اليمن الجنوبي.. أم الجنوب العربي؟

كثيرة هي التعقيدات التي تُثقل اليمن، واحدة منها مصير الجنوب ومستقبله في دولة يمنية مركزية أو إتحادية أو يشق طريقه نحو دولة مستقلة لها خصوصيتها و"هويتها المميزة"، كما يقول رافعو شعار "دولة الجنوب العربي".

لا يخضع القول بـ”خصوصية الشعب الجنوبي العربي” للحالة للطارئة والمنفعلة التي يعيشها اليمنيون منذ سنوات حروبا وتناحرات، وإنما تعود أدراجها إلى عام 1947 حين تبنت “رابطة أبناء الجنوب” مفهوم “الجنوب العربي” وفي عام 1959 أعلنت بريطانيا قيام “إتحاد إمارات الجنوب العربي” ثم دولة “اتحاد الجنوب العربي” عام 1962.

فعليا وعمليا، تقلصت وتيرة المناداة بـ”الخصوصية الجنوبية” بعد انسحاب البريطانيين من الجنوب في الثلاثين من تشرين الثاني/نوفمبر 1967 وظهور “جمهورية جنوب اليمن الشعبية” وخليفتها “جمهورية اليمن الشعبية الديموقراطية” التي اندمجت مع الشطر الشمالي عام 1990، ومع اندلاع حرب العام 1994 وإعلان الجنوب فك الإرتباط مع الشمال عادت رياح الخصوصية إلى نصابها السابق، ومنذ سنوات ما بعد العام 2011 بات مفهوم “الجنوب العربي” يلقى رواجا وكثافة حضور في الوعي الجنوبي الذي لا تخفي أوساطه الجهر بوجود “شعبين” في صنعاء وعدن أو في الشمال والجنوب.

كيف تعاملت الصحافة العربية مع “الجنوب العربي” في الفترة الزمنية الفاصلة بين الأعوام 1963 و1967؟

في الثامن عشر من نيسان/ابريل 1963 كتبت صحيفة “فلسطين” المقدسية “نفت وزارة الإرشاد القومي في إتحاد الجنوب العربي بشدة ما أعلنه راديو صنعاءعن قوع تسلل إلى اليمن من أراضي بيحان”. وفي التاسع عشر من كانون الأول/ديسمبر 1963 قالت صحيفة “الحياة” اللبنانية “فُتحت اليوم الحدود بين إتحاد الجنوب العربي واليمن، وقد أغلقت هذه الحدود يوم 10 الجاري بعد انفجار قنبلة في مطار عدن، ثم فُتحت الحدود بعد يومين في اتجاه واحد للمسافرين الراغبين في مغادرة اتحاد الجنوب، أما اليوم فقد فتحت للمسافرين القادمين إلى الإتحاد”، وذكرت صحيفة “الأردن” في الحادي عشر من كانون الأول/ديسمبر 1963 أن المندوب السامي البريطاني في عدن “أصيب بجراح عندما جرت محاولة لإغتياله في مطار عدن قبل توجهه إلى الطائرة التي كانت ستقله إلى لندن مع عدد من وزارء اتحاد الجنوب”.

في نيسان/إبريل 1964 زار الرئيس المصري جمال عبد الناصر مدينة صنعاء من دون إعلان مسبق، ورصدت الصحافة المصرية ردود الأفعال البريطانية على الخطاب الذي ألقاه في العاصمة الشمالية لليمن ودعا فيه إلى خروج بريطانيا من الجنوب، وفي 25ـ 4 ـ 1964 جاء على رأس الصفحة الأولى لصحيفة “أخبار اليوم” القاهرية “اهتزت بريطانيا بسبب خطاب عبد الناصر في اليمن عن تحرير عدن والجنوب العربي”.

ونقلت صحيفة “فلسطين” عن قحطان الشعبي (2 ـ 9 ـ 1964) أحد أبرز الزعماء الجنوبيين وأول رئيس لجمهورية الجنوب بعد الإنسحاب البريطاني قوله في مؤتمر صحافي عقده في الكويت “إن طريقة المفاوضات ـ مع بريطانيا ـ لن تجدي، ولا بد من إيجاد تنظيم ثوري قوي يستطيع أن يتصدى للوضع المؤسف في الجنوب العربي، وحاولت الحركة الوطنية خلال السنوات الماضية أن تجد حلا سلميا إلا أن بريطانيا لم تُبد استعدادا لإعطاء الشعب العربي في الجنوب حقوقه كاملة”. وفي السابع والعشرين من الشهر نفسه قالت “الحياة” اللبنانية “احتفلت الجمهورية اليمنية بذكرى ثورة اليمن، وهي الذكرى السنوية الثانية، وأقيم لهذه المناسبة عرض عسكري، واشترك بالعرض في ساحة التحرير في صنعاء وحدات رمزية من قوات المكافحين في الجنوب العربي المحتل”.

