لبنانُ وإشاراتُ الحوارِ البابوية.. من يَتلقّفها؟

كانتِ الدعوةُ إلى الحوارِ قِوامَ ثُلُثَيْ كلمةِ البابا "لاوون الرابعَ عَشَرَ" خلال زيارتِهِ لبنان. لم يُعْلنْ ترتيبَ مَنْ يدعُوهمْ. هو ليس مُلْزَماً بذلك. وليس الخِطابُ المُباشِرُ منْ تقاليدِ الباباواتِ ما خلا الخُطَبَ الكَهْنوتِيَّةَ – الدينيَّةَ المَحضةَ. لكنْ ما من خِطابٍ إلَّا وهْو موضوعُ تفكيكٍ وَفقاً لِمُصطلحِ "فوكو". التفكيكُ ضرورةٌ عقلانيَّةٌ وسياسيَّةٌ لاكتشافِ سِياقاتِ المَعنى وسَبْرِ أغوارِهِ. الحِوارُ لازِمةٌ ثابِتةٌ في لغةِ الفاتيكان منذ مرورِ البابا "بولس السادسِ" في مَحَطَّةٍ عابرةٍ، في مطار بيروت قبل ستةِ عقودٍ، إلى "يوحنَّا بولس الثاني"، إلى "بنديكتوس السادس عشر"، إلى "لاوون الرابعَ عشر".

تُرى مَن كانَ يُخاطِبُ البابا “لاوون الرابع عشر”؟ رأسُ الفاتيكان لا يتحدَّثُ رَأسَاً. يُلَمِحُ سياسيَّاً بما يُشْبِهُ التصريحَ. ولمَّا كانتْ لفظةُ الحِوارِ غَنيَّةً بالآفاقِ، فَهْيَ تَحْمِلُ في ثناياها ديالكتيكَ السُهولةِ الصعبةِ. لا يستطيعُ المُراقِبُ أنْ يجزِمَ. يَلتقِطُ الإشاراتِ فحسْبُ، ويُدْخِلـُها في سِياقِ الجُغرافيا التي تَتِمُّ فيها الدعوة، وفي حساباتِ التاريخِ يُخضِعُها لحساسيَّةِ الوقتِ. وهكذا، إذا غَضَضْنا الطرْفَ مؤقَّتاً عنْ شموليَّةِ دعوةِ البابا إلى الحوار في الشرقِ والعالم فإنَّ خصوصيَّتَهُ اللبنانيَّةَ تبرزُ واضحَةً بصورةٍ مُقلِقةٍ أكثرً ممَّا هيَ مُطَمْئِنة. إنَّ البابا يخاطِبُ اللبنانيينَ. يتوجَّهُ إليهِم قبلَ غيرِهم، وربَّما إلى المسيحيينَ في الطليعةِ وإنْ كانَ لم يُهْمِلِ الآخرينَ. هلْ هوَ في داخِلِهِ كان يَعرِفُ تَفاصيلَ اللحظةِ المَصيريَّةِ – الإستراتيجيَّةِ – الوُجوديَّةِ في الشرقِ المُقبلِ على الكوارثِ، فاسْتعجَلَ المَجيءَ منَبِّهاً ومُحاولاً الإنقاذَ بالحوارِ قبلَ فواتِ الأوان؟ قالَ كلاماً ورْديَّاً في الحوار لمْ يَقُلْهُِ مالكُ في الخمرِ فَنكَأَ جِراحَنا. قليلاً ما يجْرَحُ الوردُ القلوبَ، لكن هذه المرَّةَ جرَحَنا ورْدُ البابا، وليس هو المسؤولُ بلْ نحنُ في لبنانَ، فهْوَ قَدِمَ مسْرِعاً خائفاً قلِقاً، فيما أركانُ البلادِ – كما يُسمُّونَ أنفسَهم – يَسْتمتِعونَ بالمناكفاتِ والارتهانِ للخارجِ المتعدِّدِ المتصارعِ. ولا يُلقونَ نظرةً ولو خاطفةً على الأبعادِ الإستراتيجيّةِ الخطيرةِ التي يَرْسُمُها العدوُّ الإسرائيليّ في جنوبِ لبنانَ وفي حدودِهِ البِقاعيّةِ وفي جَنوبِ سوريا حيث لا يبعُدُ عن دمشقَ أكثرَ من نصفِ ساعةٍ.

