“الملكة كليوباترا” .. والتلاعب بالتاريخ منذ 2053 سنة!

نشهد منذ بضعة أسابيع نقاشاً حامياً حول شخصيّة كليوباترا وما إذا كانت بيضاء البشرة أم سوداء، وهل أصلها أوروبّي أم مصري، ولعل أكثر ما لفت إنتباهي في هذا النقاش هو تمادي الخطاب العنصريّ وتمدّده في معظم ثنايا مجتمعاتنا الحديثة.

سبب النقاش هو مسلسل وثائقي – درامي (Docudrama) سيعرض قريباً عبر خدمة نتفليكس (Netflix) عنوانه “الملكة كليوباترا” (Queen Cleopatra)، مخرجته إيرانيّة-بريطانيّة-أمريكيّة اسمها تينا غروي (Tina Gharavi)، وتلعب فيه الممثّلة السوداء أَدِل جَيْمْس (Adele James) دور البطولة.

أعمال الـ Docudrama ليست بجديدة في عالم التلفزيون والسينما. تمزج بين التمثيل والمحاكاة لوقائع وحوادث تاريخيّة، وبين المقابلات مع مؤرّخين وباحثين يُقدمون آراء “علميّة” في الموضوع. لكن من الخطأ الإعتقاد أنّ الدرامي هو خرافي والوثائقي هو حقيقة. ففي كثير من الحالات، يمكن للوثائقي أن يكون أكثر خرافةً من الدرامي، خصوصاً حين نأخذه من مصادر ملفّقة أو غير كاملة، أو إذا كانت مصادره تعبّر عن وجهة نظر فريق معيّن ولا تعطينا الصورة كاملةً. لذلك معظم ما نعرفه في وقتنا الحالي عن الكثير من الحقب التاريخية بُنيَ على “حدس” و”ظنّ” و”ترجيح” و”تحليل” وغذّاها كلها الخيال الواسع للباحثين والمؤرّخين وعلماء الآثار.

علينا إذاً أن نتعامل مع مسلسل من هذا النوع بوصفه فناً تُعبّر من خلاله المخرجة وكاتبة السيناريو والممثلين والممثلات وغيرهم عن رؤيتهم الفنّيّة والخياليّة لموضوع تاريخي معين. رؤية تجعلهم لا يختلفون عن الكثير من المؤرّخين القدماء ممن لعب خيالهم وحسّهم الأدبي دوره في قراءة الماضي وروايته.

من دون شكّ، ليس النقاش حول كليوباترا وأصلها بجديد. يقول الجغرافي سترابو (توفي حوالي سنة 24 قبل الميلاد، وهو من معاصري كليوباترا)، إنّها كانت ابنة غير شرعيّة لأبيها المقدوني الأصل بطليموس الثاني عشر. والأرجح أنّ كلام سترابو يشير إلى روايات تقول إنّ أمّ كليوباترا كانت مصريّة (وهناك لغط أيضاً حول ما إذا كانت أمّ أبيها مصريّة أيضاً). إذاً، الأصل المقدوني الصرف لكليوباترا ليس بثابت. (ولا أريد الدخول هنا في إشكاليّة الكلام عّما إذا كان المقدونيّون القدماء “أوروبيّين” وبشرتهم “بيضاء”).

وتعكس الصور القديمة لكليوباترا هذا الخلاف حول أصلها، حيث أنّ الرسومات والمنحوتات التي أنتجها وتداولها الرومان لها كانت على شاكلة كثير من صور النساء الرومانيّات البرجوازيّات في ذلك الوقت، بما في ذلك شعرها وتعابير وجهها ولباسها. بينما في الرسومات والمنحوتات المصريّة، نجدها شبيهة بملكات مصر من عصر الفراعنة. بمعنى آخر، كلّ فريق صوّر كليوباترا كما تخيّلها، وهذا لا يعكس بالضرورة شكلها الحقيقي. وهذه مشكلة عامّة في التاريخ القديم، حيث لم يكن هدف الرسومات تصوير الواقع والحقيقة، بل إبراز الأبعاد العقائديّة والجماليّة للموضوع أو الشخص.

مثلاً، إذا أخذنا المسيح كنموذج، نجد أنّ الأقباط المصريّين رسموه أسمر البشرة على شاكلتهم، بينما نجده في بلاد الحبشة، أكثر إسمراراً على شاكلة الأفارقة هناك، وفي أوروبا، نجده أبيض البشرة وأشقر الشعر. إذاً، كل فريق يصوّر المسيح على شاكلته. وكذلك، الرسومات التي لدينا عن النبي محمّد من العصور الكلاسيكيّة، وأكثرها تبرزه وكأنّه تركي/صيني الشكل، وذلك لأنّ المعتقد في ذلك الوقت عند من أنتج هذه الرسومات أنّ الجمال هو على شاكلة الصورة الكلاسيكيّة للبوذا (تحديداً، واسع الوجه وممتلىء الجسم).

