بينما كان المبعوث الصيني الخاص لي هوي يجالس المسؤولين الأوكرانيين في كييف لشرح مبادرة السلام التي أطلقتها بكين في شباط/فبراير الماضي، ووقت كانت تَرجح الكفة لمصلحة الجيش الروسي وشركة “فاغنر” العسكرية الخاصة في باخموت، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن من مدينة هيروشيما حيث عقدت قمة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى بين 19 أيار/ابريل و21 منه، أنه قرّر السماح لدول تملك مقاتلات “إف-16” أميركية الصنع، بأن تتبرع بها لأوكرانيا.
قطع قرار بايدن الطريق على أي أمل في أن تجد المبادرة الصينية آذاناً صاغية في أوكرانيا، وأنهى مفعول الإتصال الهاتفي الأول بين الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في 26 نيسان/أبريل الماضي.
في هيروشيما، وجد زيلينسكي ما كان يلح في طلبه منذ أشهر، جوهرة السخاء التسليحي الغربي، وهي مقاتلات “إف-16” التي يرى أن أوكرانيا في حاجة ماسة إليها، كي تحقق التوازن الجوي مع روسيا وتكون قادرة على حماية الأجواء الأوكرانية. هذه المقاتلات تتفوق فنياً على مقاتلات من الحقبة السوفياتية من طراز “ميغ-29″ و”سو-27” التي تستخدمها كييف الآن؟
وإذا ما عطفنا عطاءات قمة هيروشيما على ما حصل عليه زيلينسكي من وعود تسليحية وإقتصادية خلال جولته الأوروبية التي سبقت قمة هيروشيما بأيام، وأبرزها صواريخ “ستورم شادو” البريطانية بعيدة المدى، يتكون اليقين بأن واشنطن والحلفاء يرون أن الوقت لم يحن بعد للحديث عن التفاوض، وأنه لا بد من إنتظار الهجوم الأوكراني المضاد الذي يمكن أن يسفر عن نتائج ميدانية، وفق حسابات الغرب، تقلب الطاولة وتقنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالتسليم أنه خسر هذه المرة الحرب وليس معركة فقط، كما حدث في خاركيف وخيرسون في الصيف والخريف الماضيين.
إن عدم إحراز تأثير في الجبهة الإقتصادية، يُحفّز الغرب أكثر على رفع سقف التحدي العسكري أمام بوتين، برغم المخاطر التي قد تترتب على تجاوز الكثير من الخطوط الحمر الروسية، وصولاً إلى الـ”إف-16″
الضربات التي ينفذها الجيش الأوكراني بالمسيرات أو بالتوغلات داخل الأراضي الروسية من حين إلى آخر (ضربات على منشآت الوقود والسكك الحديد في القرم والتسلل إلى بيلوغورود) تعتبر من مقدمات الهجوم، الذي لا يزال يتعين معرفة توقيته ومكانه. زيلينسكي يريد الذهاب مباشرة إلى القرم. في حين أن الحلفاء يحذرونه من هذه الخطوة ويعتبرون أنها مسألة قد تفوق قدرة الجيش الأوكراني بإمكاناته الحالية. مثل هذه الخطوة تعتبرها مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية “ليست فكرة جيدة من الناحية السياسية والإستراتيجية وتشكل مخاطرة بالنسبة لأوكرانيا البلد المرهق والمعتمد على الدعم الدولي الضعيف”.
والقائد السابق للقوات الأميركية في أوروبا اللفتنانت جنرال مارك هيرتلنغ، يشرح في مقال نشره في صحيفة “الواشنطن بوست” وجهة نظره لأسباب تأخر إنطلاق الهجوم المضاد، فيقول: “الأمر الأكثر صعوبة الذي يحتاجه رئيس الأركان الأوكراني الجنرال فاليري زالوجني خلال هذه الفترة الطويلة، هو تشكيل القوة المقاتلة الضرورية لشن مثل هذا الهجوم. وهو يحتاج إلى التداول في التعبئة الحالية مع حلفائه، الذين يدربون ويجهزون قواته في مناطق مختلفة من العالم. ومن ثم يحتاج إلى تنسيق تحريك هذه القوات إلى أوكرانيا- ومن ثم نشر هذه القوات في المكان الذي سيحدث فيه الخرق. إن مثل هذه المهمة المعقدة ستشكل تحدياً حتى لأفضل القادة”.
