول حكومة بعد إنتخابات 2005 لكن بوجه حزبي (محمد فنيش) ووجه غير حزبي (طراد حمادة)، وبالتالي كانت مشاركتهم في مجلس الوزراء من موقع الثلث المعطل، لكن سرعان ما انقلب وزراء إميل لحود عليه ولم يقف مع وزراء “الثنائي” الخمسة إلا الوزير الأرثوذكسي يعقوب الصراف، فصارت حصتهم ستة وزراء من أصل 24 وزيراً.
ومنذ ذلك الوقت، إجتاز التفاهم العديد من الإختبارات ولا سيما إختبار حرب تموز 2006 ثم لحظة اتفاق الدوحة وصولاً إلى تبني حزب الله ميشال عون مرشحاً جدّياً وحيداً لرئاسة الجمهورية في العام 2014، بوصفه الممثل الأول للمسيحيين.
لقد بقي موقع رئاسة الجمهورية شاغراً لمدة سنتين ونصف السنة حتى تم انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية في نهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر 2016. الإشكالية التي واجهت التحالف بعد انتخاب عون هو أن التيار الوطني بدأ بمطالبة الحزب بتبني مشروعه الإصلاحي والاقتصادي واشتدت هذه الضغوط بعد الانهيار الإقتصادي والنقدي والمالي بدءاً من عام 2019 حتى يومنا هذا.. غير أن التفاهم كان يصطدم مرة تلو الأخرى بحجم التعارض الذي تحول إلى ما يُشبه “حرب الإلغاء” بين حليفي حزب الله: حركة أمل والتيار الوطني الحر..
وليس خافياً أن خلاف حركة أمل والتيار الوطني هو خلاف على السلطة والحصص فضلاً عن النظرة المتفاوتة إلى صيغة الحكم والصلاحيات. إن خطاب عون الرافض ضمناً لاتفاق الطائف وانتقاده الدائم للترويكا التي حكمت البلاد بعد انتهاء الحرب الأهلية ومنظومة الفساد التي دمّرت مؤسسات الدولة جعله على نقيض كامل مع كل رموز المرحلة الممتدة من التسعينيات حتى الأمس القريب.
ان انتخاب عون رئيساً للجمهورية وحصول قوى 8 آذار على الأغلبية في مجلس النواب في انتخابات العام 2018 أدخل “التفاهم” في مرحلة جديدة. وبعد أن كان حزب الله والتيار الحر في موقع المعارض للأغلبية الحاكمة أصبحا هما في صدارة الأغلبية الجديدة.. إلى أن وقعت الواقعة الكبرى في خريف العام 2019.
اليوم، يواجه هذا التحالف إشكالية كبيرة. فقد تغيّرت الأسباب التي أدت إلى توقيعه وبالتالي لم يعد ممكناً أن يستمر من دون تطويره. ولعل الاشكالية التي واجهها حزب الله هو أن لديه مسلمات لا يمكنه القفز فوقها: رفض الإنزلاق إلى محظور الفتنة السنية الشيعية والتحالف الثابت مع حركة أمل على قاعدة وحدة البيت الشيعي.
من أجل ذلك رفض حزب الله المس بموقع رئاسة مجلس النواب. ولذلك وافق على وصول سعد الحريري مرتين متتاليتين إلى رئاسة الحكومة وقبلهما وبعدهما وصول نجيب ميقاتي إلى السراي الكبير.
لقد حُمِّل التيار الوطني وعهد ميشال عون مسؤولية الأزمة الإقتصادية والمالية وجرت شيطنتهما في السنوات الثلاث الأخيرة، كما لم يشيطن عهد في تاريخ لبنان، فيما راح الآخرون يتنصلون من أزمة سياسية وإقتصادية بنيوية عمرها من عمر هذا البلد.
الثابت لدى حزب الله هو الاستقرار الأمني ـ السياسي لا بل يعتبره أولوية تتقدم على ما عداها من عناوين الإصلاح الاقتصادي والإجتماعي والمالي، وهو يدرك أن أي عملية إصلاحية جذرية محفوفة بالمخاطر لأن البلد، كما يقول المؤرخ الراحل كمال صليبي، “بيتٌ بمنازل كثيرة”، تتداخل فيه العوامل الخارجية مع المحلية، وبالتالي قد تؤدي الإصلاحات الاقتصادية والسياسية إلى صراعات طائفية وربما تتدحرج إلى اقتتال داخل البيت الطائفي أو المذهبي الواحد.
حتماً يحتاج إتفاق مار مخايل إلى إعادة وضعه على مشرحة التقييم والتطوير وصولاً إلى إعادة إنتاج تفاهم يحاكي اللحظة الحالية والمستقبلية وما واجه الطرفان من تحديات وإستحقاقات في السنوات الـ 17 الأخيرة.