من هو رئيس إدارة التوازنات اللبنانية الهشة؟

تعالوا نتأمّل مليًّا في تفاصيل المشهد الجيوسياسي الشرق أوسطي الشامل حول لبنان؛ ماذا نرى على السطح وفي باطن المحيط الإقليمي المتلاطم؟

أمام ناظرنا تنجلي ظواهر تراجع الدور القيادي الأميركي في منطقة الشرق الأوسط الحاضنة لمصائر العرب والإيرانيين والأتراك (باستثناء التدخّل الأميركي في حالات محددة، مثل الترسيم البحري في شرق المتوسط، على خلفيّة الحرب الطاقوية التي تسببت بها الأزمة الأوكرانية)، وينبري أيضاً عجز الرافعة الإسرائيلية للسياسة الأميركية الإقليمية عن السيطرة على الموقف في فلسطين المحتلّة أمام تصاعد المقاومة المسلّحة أو الشعبيّة في القدس والضفة الغربية.

وفي هذا السياق الجيوسياسي، ينبلج زمن جديد في الإقليم يصير فيه اللاعبون إقليميين بالدرجة الأولى، بل يزداد نفوذهم وقدرتهم على تغيير أو تعديل الوضع القائم، ويتقدّم هؤلاء إيران وتركيا والسعودية، من دون أن ننسى التموضع الروسي في الأزمة السوريّة الذي لا يمنع الحرب الخفيّة هناك بين إيران وإسرائيل، ومحاولة الدولة اليهوديّة تصدير أزمتها الفلسطينيّة إلى دائرة التطبيع العربي المحدود.

بروز تكتل عربي

ومن الظواهر الدالّة على تحوّلات إستراتيجيّة على النطاق الإقليمي، توسّع النفوذ والدور الإيرانيين في المنطقة وانخراط طهران في نوعٍ من “الإدارة المشتركة” للحالة العراقية المضطربة مع الأميركيين، وإصرارها على المضيّ قُدماً في برنامجها النووي على الرغم من عوائق العقوبات والضغوط الغربيّة الشديدة؛ كذلك تعزيز الشراكة الاستراتيجيّة الصينيّة السعوديّة في ظلّ تراجع العلاقات التاريخيّة بين واشنطن والرياض، فضلاً عن تفعيل الشراكة الاستراتيجية الإيرانيّة الصينيّة؛ وأخيراً بروز تكتل عربي خليجي مصري يحاول تعويض غياب العمل العربي المشترك على المستوى القومي، والتعامل مع النزعة الأميركية الآيلة إلى اتّباع إستراتيجية تجميد الأزمات في فلسطين ومع إيران، وهي سياسة يمكن أن تُدرج في إطار إدارة الأزمة على مستوى منخفض من التوتّر (في سوريا وليبيا واليمن..) وإن كان الجيل الثوري الجديد في فلسطين يحاول تغيير قواعد اللعبة في القدس والضفّة الغربية.

تبدو قوى المعسكر الآخر القريب من المحور الإيراني السوري قادرة على التصرّف والتعطيل، وفي الوقت نفسه، عاجزة عن الانتصار والإنجاز. ولذلك سيفضي هذا التوازن، على الأرجح، إلى رئيس لإدارة الأزمة بالحدّ الأدنى من التوتّر، وذلك إستناداً إلى القاعدة التي تقضي بتحييد “الساحة اللبنانية” عن النزاعات الملتهبة في الشرق الأوسط

التوازن اللبناني المطلوب

وفي لبنان أيضاً تجري إدارة الأزمة اللبنانيّة تحت عنوان تجميد الوضع الداخلي وتحييد لبنان عن الأوضاع الملتهبة من حوله في المنطقة، على الأقل خلال مرحلة انتقاليّة ليس معلوماً كم ستطول مدّتها.

واللافت للإنتباه في المبادرة غير المتبلورة ظاهراً والتي تطرح قائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون مرشّحاً توافقيًّا لمنصب رئيس الجمهورية، أنها تعكس عدم قدرة القوى المحليّة المتحالفة مع الغرب على الذهاب بعيداً في تغيير معادلة ميزان القوى المحلي.

