يقول ماك كايزر في مقاله إن جنوب أفريقيا تتعلل بانتمائها إلى حركة عدم الانحياز، الأمر الذى يفرض عليها اتخاذ موقف محايد من أطراف النزاع. ويتساءل الكاتب هل يجوز الوقوف على الحياد بين الخير والشر أو بين الحق والباطل، ثم يوجه كلامه إلى جنوب أفريقيا متسائلا: هل وقف العالم على الحياد إزاء مشكلة الفصل العنصرى (الأبارتيد) فى جنوب أفريقيا أم انحاز للحق وقاوم ــ مع الشعب الجنوب أفريقى ــ هذا الظلم الواقع عليهم، ويجيب بأن العالم لم يتخذ موقف الحياد إزاء سياسة الأبارتيد بل اعتبرها جريمة ضد الإنسانية وقام بطرد حكومة جنوب أفريقيا العنصرية من الأمم المتحدة وفرض عليها العقوبات.
هنا يلزم أن نوضح أنهم عندما يتحدثون فى الغرب عن العالم أو المجتمع العالمى أو الرأى العام العالمى فهم يقصدون العالم الغربى.. فكثيرا ما نسمع أن المجتمع الدولى يدين كذا أو أن المجتمع الدولى يقف مع حق إسرائيل فى الحياة ويكون المقصود بالطبع هو الكتلة التى تضم أساسا الدول الأوروبية والولايات المتحدة وكندا وأستراليا، وهى الكتلة المعروفة بالأمم المتحدة باسم غرب أوروبا وآخرين وهى ليست مجموعة جغرافية بقدر ما هى مجموعة جيوسياسية..
وأعترف بأنه حتى عام 1960 كانت هذه المجموعة تمثل العالم فعلا حيث كانت تسيطر على الأمم المتحدة وسائر المنظمات الدولية سيطرة شبه كاملة، وكانت تملك الأغلبية الساحقة لعدد الأعضاء فلم تكن معظم الدول الأفريقية والآسيوية قد استقلت بعد، كما كان الاتحاد السوفيتى والدول الدائرة فى فلكه لا تتجاوز عدد أصابع اليدين.. فمثلا لم يكن فى أفريقيا سوى ثلاث دول مستقلة هى مصر وإثيوبيا وليبيريا، وكان عدد الدول الآسيوية المستقلة أيضا قليلا، فلم تكن الهند ولا باكستان قد استقلتا وكذلك دول الآسيان العشرة.
ولكن عندما يقول كاتب المقال إن العالم وقف ضد العنصرية فى جنوب أفريقيا فهذا غير صحيح بالمرة، فالحقيقة أن العالم لم يقف ضد العنصرية إلا بعد استقلال الدول الأفريقية والآسيوية ودخولها بالعشرات إلى الأمم المتحدة وطرحها بقوة لقضايا الاستعمار والعنصرية.. أما قبل ذلك وبالتحديد قبل منتصف الستينيات الماضية فكانت دولة جنوب أفريقيا العنصرية تنعم بعضوية الأمم المتحدة وسائر المنظمات الدولية دون أى اعتراض من أى دولة غربية.
صحيح أن روسيا استُفزَت كثيرا من قبل الغرب وزحف حلف الأطلنطى حتى وصل إلى أكثر الحدود الروسية حساسية وهى أوكرانيا التى كاد أن يضمها إلى عضويته واستنفر بذلك كل الهواجس الأمنية التاريخية لروسيا.. ولكن ذلك لا يبرر الغزو والعدوان، الذى لا أملك إلا إدانته
الحقيقة الثابتة التى أغفلها الكاتب أن زعيمة عالمه الغربى قامت بغزو العراق بدون تصريح من مجلس الأمن واستنادا إلى أدلة مزيفة حول امتلاكه أسلحة دمار شامل، وشاركت بريطانيا مشاركة فعالة فى الغزو وكثير من الدول الغربية مشاركة رمزية باستثناء فرنسا التى رفضت المشاركة وطالبت بمزيد من البحث والتحقق.