الجفري: “نحن لم نكن طرفا أو شريكا في نظام الوحدة، فلقد اعتبروا الدولتين شطرين من واحد هو اليمن وليس قطرين، وأنها إعادة للوحدة اليمنية، وهذه كذبة، لم تكن أصلا في التاريخ دولة بمسمى اليمن إلا منذ عهد الإمام يحيى حميد الدين في عام 1918 ولم يكن الجنوب العربي جزءا منها”

صحيفة “أخبار اليوم” (14 ـ 8 ـ 1965) تحدثت عن فشل “مؤتمر لندن” لتسوية قضية الجنوب وإتجاه السلطات البريطانية لتقوية نفوذها بين الأمراء المحليين فقالت “بعد فشل مؤتمر لندن لحل مشكلة الجنوب سارعت بريطانيا إلى توقيع معاهدة إضافية مع حكومة اتحاد الجنوب الموالية لها”. وأوردت صحيفة “الحياة” في عددها الصادر بتاريخ 26 ـ 8 ـ 1965 أن “السيد عبد القوي حاميم مستشار حسين العمري رئيس الوزراء اليمني للشؤون الخارجية قُتل في معركة بالبنادق في ورزان على بعد حوالي ستة أميال من حدود اتحاد الجنوب العربي”، وأشارت صحيفة “فلسطين” (26 ـ 12 ـ 1965) إلى أن “قيادة جيش اتحاد الجنوب العربي اهتزت بفعل انفجارين وقعا عند منتصف ليلة أمس”.

عام 1966 لم يختلف عن أعوام سبقته في طريقة تغطية الصحافة العربية للتطورات الحاصلة في “اتحاد الجنوب العربي”، فثمة ندرة وقلة تربطانه باليمن وحتى بدا أن هذا “الإتحاد” قد غدا أمرا واقعا لا يُعيبه إلا الإحتلال البريطاني الذي يجب مقاومته وإخراجه من “الأراضي الجنوبية”، وعلى ذلك نقلت “الحياة” في العاشر من نيسان/ابريل 1966 عن “مصدر مسؤول في اجتماعات وفدي الجنوب العربي المجتمعين في بيروت بأن الأحاديث التي جرت قد سلكت طريقا ناجحا والآراء التي تبودلت قربت أوجه النظر بين الفريقين”.

وقالت صحيفة “الأخبار” المصرية (12 ـ 4 ـ 1966) إن مندوبها للشؤون العربية “علم” بأن محادثات عبد الناصر وأمير الكويت صباح السالم الصباح ستتناول “سبع مسائل هامة” من بينها “قضية الجنوب المحتل ومساندة الشعب العربي لتحقيق حريته واستقلاله”، وفي الثاني عشر من حزيران/يونيو 1966 أفادت “الأخبار” أن “الجامعة العربية قدمت إلى لجنة تصفية الإستعمار وثيقة خطيرة عن مؤامرات الإستعمار في الجنوب العربي”.

بحلول تشرين الثاني/نوفمبر 1967 كانت محادثات “الوفد الجنوبي” مع السلطات البريطانية قد توصلت إلى صياغة معالم أساسية تحدد طرق وآليات خروج البريطانيين من مناطق الجنوب، وتابعت صحيفة “الأهرام” إيراد التفاصيل على الشكل الآتي:

ـ 18 ـ 11 ـ 1967: “مطالبة المواطنين في الجنوب العربي بتسليم الأسلحة والذخائر”.

ـ 19 ـ 11 ـ 1967: “يغادر عدن غدا إلى بيروت بقية أعضاء وفد المفاوضات التي تجري مع بريطانيا في جنيف تمهيدا لإعلان استقلال الجنوب العربي”.

ـ 20 ـ 11 ـ 1967: “أشاد السيد قحطان الشعبي زعيم الجبهة القومية بدور الجمهورية العربية المتحدة بدعم ثورة الجنوب العربي منذ البداية”.

ـ 21ـ 11 ـ 1967: “لجنة الأمم المتحدة تحذر من حرب أهلية في الجنوب العربي”.

ـ 22 ـ 11 ـ 1967: “بدء محادثات جنيف لإستقلال الجنوب العربي”.

ـ 25 ـ 11 ـ 1967: “تستعد القوات البريطانية لتسليم عدن ابتداء من غد إلى جيش الجنوب العربي”.