وأكثر المتفائلين بنتائج الهجوم المضاد لا يتوقعون أن يكسر الدفاعات الروسية في القرم، وربما يحقق إختراقات في زابوريجيا وشرق أوكرانيا، لكن معركة القرم لها حسابات مختلفة عسكرياً وسياسياً. رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية المنتهية ولايته الجنرال مارك ميلي، أعاد التذكير مجدداً قبل يومين في إجتماع إفتراضي للدول الداعمة لكييف، من أنه لا يعتقد بإمكان طرد القوات الروسية من كامل الأراضي الأوكرانية هذه السنة.
وقرار إرسال مقاتلات “إف-16” إلى أوكرانيا، لا علاقة مباشرة له بالهجوم المضاد، لأن التدرب على الجيل الرابع من المقاتلات يستغرق سنتين في العادة، بحسب الخبراء العسكريين. وعلى إفتراض أن الطيارين الأوكرانيين سيحصلون على تدريب مكثف، فإن هذه المقاتلات لن تدخل الخدمة الفعلية هذه السنة على الأقل. هذه المعادلة تقلل من الإمكانات المتاحة أمام الهجوم المضاد.
ولئن الحرب لا تحسب في الأدوات العسكرية وحركة الميدان، فإن جبهة العقوبات لا تعود على الغرب بالمردود الذي كان يتوخاه بعد 15 شهراً من بدء الحرب. صحيفة “الغارديان” البريطانية، كتبت أن “التقديرات الأولية التي أطلقها صندوق النقد الدولي بأن الإقتصاد الروسي سينكمش بنسبة 8.5 في المئة في عام 2022، جرى تعديلها إلى 2.5 في المئة. ويتوقع صندوق النقد نسبة نمو 0.7 في المئة هذا العام. ويستمر التضخم بالتراجع للسنة الثالثة بـ2.3 في المئة، أقل مما هو عليه الحال في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ومنطقة اليورو”.
ولأن العقوبات سلاح ذو حدين وتترك تأثيرها على الدول التي تفرضها أيضاً، هذا رئيس وزراء مقاطعة ساكسوني الألمانية مايكل كريتسشمر يدعو إلى إصلاح خط “نورد ستريم 1” ومعاودة ضخ الغاز الروسي. وفي إيطاليا، تم إنتخاب باولو سكاروني، أحد أعضاء الحرس القديم للتعاون الإيطالي-الروسي في مجال الطاقة، رئيساً لشركة إيني الإيطالية العملاقة للطاقة. هناك خشية في أوروبا مما يسميه الإعلام الغربي بـ”عودة الشرودرية”، نسبة إلى المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر، الذي يعتبر مهندس العلاقات التجارية بين ألمانيا وروسيا.
إن عدم إحراز تأثير في الجبهة الإقتصادية، يُحفّز الغرب أكثر على رفع سقف التحدي العسكري أمام بوتين، برغم المخاطر التي قد تترتب على تجاوز الكثير من الخطوط الحمر الروسية، وصولاً إلى الـ”إف-16″.
قرار إرسال مقاتلات “إف-16” إلى أوكرانيا، لا علاقة مباشرة له بالهجوم المضاد، لأن التدرب على الجيل الرابع من المقاتلات يستغرق سنتين في العادة، بحسب الخبراء العسكريين
قبل يومين، أعلنت بيلاروسيا نشر أسلحة نووية تكتيكية روسية على أراضيها. الخطوة هي رد مباشر على قرار واشنطن السماح بتزويد أوكرانيا بـ”إف-16″. وأهمية بيلاروسيا هي أنها تلك حدوداً مع ثلاث دول أطلسية وأعضاء في الإتحاد الأوروبي، وهي بولندا ولاتفيا وليتوانيا. ونائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديمتري ميدفيديف يتحدث مجدداً عن “ضربة إستباقية” إذا ما زوّدت أميركا كييف بأسلحة نووية، ويتحدث عن حرب “تستمر عقوداً”.
هذه التطورات جملة، لا تشي بنهاية سريعة لنزاع أخذت تأثيراته بالظهور في توازن القوى العالمي، وأتاح للصين أن تثبت قيمتها الإستراتيجية في القضايا الدولية أكثر فأكثر.
المسألة الأهم في أوكرانيا اليوم لم تعد تقاس بكسب معركة من هنا أو خسارة أخرى من هناك، وإنما تقاس من منظور أن ثمة حرباً متعددة الجبهات العسكرية والسياسية والإقتصادية. هل أوكرانيا وشركاءها في الغرب يقتربون من كسب هذه الحرب؟
حتى الآن، لا شيء يدل على ذلك.