لهذا الاستحضار مبرراته وأسبابه الموجبة، لأن ما ينتظر لبنان في ملف النفط والغاز في حقل قانا وتالياً مجمل البلوك رقم (9) هو كباش قد يطول مع العدو الإسرائيلي، مع تجديد الإشارة إلى أن من قاد عملية التفاوض حول ترسيم الحدود البحرية الجنوبية لم يعر أذناً صاغيةً إلى التحذيرات الصادقة والنصائح المخلصة والشروحات العلمية المحكمة، بل اختار معالجة هذا الملف ببعده السياسي الصرف، بينما يتقدم العامل الاقتصادي ـ المالي على العامل السياسي عند الطرف الآخر. حينذاك، تبدى لوم كبير على المقاومة لأنها وافقت على تغطية اتفاق مبهم في معظم بنوده، ولطالما حذّر كثيرون من أننا أمام إتفاق حمّال للأوجه اعتاد المفاوض الإسرائيلي سلوكه مع أطراف عديدة وفي أزمان ومناسبات مختلفة، حتى تأتي التفسيرات اللاحقة لمصلحته كونه هو من يُفخّخ الاتفاق بالبنود القابلة للتفسير والتأويل ودائماً وفق متطلباته ومصلحته.
والمؤسف أن من ينسبون لأنفسهم هذا “الانجاز التاريخي” يُصرون على القول إن الأمور ـ بعد توقيع اتفاق الترسيم ـ تسير في مسارها الإيجابي والطبيعي، وهذا الأمر صحيح ولا جدال حوله، إنما لا بد من الإشارة إلى أمور أساسية سبق أن تم لفت نظرهم إليها، وهي الآتية:
أولاً؛ لا مشكلة في عملية الحفر في حقل قانا ومجمل البلوك رقم (9)، فالجميع مستعجل لأجل انجاز عملية الحفر الاستكشافي، من لبنان إلى شركة “توتال” وصولاً إلى العدو الإسرائيلي.
ثانياً؛ المسح البيئي أنجز بالكامل وسيوضع التقرير في غضون أيام قليلة بعهدة وزارة البيئة وكذلك وزارة الطاقة وهيئة إدارة القطاع، وثمة عروض لاستقدام سفينة الحفر الإستكشافي، وكان وزير الطاقة وليد فياض واضحاً بقوله، أمس، إن هذه الحفارة ستصل إلى لبنان في الصيف المقبل وستنجز مهمتها قبل نهاية السنة الحالية.
حتى يضمن لبنان حقوقه في ثروته النفطية والغازية بعد ثلاث سنوات، وهي الفترة المُقدّرة لتطوير أي حقل مُكتشف، على الحكومة اللبنانية المسارعة إلى انجاز اتفاق إطار أو إتفاق تكميلي مع شركة “توتال” بالتوازي مع عملية الحفر لضمان حق لبنان بالكامل في حقل قانا، ومنع العدو الإسرائيلي من عرقلة عملية التطوير والإنتاج في الحقل المذكور
ثالثاً؛ الجميع يدفع إلى التعجيل في بدء الحفر الإستكشافي، على قاعدة محاولة إستكشاف ما يحتويه حقل قانا من ثروة نفطية وغازية، لا بل إن العدو الاسرائيلي هو أول من يريد أن يعرف إلى أين سيمتد الحفر وهل سيتجاوز حدود الخط (23) جنوباً.. والأهم من ذلك ما هي مؤشرات الحفر الإستكشافي ربطاً بالإتفاقية المالية التي سيبرمها مع شركة “توتال” الفرنسية؟
رابعاً؛ تُظهر قراءة إتفاقية الترسيم بشكل قاطع أن العرقلة الإسرائيلية ليست متوقعة في خلال عملية الحفر الاستكشافي، انما بعد إنجاز هذه العملية، لأنه في ضوء معرفة ما يتضمنه حقل قانا، يُحدّد العدو الخطوة التالية، سواء بالتسهيل أو بالعرقلة، لأنه يريد اتفاقاً قبل البدء بتطوير الحقل وتحويله إلى حقل استثماري منتج.
خامساً؛ العدو الإسرائيلي سيضع شروطه على شركة “توتال” عبر إلزامها باتفاق مالي جديد، يُحدّد نسبة العائدات المالية التي سيحوز عليها، وبالتالي العرقلة متوقعة بعد الإنتهاء من الحفر الإستكشافي وتقييم مكامن الحقل، والأخطر أن العدو بامكانه أن يفرض ما يريد إستناداً إلى مضمون نص اتفاقية ترسيم الحدود.
عملياً، يصح القول إن الحفر الاستكشافي وظيفته الأولى طمأنة العدو الإسرائيلي، وليس كرمى عيون لبنان ومنظومته الحاكمة، ولولا شراكة العدو في عائدات حقل قانا لما كان تم تسريع كل الخطوات التي من شأنها أن توصلنا إلى مرحلة الحفر الإستكشافي لتحديد الجدوى الاقتصادية والمالية من مخزون الحقل وهل يستحق الذهاب إلى تطويره، وفي حال الإقرار بوجوب تطوير الحقل، فإن ذلك سيحتاج إلى نحو ثلاث سنوات، وفي خلال هذه الفترة الزمنية الطويلة نسبياً يكون العدو الإسرائيلي قد حقّق المزيد من الأرباح التي تُقدّر بعشرات مليارات الدولارات نتيجة عملية الاستثمار الواسعة في حقل كاريش وتصدير الغاز الذي بدأ مؤخراً إلى دول الإتحاد الأوروبي.
ماذا على السلطة اللبنانية أن تفعل حتى لا يضيع حق لبنان مجدداً؟
حتى يضمن لبنان حقوقه في ثروته النفطية والغازية بعد ثلاث سنوات (2027 إذا إنتهت عملية الحفر الإستكشافي في نهاية 2023)، وهي الفترة المُقدّرة لتطوير أي حقل مُكتشف، على الحكومة اللبنانية المسارعة إلى انجاز اتفاق إطار أو إتفاق تكميلي مع شركة “توتال” بالتوازي مع عملية الحفر لضمان حق لبنان بالكامل في حقل قانا، ومنع العدو الإسرائيلي من عرقلة عملية التطوير والإنتاج في الحقل المذكور.
هل يُمكن أن يتنبّه المعنيون الى ذلك؟
يُفترض بهم ذلك؛ فلسان حال الموالاة والمعارضة على حد سواء، أن لا خلاص للبنان من أزمته الاقتصادية والمالية إلا في إستثمار ثروته النفطية والغازية، وبالتالي إذا كان الجميع حريصاً على الخروج من الأزمة، يجب أن يكونوا أكثر حرصاً على هذه الثروة من خلال صيانتها وحمايتها بالأطر القانونية اللازمة.