“تحت الأضواء الكاشفة الساطعة، تنفجر حملة التيار الصدري بالضوضاء والألوان. المؤيدون يرفعون أعلام الزمرد عالياً، بينما يدندن أحد المساعدين أغاني تشيد بالمرشح من خلال مكبرات صوت صغيرة، ثم يقول: “نحن لا نمارس السياسة كما يفعل الآخرون. التصويت للتيار الصدري سوف يجلب لك الأمل”.
يضع حكيم الزاملي، المرشح عن التيار الصدري، يده على صدره، ويرسم على شفتيه ابتسامة صغيرة، ثم بإيماءة مخفية يقف على قدميه ويخطو ببطء نحو المنصة.
وبينما تستعد البلاد لإجراء انتخابات تشريعية غداً (الأحد)، فإن الاقتراع السادس منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003 أدى إلى تثبيت نظام سياسي جديد. ويبدو أن تيار رجل الدين الشيعي البارز مقتدى الصدر هو الذي سيكون “صانع الملوك”. إن الحصول على الحصة الأكبر من مقاعد البرلمان العراقي (329 مقعداً) سيكون بمثابة تتويج لجهود الصدر المستمرة منذ سنوات لتعزيز سلطته في صناديق الاقتراع، وفي الشوارع وفي جميع أنحاء مؤسسات الخدمة المدنية.
يُعتبر مقتدى الصدر شخصية بارزة داخل العراق وخارجه؛ له تاريخٌ طويل من المواجهات مع القوات الأميركية بعد غزوها البلاد في العام 2003، وله أيضاً عشرات الآلاف من الأتباع، أغلبهم متدينون يمثلون الطبقة العاملة وولاؤهم لزعيمهم قوي جداً يكاد يكون خارج المساومة.
لكن الصدر أيضاً يشبه الشخصية الأسطورية التي يمكنها أن تتخذ أشكالاً مختلفة. فهو شخص قادر على التغير؛ في السنوات التي تلت عام 2003، قدم رجل الدين نفسه – وبشكل مختلف – كزعيم ميليشيا طائفية وشخصية ثورية وقومي قادر على توحيد البلاد. في بعض الأحيان كان يعتمد على الدعم الإيراني، لكنه اليوم يعلن، وبشكل صريح، رفضه أن يكون للجار الأقوى للعراق أي نفوذ على أرض بلده.
الآن، ولأول مرة، تقول القيادة العليا للتيار الصدري إنها تريد استخدام هيمنتها المحتملة (على البرلمان المقبل)، والتي تنبأت بها استطلاعات آراء الناخبين، لاختيار رئيس وزراء العراق المقبل.
في هذا الخصوص، يقول ناصر الربيعي، رئيس الجناح السياسي للتيار الصدري: “لن يمكن أن يكون لديك رئيس وزراء بدون دعم الصدريين”. ويتفق مع هذا الرأي سياسيون عراقيون من مختلف الأطياف، بما في ذلك مكتب رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي.
لم يتضح بعد ما إذا كان التيار الصدري سيحافظ على دعمه الحالي للكاظمي ويساعده في الفوز بولاية ثانية. سيتطلب القرار النهائي أيضاً موافقة من المجموعات السياسية الكردية القوية المدعومة من إيران.
وبرغم التاريخ المشحون الذي يجمع بين الطرفين، من المحتمل أن التيار الصدري سيفوز في الانتخابات بدعم ضمني من الغرب، وعلى الأقل من واشنطن.
قال مسؤول غربي كبير، طلب عدم كشف هويته كونه غير مخول التحدث مع الصحافة: “أعتقد في هذه المرحلة أننا ننظر إلى (مقتدى) الصدر على أنه رجل قومي، وهو أفضل من الخيارات الأخرى”
يشرح لهيب هيكل، المحلل في مجموعة الأزمات الدولية، قائلاً: “لقد سعوا إلى زيادة الشرعية الدولية كطرف حاصل على الدولة. لهذا السبب رأينا الصدريين يتفاعلون أكثر بكثير مع الدول الغربية، بما في ذلك الأميركيين والأوروبيين. لطالما كان الصدر يسوّق نفسه كخيار قابل للتطبيق، وكخيار مركزي في السياسة العراقية”.