في المقابل، تبدو قوى المعسكر الآخر القريب من المحور الإيراني السوري قادرة على التصرّف والتعطيل، وفي الوقت نفسه، عاجزة عن الانتصار والإنجاز. ولذلك سيفضي هذا التوازن، على الأرجح، إلى رئيس لإدارة الأزمة بالحدّ الأدنى من التوتّر، وذلك إستناداً إلى القاعدة التي تقضي بتحييد “الساحة اللبنانية” عن النزاعات الملتهبة في الشرق الأوسط، وهي القاعدة التي تسمح بتحوّل وظيفة الانتشار العسكري لحزب الله في سوريا إلى منع إمتداد نار الإقليم إلى الداخل اللبناني، أي تدعيم البنية السياسيّة اللبنانيّة لكي تتحمّل أعباء الدور الإقليمي للحزب بالتفاهم الكامل معه.

بعبارة أخرى، سيكون لدينا صيغة للتوازن النسبي بضمانات توفّرها سقوف إقليمية/دولية متعدّدة ومتداخلة تعمل كلّها لضبط التوازنات في هذه المرحلة الإنتقالية التي يصعب التكهن مسبقاً بأمدها.

إدارة الأزمة اللبنانية

عنوان المرحلة في لبنان إدارة الأزمة أو التجميد على مستوى منخفض من التوتّر، بل هو استراتيجية الحدّ من الخسائر، إذ يتم اللجوء إلى التجميد للحؤول دون تحوّل الواقع الحالي المأزوم ـ والقابل للتأزم أكثر ـ إلى فوضى شاملة. ومردّ الهامش الذي يجري التحرّك ضمنه، إلى طبيعة التوازن بين طرفَي الصراع والتي لا تسمح بأي تغيير بنيوي.

وإذا حاولنا إعمال أدوات التفكير الاستراتيجي في الأزمة اللبنانية، فإنّ هذا السعي يقودنا إلى اعتماد مفهوم “التوازن الرجراج” من الخارج إلى الداخل وليس العكس.

بناءً على ما تقدّم، لا تغيير يلوح في الأفق لوظيفة لبنان ـ “المنطقة العازلة” كون مهمّة “صندوق البريد الصراعي” في إطار لعبة التحييد النسبي، لا تلغي هذه الوظيفة التي تبقى مستمرة إلى أن يحين أوان سقوط التوازن الجيوسياسي الهشّ أو يتمّ الانتقال إلى مرحلة جديدة.

سلاح حزب الله

انطلاقاً من الحالة الموصوفة بأنّ كل شيء مجمّدٌ في لبنان على الأرض، لا يعود موضوع سلاح حزب الله مطروحاً على جدول الأعمال، بل المطروح إدارة هذا السلاح على نحو مشترك ومنسّق، ما يعني أنّ الحزب يتجنّب تفجير حرب بقرار ذاتي أو بقرار من حلفاء إقليميين، وأنّ قضايا الحرب والسلام مثل عمليّة ترسيم الحدود البحريّة أو معالجة ملف النازحين السوريين، تُدار بصورة مشتركة مع الدولة ومؤسّستها العسكرية.

إقرأ على موقع 180  معادلات الردع الحدودية تتوالى من أفيفيم إلى رامية

هذه الصيغة قابلة للتطبيق في ظلّ حكم رئيس إدارة الأزمة الجديد على أساس تفاهم ضمني مع حزب الله: لا عمليات هجومية للمقاوَمة عبر الحدود جنوباً؛ الجيش اللبناني موجود على الحدود مع قوات “اليونيفيل”؛ سلاح حزب الله الدفاعي تحت الأرض. الجانب الخفي من التفاهم أن الحزب يُبقي سلاحه معه لكنه يمتنع عن القيام بعمليّات تحريك تؤدي إلى تغيير قواعد اللعبة، والنتيجة هي نصف مصالحة مع القرارات الدولية.

ويمكن أن نتصوّر أن صيغة من نوع “لا يُنزعُ سلاحك ولا أنت تستخدمه” وسْطَ استمرار المناظرة حول إدماج قوّات المقاومة بمشروع الدولة وفقاً لمفهوم محدّد للاستراتيجيّة الدفاعيّة.. هذه الصيغة قابلة للاستمرار ما لم يُفجّرها الوضع الإقليمي، وليس من بديل واقعيًّا من هذه الصيغة كون نزع سلاح حزب الله لا يمثّل خياراً عاقلاً في ظروف لبنان والإقليم.

وهكذا فإنّ لبنان بصدد إدارة معضلة سلاح حزب الله من طريق تجميدها بشكل إيجابي، فليس المطلوب الآن إدماج قدرات حزب الله العسكرية بجيش الدولة اللبنانية، بل البحث في مهدّئات من نوع الخوض في ترتيبات ومقوّمات الاستراتيجيّة الدفاعيّة.