الخطرُ يَدْهمُ وجودَ لبنانَ لا المقاومةَ وحدَها ولا الجيشَ وحدهُ، ولا طائفة وحدها، وفقاً لما يحلو لبعضِهِم تصويرُهُ، بل كلُّ الطوائف. لقد أعطى الجيشُ والمقاومةُ كلَّ ما يستطيعانِ لإِنفاذِ القرار 1701. لبنانَ التزمَ بالتمام والكمال، لكنَّ العدوَّ الإسرائيليَّ والولاياتِ المتحدةِ مُشترِكانِ في خُطةِ جَرِّ لبنانَ إلى مفاوضاتٍ إذعانيَّةٍ تحت النارِ التي يُهدِّدانِ بها في المرحلةِ المنظورةِ المقبلةِ. إذا لم تَتِمَّ المبادرةُ سريعاً إلى توحيدِ الموقفِ الوجوديِّ الوطنيِّ عبر حوارٍ حقيقيٍّ فمآلنا هو الخرابُ

نحنُ لا نتوهَّمُ أنَّ بابا الفاتيكان يَستطيعُ إنقاذَنا، لكنَّنا نَحسبُ أنَّه يريد الإنقاذ. إنَّهُ رأسُ دولةٍ يوتيوبيَّةٍ معنويَّةٍ دينيَّةٍ من نوعٍ خاصٍ. يتَّسمُ خِطابُهُ بالوعْظِ الذي يسْتبْطِنُ السياسةَ لا بالفعلِ السياسيِّ الحاسم. كادَ يقولُ: تحرَّكوا قبلَ فواتِ الأوان. أليسَ مِنَ العيْبِ المُسْقمِ أن تبقى القوى اللبنانيَّةُ النافذةُ، في السلطةِ وخارجِها أنْ تبقى بَعيدةً عن صَوْغِ مشروع وطنيٍّ مبرمَجٍ للحوارِ الفعليّ لا الكلاميِّ؟ نعتقِدُ أنَّهُ العيْبُ كلُّه. ماذا ينتظرونَ والعدوُّ الإسرائيليُّ لا ينتظِرُ. لِمَ لا يلتَقِطونَ ما أرسلَه البابا من إشاراتٍ؟ لَمْ يَفُتِ الأوانُ بعدُ وإنْ ضاقَ. لِنَدَعِ القُوى خارجَ السلطةِ جانباً مؤقَّتاً. يستطيعُ رئيسُ الجُمهوريَّةِ العماد جوزاف عون أنْ يُعِدَّ مشروعاً حِواريَّاً تجري مناقشتهُ في مجلسِ الوزراءِ ثمَّ تُدعى إليهِ القوى الأخرى لِتشارِكَ في البلـْوَرةِ النهائيَّةِ كي يتحوَّلَ المشروعُ إلى إستراتيجيَّةٍ وطنيَّةٍ شاملة.

لقد أثْبتَ رئيسُ الجمهوريَّةِ أنَّه يتمكَّنُ مِنَ السيرِ الواعي بين النِقاطِ المُشتعِلةِ، ولمْ يصدُرْ عنه أيُّ موقفٍ متطرِّفٍ بإزاءِ أيِّ جهةٍ لبنانيَّةٍ، وخَبِرَ في الوقتِ نفسهِ نيَّةَ الولاياتِ المتحدةِ تُجاهَهُ وتُجاهَ الجيشِ، وجنَّبَ لبنان مخاطرَ الانزلاقِ إلى مواجهاتٍ داخليَّةٍ. وكانَ مُدْرِكاً بعمقٍ أهميَّةَ التزامِ المقاومةِ بالقرارِ 1701 وبأنَّها قدَّمتْ كلَ ّشيءٍ، بلْ لمْ يَعُدْ عندَها ما تُقدِّمُهُ سوى الدفاعِ عن النفسِ وَهْوَ حقُّها المشروع.

كلُّ ذلك يُمثِّلُ أوراقَ فُوَّةٍ بيدِ رئيسِ الجمهوريَّةِ. يُضيفُ إليها إشاراتِ البابا. ولذا هو المؤهَّلُ إلى قيادةِ حوارٍ وطنيّ ٍ، لعلَّ الرؤوسَ الحامِيةَ في الداخلِ تُراجِعُ نفسَها، فترى أنَّ الجنوبَ والبقاعَ هما جزءٌ تكوينيٌ من لبنان غير قابليْنِ للمساومةِ ولا للاستيطانِ ولا للاستباحةِ، وأنَّ الشمالَ ليس للاقتطاعِ، وأنَّ الجبلَ ليس نواةً لإعادةِ لبنان الصغير، وينبغي ألَّا يكونَ ممرَّاً لمشلريعِ الدويلاتِ. ولعلَّ هذه الرؤوسَ الحاميةَ ترى أيضاً أنَّ الجيشَ للجميعِ لا ليخوضَ حرباً ضدَّ أهلِهِ كما يدعو المبعوثُ الأميركيُّ “توم برَّاك”. وربَّما في المشروعِ الحواريِّ ينتبِهُ الذينَ يرَوْنَ في المقاومةِ حالةً طائفيَّةً، فيعودونَ إلى شيءٍ من الواقعيّةِ ويتّجِهونَ إلى تسويةٍ وطنيَّةٍ تحفظُ الجميعَ.