وقال مسؤول غربي كبير، طلب عدم كشف هويته كونه غير مخول التحدث مع الصحافة: “أعتقد في هذه المرحلة أننا ننظر إلى (مقتدى) الصدر على أنه رجل قومي، وهو أفضل من الخيارات الأخرى”.
في الأشهر الأخيرة، سلك “الصدريون” مساراً أكثر حرصاً من الأحزاب العراقية المتحالفة مع إيران، والتي دعت إلى طرد الـ 2500 جندي أميركي بقوا في العراق.
يقول الربيعي: “نحن ضد وجود أي قوات أجنبية على الأراضي العراقية. لكن عندما يتعلق الأمر بالدعم اللوجستي، مثل التدريب وتقديم المعدات والدعم الجوي، فهذه ليست قضايا سياسية. نحن نترك القرار في هذا الشأن للمتخصصين في هذه الأمور”، مشيراً إلى أن دوراً غير قتالي للقوات الأميركية يمكن أن يكون مقبولاً.
صعود الهيمنة
لقد صوّر “الصدريون” أنفسهم على أنهم حُماة شريحة من الطبقة العاملة داخل الطائفة الشيعية العراقية. كان والد الصدر، آية الله العظمى محمد صادق الصدر، من الشخصيات البارزة في المقاومة ضد الدكتاتور صدام حسين وقتل من أجلها. بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة، حظي “جيش المهدي” التابع للصدر بالدعم الشعبي لتحديه الاحتلال الأميركي.
اليوم، يوفر تيار الصدر للعديد من المؤيدين وظائف وخدمات عبر الوزارات والشركات التي يسيطر عليها، فضلاً عن التوظيف في صفوف جناحه المسلح “سرايا السلام”.
عزَّز “الصدريون” نفوذهم داخل الحكومة العراقية من خلال السيطرة على المناصب الرئيسية في الخدمة المدنية. وفقاً لبحث أجراه مركز أبحاث Chatham House في لندن، فإن الموالين للصدر يحتلون الآن الحصة الأكبر من هذه المناصب، والمعروفة باسم “الدرجات الخاصة”، والتي بدورها سمحت لهم بتحويل قدر هائل من الموارد العامة لأغراض الحركة الصدرية الخاصة (…).
يقول ناصر الربيعي، رئيس الجناح السياسي للتيار الصدري: “لا يمكن أن يكون لديك رئيس وزراء الآن بدون دعم الصدريين”. ويتفق مع هذا الرأي سياسيون عراقيون من مختلف الأطياف، بما في ذلك مكتب رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي
أحد الوزراء السابقين، تحدث لـ”الواشنطن بوست” شريطة عدم كشف هويته خوفاً على أمنه، قائلاً: “في اليوم الأول، أدركت أنه كانت هناك فقط أكوام من العقود التي كانوا ينتظرون مني التوقيع عليها. لقد أرادوا فقط الختم المطاطي”.
على مرّ السنين، اتهم مسؤولون حكوميون ومراقبو حقوق الإنسان جماعة الصدر بارتكاب انتهاكات واسعة النطاق. خلال الحرب الأهلية، أدار “جيش المهدي” فرق الموت. فعلى سبيل المثال، تعرض المرشح السياسي الزاملي للسجن بزعم استخدام منصبه كوزير للصحة وتورطه في تمويل عمليات خطف وقتل على خلفيات طائفية. ومؤخراً، اتُهمت “سرايا السلام” بممارسة الابتزاز واغتيال معارضين سياسيين.