مرحلة ضبابية

ونظراً إلى كون لبنان والمنطقة في مرحلة انتقاليّة قد تفضي إلى تسوية سوريّة في سياقات كارثة الزلزال التي ضربت شمال سوريا وجنوب شرق تركيا، أو إلى تصعيد المواجهة بين إسرائيل وإيران، فإنّه علينا أن نتوقّع أن يتشدّد حزب الله في التمسّك بسلاح المقاومة مقابل الامتناع عن محاولة كسر “الستاتيكو” على الحدود الجنوبيّة أو تغيير قواعد اللعبة والإشتباك. وثمّة من يقول إن هذه “الضمانة” المُعرّضة للسقوط في حال نشوب حرب بين إيران وإسرائيل، تبقى فاعلة في مرحلة ضبابيّة لا نعرف فيها إلى أين نحن ذاهبون، وما إذا كانت هذه المرحلة ستطول في ظلّ الاستقطاب الدولي الجديد الناتج من المواجهة الأطلسيّة الروسيّة في أوكرانيا وشرق أوروبا.

يمكن أن نتصوّر أن صيغة من نوع “لا يُنزعُ سلاحك ولا أنت تستخدمه” وسْطَ استمرار المناظرة حول إدماج قوّات المقاومة بمشروع الدولة وفقاً لمفهوم محدّد للاستراتيجيّة الدفاعيّة.. هذه الصيغة قابلة للاستمرار ما لم يُفجّرها الوضع الإقليمي، وليس من بديل واقعيًّا من هذه الصيغة كون نزع سلاح حزب الله لا يمثّل خياراً عاقلاً في ظروف لبنان والإقليم

يبقى لبنان في لحظة التشابك المتزايد بين أزمات المنطقة وملفّاتها الساخنة، في حالة تسوية تجميديّة تقضي بتحييده عبر تجميد ملف حزب الله في انتظار أن تتّضح صورة المواجهة التفاوضية حول البرنامج النووي الإيراني، إلّا أن ثمة من يعتقد في واشنطن أنّ “الصفقة” المنشودة مع إيران تنتظر قراراً من رأس المؤسسة الحاكمة في طهران. قرارٌ يقضي بقبول العودة إلى الاتفاق النووي للعام 2015. وهذا يعني أنّ دونالد ترامب (أو أي جمهوري آخر) إذا تم انتخابه رئيساً لن يكون في إمكانه العودة إلى منطق التصعيد، لأنه سيكون محاصراً بضغوط كبيرة لتمرير صفقة مع إيران تسمح بإزالة عوامل التشنّج والتعامل مع الملف النووي الايراني بعيداً عن مجلس الأمن وضغوط الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة، وبالتالي الشروع في حوار مع إيران يتجاوز الملف النووي إلى مواضيع الخلاف الإقليمية.

في هذه الأثناء، يُتوقّع أن تحافظ إدارة جو بايدن على لغتها وخطابها السلبي إزاء إيران، لكن الحصيلة الإيجابية أن الإدارة الأميركية التي أُصيبت بارتباك شديد نتيجة إقدام السعوديّة على توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع الصين عقب فشل بايدن في إقناع حكومة الرياض برفع إنتاج النفط، تجد نفسها مضطرّة إلى تجميد الأزمة مع إيران بذريعة قمع السلطات حركة الاحتجاج المدنيّة والتعاون العسكري بين طهران وموسكو على الجبهة الأوكرانيّة.

المفارقة أن لبنان هو من الملفّات المعقّدة والدقيقة للمواجهة بين إيران وأميركا، إذ من الصعب أن تترك الأخيرة لطهران حرّية التموضع على حدود فلسطين، وأن يكون لها خطّ ارتباط متواصل حتى شرق المتوسط، في الوقت الذي تُمسك إيران بأوراق موضوعيّة في المجال اللبناني: القوة الشيعيّة والتنظيم والمال، وهذه لن تتخلّى عنها طهران للآخرين، وهي لا تعتمدها وسيلة للضغط والتأثير فحسب، بل طاقة لتغيير موازين القوى كما يظهر من فاعليّة المقاومة المسلّحة في الضفّة الغربيّة المحتلّة ودعم “القاعدة الآمنة” في قطاع غزّة.

Print Friendly, PDF & Email
ميشال نوفل

كاتب وصحافي لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  كرة القدم التركية.. كثيرٌ من السياسة وقليلٌ من الرياضة!