السؤال هنا: هل لنا أن نثق بأنّ تماثيل كليوباترا وصورها، ومعظمها متأخّرة، واقعيّة أم من مخيّلات رسّامين صوّروها وفقاً لما اعتقدوه بشأن معايير الجمال والجلالة في وقتهم؟

من الصعب الإجابة عن هذا السؤال من منطلق تاريخي، كوننا لا نملك أي دليل قاطع عنها، مقارنةً مثلاً، ببعض الملوك الفراعنة الذي اكتشف علماء الآثار مومياءاتهم ويمكن تحليلها لمعرفة شكل الجسم ولون البشرة وأشياء أخرى عن العرق والتي تختلف عما نعرفه عن صورهم في التماثيل (ولكنّ ينجرف العلماء كثيراً ليضيفوا أموراً وروايات لا يمكن استخلاصها بتاتاً من المومياء).

أبغض شيء في هذا النقاش الحامي الوطيس حول كليوباترا هو البعد العنصري الواضح الذي تغذّيه قناعات عرقيّة. أيضاً، هناك جانب يتعلّق بخرافة الأصل الأوروبي الأبيض لكليوباترا وكأنّ أي إقرار بأنّها كانت سمراء أو سوداء هو عارٌ على المصريّين (وهو من دون شكّ أمر يختلف حوله أهل مصر، لكنّه يكشف حجم تفشّي العنصريّة لدى البعض). فنجد من يتلطّى بـ”التاريخ” و”الحقيقة” وحتّى بـ”الإسلام” ليقيم الدنيا ضدّ المسلسل ومخرجته ويُخفي عنصريّته المقيتة، وكأنّ سواد كليوباترا هو تلويث لحمضه النووي (DNA).

استطراداً، يروي ابن الجوزي (ت. 1201) في كتابه “تنوير الغَبَش في فضل السودان والحَبَش” أنّ “علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان ذو القرنين أسود”. لنفكّر في تبعيّة هذا الأمر: إذا كان ذو القرنين أسود البشرة، وكثير من علماء الإسلام يعرّفون ذو القرنين بأنّه الإسكندر المقدوني، فينتج عن ذلك أنّ الإسكندر المقدوني كان أسود اللون، وعند ذلك، من غير المستبعد أن يكون البطالمة وكليوباترا سود. إنتهى الإستطراد.

إقرأ على موقع 180  «الاختيار 3».. دراما وثائقية أم معالجة أمنية؟

أختم بالقول إن تيّاراً إجتماعياً قوياً يُريد إدخال كليوباترا في حقل ألغام الصراع العرقي في الولايات المتّحدة الأمريكيّة عبر إختراع أبطال سود من التاريخ يستخدمهم/يستخدمهن لنسج هويّة جديدة للسود تتجاوز طغيان عصر العبوديّة ومشاكله في هويّتهم الحاليّة. في هذه الحال، نجد كثيراً من التركيز على تراث إفريقيا القديم واستخدامه، خصوصاً في الأفلام والمسلسلات، على أنّه تراث أسود، وكأنّ السود هم فقط من عاش وازدهر في القارّة السمراء عبر التاريخ. من هنا الإصرار على جعل كليوباترا سوداء، والبحث في التاريخ لـ”إثبات” ذلك. في كلا الحالتين، نحن أمام استخدام التاريخ – عبر إنتقاء ما هو مناسب وموافق منه – لخدمة أجندة كل فريق. (وهذا النوع من المقاربة للتاريخ والتلاعب به أصبح رائجاً في عالمنا الحالي، إن في المجال الفنّي أو في المجال العلمي والأكاديمي، ويتعلّق بمواضيع كثيرة مثل المساواة بين الجنسين، المثليّة، الطبيعة والبيئة، إلخ..).

وبغضّ النظر عن الحقائق التاريخيّة والفن والخيال، فإن النقاش حول كليوباترا هو نقاش حول ما يعتقده (أو ما يريد أن يعتقده) كلّ فريق عن أصله وهويّته. أمّا كليوباترا، وطالما أن الترحم حق إنساني، ليرحمها الله ويُسكنها فسيح جنّاته، فهي ميّتة منذ 2053 سنة، ولا رأي لها يُسمع أو يُطاع!

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  ما بعد فيينا.. إنقلابات محتملة في الإقليم