“الصدريون” هم القوة المهيمنة في وزارة الصحة، وهذا الصيف، اضطر الصدر للانسحاب من الحملة الانتخابية لفترة وجيزة وسط ضجة عامة أحدثها حريق شبَّ في مستشفى وسط بغداد وآخر في مدينة الناصرية (جنوب)، مما أدى إلى حرق قسمين من مرضى فيروس كورونا. ويقول باحثون إن العقود الحكومية الفاسدة، التي ألقي باللوم فيها على الصدريين، تركت المستشفيات الكبرى من دون تجهيزات ولا صيانة ولا إجراءات سلامة.
تضاؤل الثقة
أشاد الكاظمي بقرار الدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة كرد فعل على الاحتجاجات التي جابت الشوارع في خريف العام 2019، والتي دعت إلى الإطاحة بالنظام السياسي. يومها، قمعت القوات الأمنية تلك المظاهرات وتعاملت مع المتظاهرين بقوة مميتة، ما أسفر عن مقتل أكثر من 600 شخص في غضون أشهر.
تآكلت الثقة بين الشعب العراقي وسياسييه خلال السنوات الأخيرة، ومن المرجح أن تكون نسبة المشاركة في الاقتراع غداً (الأحد) هي الأدنى في تاريخ البلاد، وفقاً لاستطلاعات رأي الناخبين. حتى ان “الصدريين” يبدون قلقين. الأسبوع الماضي، ظهر الصدر ذو الوجه الحزين بشكل علني نادر إلى جانب أحد مرشحي الحركة. وبعد ساعات، غرَّد على “تويتر” أنه يجب على كل ناخب إحضار 10 آخرين معهم إلى صناديق الاقتراع.
بن روبن-كروز، من جامعة “آرهوس” في الدانمارك، متخصص بشؤون التيار الصدري، يقول: “كانت التكتيكات الانتخابية الصدرية عدوانية بشكل خاص في هذه الحملة الانتخابية، مما يشير إلى يأس طفيف وخيبة أمل بدآ يتسربان إلى داخل التيار، لا سيما بين الجيل الأصغر سناً”.
وأضاف كروز: “لكن المجموعة لا تزال على الأرجح هي الأفضل. فالصدريون يحتفظون بميزة تنافسية. في انتخابات 2018، ساعدت المشاركة المنخفضة للناخبين الائتلاف الذي يقوده الصدر على زيادة عدد مقاعده من 20 إلى 54 – أكثر من أي تجمع آخر”.
في تجمع المرشح الزاملي، في حي مدينة الصدر المترامي الأطراف في العاصمة بغداد، قال أنصاره إنه والتيار الصدري الذي ينتمي إليه سيوفران لهم شعوراً أكبر بالكرامة والانتماء من الجماعات السياسية الأخرى.
وعلق حيدر الحلفي (47 عاماً) قائلاً: “لا أحد يستطيع إنقاذ العراق”.
وقالت أمل لطيف، أرملة تبلغ من العمر 40 عاما وأم لأربعة أطفال، “الزاملي معروف في الحي بفتح منزله لأنصاره حتى يتمكنوا من طلب المساعدة في حل مشاكلهم في أي وقت”. وأضافت، وهي ترفرف بعلم الصدريين الزمردي: “نحن فقراء للغاية، نحتاج إلى مساعدة من شخص ما”.
مع اختفاء الحدث وتدفق المشجعين إلى المخارج، كانت الأضواء الكاشفة أكثر إشراقاً من أي شيء آخر في الشوارع المحيطة بهم. كانت مصابيح الشوارع منطفئة. تجاوزت السيارات الحُفر. في الظلام، كان متطوعون يرتدون ملابس الحزب يضعون الحجارة لرصيف جديد بينما كان ناخب سابق يراقب.
قال أحمد علي، موظف حكومي، “إنهم يفعلون ذلك دائماً في وقت قريب من الانتخابات. دعونا نرى ما سيفعلونه لهذا المكان بعد الانتخابات”.
(*) نقلاً عن “الواشنطن بوست”
(**) الأولى مديرة مكتب “الواشنطن بوست” في بغداد، والثاني مراسل الصحيفة للشؤون الخارجية.