ـ 26 ـ 11 ـ 1967: “أعلن المندوب السامي البريطاني في عدن إنهاء حالة الطوارىء التي كانت مفروضة منذ 10 كانون الأول/ديسمبر 1962، ورُفعت حالة الطوارىء في أعقاب إطلاق سراح آخر المعتقلين السياسيين، وهي الإجراءات التي تتخذها بريطانيا لإتمام انسحابها من الجنوب العربي”.

إقرأ على موقع 180  فطور صباحي سياسي.. مع مقاوم لبناني

ـ 27 ـ 11 ـ 1967: “سارت تظاهرات ضخمة في عدن ابتهاجا بإنسحاب القوات البريطانية من جميع مناطق عدن بإستثناء منطقة المينا ومنطقة خور مكسر الجوية، تمهيدا لخروجها النهائي من عدن والجنوب العربي”.

كيف تغيرت المصطلحات والوقائع؟

يقتضي الأمر الرجوع مرة أخرى إلى “الأهرام”:

ـ 29 ـ 11 ـ 1967: “ميلاد دولة عربية مستقلة جديدة في منتصف هذه الليلة، إعلان استقلال جمهورية جنوب اليمن الشعبية اليوم بعد احتلال دام 128 سنة متواصلة”.

ـ 30 ـ 11 ـ 1967: “بريطانيا وجمهورية جنوب اليمن الشعبية توقعان وثيقة تسليم السلطة”.

ـ 1 ـ 12 ـ 1967: “قحطان الشعبي يرأس دولة جنوب اليمن ويعلن بدء الثورة الإجتماعية”.

على طريق الوحدة بين صنعاء وعدن سال دم غزير، قُتل رؤساء ووزراء ومسؤولون ونُفي آخرون، وغالبا ما كانت المتفجرات المتنقلة بين المدينتين تؤتى بحقائب محمولة بـ”هدايا الموت” إلى أن وقعت الحرب الطاحنة عام 1994، ومعها برزت من جديد نزعة “الإنفصال” كما يقول أهل الشمال، ونزعة “اليمننة المهيمنة” كما يقول أهل الجنوب، ومع الإستعصاء السياسي الذي يشهده اليمن منذ عام 2011، باتت الدعوة إلى الفرار من “اليمننة” تجد آذانا تسمع وقلوبا تخفق وعقولا مأخوذة بـ”التنظير” لفرادة الهوية و”الشعب المميز”.

 في دراسة مسهبة منشورة (10 ـ 8 ـ2012) على موقع “يافع نيوز” للدكتور سعودي علي عبيد “أن تأسيس دولة اتحاد الجنوب العربي كان وثيق الصلة بتاريخ وهوية الجنوب، كما أنه من المؤكد بأنَّ الهدف الأساسي لتلك الدولة كان العمل على تأكيد وترسيخ تاريخ وهوية الجنوب، وبغض النظر عن كون دولة اتحاد الجنوب العربي قد تأسستْ في ظلِّ خضوع الجنوب للإدارة البريطانية، فإنَّ ذلك لا ينفي أنَّ فكرة توحيد الكيانات الجنوبية في دولة اتحادية قد نشأتْ نتيجة رغبة حكَّام ومواطني الولايات الجنوبية صوب خلق روابط أوثق بين بعضهم البعض”.

وعلى موقع “عدن الغد” بحث مستفيض للوزير الأسبق علي هيثم الغريب (16 ـ 2ـ 2014) يقول فيه “الهوية اليمنية ما كان يمكن أن يحتاجها الشعب اليمني عام 1922 لولا خروج الأتراك بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية عام 1918 التي استدعت مثل هذه الهوية لإنقاذ اليمن من الحروب المذهبية والتمزق القبلي، وقامت اليمن بحدود تلك الدولة ورسمت مع الجنوب العربي حدودها الدولية ووقعت مع سلاطين الجنوب عليها، مثلما وقعت مع المملكة العربية ترسيم الحدود عام 1934 وعام 2001 وتركت مسألة التنازل عن الهوية الجنوبية في تسمية الدولة الجنوبية الوليدة آثارا قوية على الحركة الوطنية الجنوبية وأشعرتها بعزلتها وسهل إضعافها أو التخلص منها، وأهم هذه الصدمات: التخلص من إسم الجنوبية ـ جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية ـ بعد الإنقلاب على الرئيسين قحطان الشعبي وسالم ربيع علي”.