فهل تدمير العراق يعد من أعمال الخير فى الميزان الغربى؟ وما الفرق بين غزو العراق وغزو أوكرانيا؟.. هل اختار العالم الغربى أن يقف إلى جانب الخير وضد الشر فيما يحدث فى فلسطين من جرائم بشعة ضد الإنسانية والتى لم تتوقف منذ ما يقرب من 75 عاما؟.. الحقيقة أنه اختار أن يقف مع المعتدى ضد الضحية.. ألا يعلم كاتب المقال أن الاستيطان جريمة من جرائم الحرب؟ وأن التهجير القسرى للسكان جريمة من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وأن استمرار الاحتلال هو نوع من أنواع العدوان وفقا لقرارات الأمم المتحدة؟
لماذا لم تصدر المحكمة الجنائية الدولية قرارا باعتقال جورج بوش الابن وتونى بلير وتوجيه الاتهام إليهما عن غزو العراق كما فعلت مع رئيس دولة عظمى وعضو دائم بمجلس الأمن وهى روسيا؟.. صحيح أن نظامها الأساسى لم يكن قد دخل حيز النفاذ وقت الغزو، لكن الجرائم التى تختص بها المحكمة لا تسقط بالتقادم..
ولماذا لا يوجه الاتهام إلى بنيامين نتنياهو وسائر الساسة الإسرائيليين بينما أضابير المحكمة الجنائية الدولية مليئة بتفاصيل الجرائم الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطينى.. حتى الجوانب الإنسانية البحتة قد طالتها التفرقة.. فقد ثبت بالفعل أن اللاجئين الأوكرانيين هم اللاجئون حقا وأن الغزو الروسى هو الغزو الحقيقى وأن الاحتلال الروسى هو الاحتلال وما دون ذلك فليس احتلالا بل أراضٍ متنازع عليها.. وأن الحق واضح والباطل واضح فى النزاع الروسى الأوكرانى ولكنه غير واضح فى النزاع الفلسطينى الإسرائيلى لذلك فإن أى موقف للحياد أو عدم الانحياز تجاه الحرب على أوكرانيا هو موقف غير أخلاقى.
***
أقول ذلك بالرغم من أننى أتعاطف مع الشعب الأوكرانى وأتألم للمآسى التى يعانيها وأدين الغزو الروسى الذى أراه خرقا صريحا لميثاق الأمم المتحدة وخطأ استراتيجيا فادحا ارتكبته روسيا وفقدت بسببه الكثير من سمعتها وهيبتها واقتصادها وعلاقاتها الدولية.. صحيح أن روسيا استُفزَت كثيرا من قبل الغرب وزحف حلف الأطلنطى حتى وصل إلى أكثر الحدود الروسية حساسية وهى أوكرانيا التى كاد أن يضمها إلى عضويته واستنفر بذلك كل الهواجس الأمنية التاريخية لروسيا.. ولكن ذلك لا يبرر الغزو والعدوان، الذى لا أملك إلا إدانته..
ولكننى فى نفس الوقت أدين المعايير المزدوجة وأدين تصنيف الشعوب بمقياس لون البشرة والاختلافات العرقية والدينية واللغوية والثقافية… فهل غزو أوكرانيا جريمة وغزو العراق خدمة للإنسانية، والدم الأوكرانى مقدس والدم الفلسطينى والأفغانى وسائر دماء شعوب العالم الثالث هى دماء مستباحة؟.
***
لقد اطلعت على رسم كاريكاتورى معبر يمثل طفلا أوكرانيا لاجئا يرتدى ملابس جميلة ويحيط حوله عدد من المستقبلين يلاطفونه ويقدمون إليه كل أنواع الرعاية والعناية بينما يقف من بعيد طفل أفريقى ينظر إلى الطفل الأوكرانى بإعجاب ممزوج بالحسرة ويقول «هذا هو اللاجئ الحقيقى».. إننا نذكر كيف قوبلت أفواج اللاجئين السوريين الذين حاولوا الوصول إلى أوروبا سيرا على الأقدام وكيف قوبلوا بخراطيم المياه والأسلاك الشائكة وأحيانا بالرصاص الحى..
أيها الخجل أين حمرتك، وأيها الغربيون ألا تخجلون؟
(*) بالتزامن مع “الشروق“