إن لبنانَ الراهن لا يعيشُ خارجَ التسويةِ والوَحدة. ولنا في تجربةِ الرئيس الراحل فؤاد شهاب عِبرةٌ إيجابيةٌ تؤكٍّدُ أنَّ الحوارَ والتسويةَ ليسا مستحيليْنِ، وإنْ تكنِ الظروفُ مختلفةٌ عمَّا كانت عليهِ عام 1958 أيامَ الرئيس شهاب، فالأصلُ هو الإرادةُ الوطنيّةُ. ولنا في الوقتِ عينِهِ عِبرةٌ في موقفِ المفكِّرِ الراحلِ ميشالِ شيحا الذي أكَّدَ، برَغمَ ليبراليّتهِ، خطرَ الصهيونيَّةِ على لبنانَ أرضاً ومياهاً وشعباً ودولةً منذ أربعينيَّاتِ القرنَ الماضي، وكانَ يعني الجميع بمن فيهم المسيحيُّون. وهنا لا نغفلُ في هذه اللحظةِ الراهنة – بالتزامُنِ مع زيارةِ البابا – ما أشارَ إليه البطريرك بشارة الراعي عندما قال إنَّ إسرائيل “تطمعُ بكلِّ لبنان”. لقد تناسقَ هذا الموقفُ معَ مُناخِ كلامِ البابا في لبنان إذْ لمْ يُشرْ قَطْ إلى الاتفاقاتِ “الإبراهيميّةِ” تلك الخديعةِ التي لا تنْطلي على العارفين. [وما كان إبراهيم نصرانيَّاً ولا يهوديَّاً/ آل عمران 67].

إقرأ على موقع 180  أناقة الموت وعبثية حياةٍ لا تستحق حتى.. اسمها!

إنَّنا نبحثُ عن كلِّ نقطةٍ إيجابيَّةٍ تُعَزِّزُ ما تبقَّى من قوة الحفاظِ على لبنان. ليس الحوارُ ترَفاً كلاميَّاً. هو قضيةٌ مصيريَّةٌ وإستراتيجيّةٌ. لذا فإنَّ رئيسَ الجمهوريَّةِ قادرٌ على المبادرةِ وهو قدَّمَ عدةَ مبادرات. ليس وحدَهُ المسؤول وعلى الآخرين ملاقاتُهُ. نعني هنا الحكومةَ كلَّها، والقوى السياسية خارجَ السلطةِ بكلِّ أطيافِها.

الخطرُ يَدْهمُ وجودَ لبنانَ لا المقاومةَ وحدَها ولا الجيشَ وحدهُ، ولا طائفة وحدَها، وفقاً لما يحلو لبعضِهِم تصويرُهُ، بل كلُّ الطوائف. لقد أعطى الجيشُ والمقاومةُ كلَّ ما يستطيعانِ لإِنفاذِ القرار 1701. لبنانَ التزمَ بالتمام والكمال، لكنَّ العدوَّ الإسرائيليَّ والولاياتِ المتحدةِ مُشترِكانِ في خُطةِ جَرِّ لبنانَ إلى مفاوضاتٍ إذعانيَّةٍ تحت النارِ التي يُهدِّدانِ بها في المرحلةِ المنظورةِ المقبلةِ. إذا لم تَتِمَّ المبادرةُ سريعاً إلى توحيدِ الموقفِ الوجوديِّ الوطنيِّ عبر حوارٍ حقيقيٍّ فمآلنا هو الخرابُ. وعندئذٍ تذهبُ هَباءً وهُباباً كلُّ إشاراتِ البابا، ذلك أنَّ مصالحَ الدولِ الاستعماريَّة لا تأبهُ بالعِظاتِ. إنَّها لا تفهمُ إلَّا لغةَ القوَّةِ، ولغةَ الوَحدةِ الشعبية، وينهزِمُ الاستعمارُ بإحدى اللغتين، ويَنْسحِقُ إذا اجتمعَتَا معاً، فأينَ سنكونُ في لبنان من هاتينِ اللغتين؟

Print Friendly, PDF & Email
بسّام ضو

عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكُتّاب اللبنانيين

Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  أنظمة تخاف من شعوبها وعروبتها.. ومن فلسطين