أقرأ الكتب المتنوعة في جلسة واحدة أو أكثر وربما تركت الكتاب ليبرد من سخونة أصابت كاتبه ولهاثه، ولكي لا أحرق أصابعي. أحياناً أمل فأحمل واحداً وأترك الآخر.
عدد صفحات الكتاب لا يجعلني أخشاه، كل شيء عدد إلا الإنسان نوع. الكتاب الدسم هو الذي يستحوذ تفكيري عن الحب والموت والشر وسائر المشاعر الإنسانية.
قد يكون النص قليل الدسم. ذلك مخصص لأوقات الليل. المهم أن تصدقه، لا قيمة لنص جميل لا يُكتبُ لك.
في الغالب والكثير من الأوقات يكون من السهل تحبير الصفحات بالنسخ واللصق. الأصعب والأكثر عناءً وإرهاقاً في عملية الكتابة هو تقليص عدد الصفحات والسطور والكلمات والحروف. محو الرسائل عملية معقدة.
كيف تلغي فكرة خطرت ببالك تمزق أحشاءك ثم ترمي بها في البحر؟
عدة أسطر تنقط من رؤوس الأصابع ثم تمحوها، رأفة بالصغار وبالطفولة المجروحة.
ليس القلم كافياً لصباح هادئ وقلق في نفس الوقت. لعقلي دوائر قرار تقرأ الممحي وما تيسر وتعسر من كثافة الرموز والمجازات والإشارات والإستعارات. القراءة ركض في الفراغ وهرولة في هالة المعنى.
ليس هناك عبرة في لغة مقعرة تحتاج إلى قاموس المحيط. تقول الحكاية إن جندياً أرسل إلى حبيبته رسالة من الجبهة. رسالة طويلة في عدد من الصفحات، ذيلها بالملاحظة التالية: أعتذر لك عن هذه الرسالة الطويلة، لم أجد الوقت الكافي لكتابة رسالة قصيرة.
تشكره. على الأقل وجدت وقتاً لي.
الكاتب ليس بالضرورة شاعراً والشاعر ليس بالضرورة أستاذ لغة والمعلمون ليسوا بالضرورة أساتذة.
سوف أتناول كل الكتب فقط حين تنمو يداي التي قطعها المغول حين مددتها لأتناول طعم الحب في كتاب وأشم ريحة الزهر في بلادي.
لكي أقرأ أحتاج إلى أكثر من عينين، أنا أقرأ بكل حواسي الأرضية والسماوية.
هكذا كتبت زينب شرف الدين “ضمة” بذراعين مفتوحتين وشفتين مزمومتين.
هي مجموعة قصصية عن الإحتضار والموت. عن الحب والحدس والجنس والإنسان والواقع والأمهات.
حين تحب الكاتب لا بد وأن تصبح أسير هذا الحب.
بهذا المعنى لا أكتب نقداً ولكن أجدني أحب الكتاب بكل إلتماعاته وعيوبه إن وجدت، ولا يعيب الكتب ولا يقتلها إلا قلم مغرور نرجسي.
لست ديمقراطية كفاية لتقبل الكتاب الواحد والقالب المكسور، ولا ديكتاتورية لأن امزق كتباً توضع على الرفوف المغبرة.
إنه عالمٌ متوحشٌ لا رحمة فيه.
لقد فتحنا كل العلب، علبة الأحلام المسروقة والأخيلة المتشابهة، وعلب النوم والأرق ولعبة الحظ المتعثرة.
ها هنا تولد قاصةٌ من الواقع..
أتساءل عن الدرس والحكمة التي ينوي الله تلقينها لنا بأن يمتحننا بأقوى وأشد المحن. هل وجد فينا نموذجاً يمكن إتباعه مثل “موديل” بين يدي نحات محترف.
تشكيل جديد وواقعي بين يدين تنحتان النص وتدسان فيه موسيقى باخ وصوت أريثا فرانكلين.
القصة ليست أكذوبة. هي قالب مأخوذ من حيوات فيأتي من يساعد في تدوينها وترتيلها وتداولها شفاهة من جيل إلى جيل. القصة مقدسة، ولا تُشير إلى زمنٍ مُحددٍ بل إلى حقيقة أزليَّة، من خلال حدث جرى، وهي ذات موضوعات شمولية كبرى، مثل: الخلق، التكوين، أصول الأشياء، الموت، العالم الآخر.. شيء يشبه الأساطير، فإذا لم يكن لنا رأي بالموت وموعده ولا بالحب ومنقلبه، ومشاعرنا الدفينة ، فليكن لنا رأي بالقيامة مهما طال الزمن أو ضاق المكان.
زينب شرف الدين تكتب ونحن نقرأ ونمضي معها إلى عالم الواقع والخيال الواقعي.
لم تبقَ سوى لعبة القدر، روليت روسية تدير الفوهة إلى صدغ الحب والحياة، هكذا هي قصص زينب شرف الدين. قصصنا جميعاً. أصابتنا زينب في “ضمتها”. أضُمكِ يا صديقتي إلى قصتنا المشتركة، وحتماً لا بد أن تولد قصص جديدة.