وعلى هذا النول يحيك الرئيس علي سالم البيض (27ـ5 ـ2013) فيقول لموقع “المونيتور” الذي يبث بلغات عدة “نحن أطلقنا على جمهوريتنا تسمية اليمن الديموقراطية الشعبية وقمنا بيمننة الجنوب، عند استقلالنا عن الإستعمار البريطاني في 30 تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1967 فرضنا كجبهة قومية الهوية اليمنية على الدولة من دون استفتاء الشعب، نحن الذين فرضنا اليمننة على الجنوب نتيجة الوعي القومي العربي، ولكن شعب الجنوب يعتبر نفسه غير يمني، فالجنوب العربي موجود منذ آلاف السنين ودليلنا على ذلك أنه بعد الوحدة تبيّن أننا شعبان وبلدان وهويّتان وطريقتان بالتفكير ولسنا شعباً واحداً”.

السياسي والقيادي الجنوبي عبد الرحمن الجفري وفي حوار مع وكالة “سبوتينك” الروسية (6 ـ 11ـ 2018) يعيد التذكير بمفاصل ومنعطفات قطعها في العقود الستة الأخيرة فيجزم “روادنا حصلوا في صيف عام 1963 من الأمم المتحدة على قرارات باستقلال الجنوب العربي ووحدة أراضيه وانتقال السيادة لشعبه، نحن لم نكن طرفا أو شريكا في نظام الوحدة، فلقد اعتبروا الدولتين شطرين من واحد هو اليمن وليس قطرين، وأنها إعادة للوحدة اليمنية، وهذه كذبة، لم تكن أصلا في التاريخ دولة بمسمى اليمن إلا منذ عهد الإمام يحيى حميد الدين في عام 1918 ولم يكن الجنوب العربي جزءا منها”.

على طريق الوحدة بين صنعاء وعدن سال دم غزير، قُتل رؤساء ووزراء ومسؤولون ونُفي آخرون، وغالبا ما كانت المتفجرات المتنقلة بين المدينتين تؤتى بحقائب محمولة بـ”هدايا الموت” إلى أن وقعت الحرب الطاحنة عام 1994، ومعها برزت من جديد نزعة “الإنفصال” كما يقول أهل الشمال

في ذكرى خروج البريطانيين من الجنوب استطلعت صحيفة “4 مايو” العدنية (29 تشرين الثاني/نوفمبر 2021) مجموعة من المثقفين وحملة الشهادت العُليا ومن ضمنهم فيصل حسين البعسي واشتياق محمد سعد وحسين مثنى العاقل فقالوا على التوالي “يمننة الجنوب العربي غلطة كبرى ـ اليمننة لم تكن خياراً موفقاً ـ اليمننة كارثة وخديعتها القسرية الدولة الجنوبية”.

وفي التاسع عشر من حزيران/يونيو 2022 نشرت صحيفة “اليوم الثامن” العدنية مقالة عن “خصوصية وقومية الجنوبيين” تضمنت التالي “كانت جميع سلطنات الجنوب العربي تتحد عسكريا ضد القوى الدخيلة، كانت هناك مشاكل حدودية بين سلطنة عُمان والسلطنة المهرية التابعة للجنوب العربي، وكانت حروب السلطنة الكثيرية التابعة للجنوب العربي ضد المملكة العربية ومن ضمن معارك الجنوب العربي ضد الدول الغربية بريطانيا والبرتغال وتركيا، وجميع المعارك فشلت في الإستمرار في احتلال الجنوب العربي وانتصر الجنوب العربي شعباً وأرضاً”.

إلى أين بعد هذا السرد والعرض؟

لا احد يعرف، لكن ثمة عشرات بل مئات من الردود على هذه “الخصوصية الجنوبية” ومن ضمن تلك الردود هذه المقالة المختارة والمنشورة على موقع “مأرب برس” وفيها:

“مصطلح الجنوب العربي ومدلوله السياسي أول من إستخدمه كانت رابطة أبناء الجنوب وهو بمفهوم مؤسسي الرابطة يعني اليمن الطبيعية اليمن الكبرى وقد شرح ذلك مؤسس الرابطة الراحل الكبير السيد محمد علي الجفري في نص محاضرته التي ألقاها في اتحاد طلبة الكويت بالقاهرة بتاريخ ٢٨ كانون الأول/ديسمبر ١٩٥٦بقوله: في واقع الأمر بل وفي مصطلح الحركة الوطنية في الجنوب يُطلق الجنوب العربي على اليمن الطبيعية لكافة أجزائها ونواحيها فحدود الجنوب العربي هي المملكة العربية السعودية شمالاً وبحر العرب جنوباً والخليج شرقاً والبحر الأحمر غرباً وبذالك تشمل كلمة الجنوب العربي المملكة اليمنية المتوكلية، عدن وما يسمى بمحمياتها الشرقية والغربية”.

أخيراً لا بد من هذا السؤال: بين الجنوب والشمال في اليمن إشكالية في الهويات أم إشكاليات في السياسات؟

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  رواية نتنياهو عن هتلر وأمين الحسيني يُكّذبها كاتب فرنسي