أيُّ الموتين أحب إليك أيها السوري؟

"قل لهم لو كنت يهودياً لربما ولعلى الأرجح كنت مثلكم افتراضاً، ولكنني فلسطيني بالانتماء فهل تستطيعون أن تكونوا فلسطينيين مثلي. هل تفهمون تاريخي الحديث المكتوب بالدماء" (من كتاب "لو كنتُ يهودياً" لنصري الصايغ).

لكلِ هويةٍ لعنة، ولكل لعنةٍ هوية، ونحن نحملُ هوياتٍ متغيرة، بحسب التوقيت المناسب.. ولا بأس بنا عندما نُلعن بكل الهويات التي لا نريد حملها.
الحَياةُ ليست آسفة، ولا نادمة على ملاعقِ المُرِّ اليوميّة التي نبتلعها مُكرَهين.
أنا من بلادٍ أضاعت خارطة الطريق وما عرفت إلى الأمل سبيلا.
نعيشُ مشرّدين في بقاع الأرضِ كاللاجئين أو تحت مسميات غريبة، عربية وغربية.
لدى السوري دائماً حقيبة، يحملها على ظهره في كل مكانٍ يذهب إليه، لكنها لا تظهر بشكلٍ جليّ، إنما هي الحقيبة التي تجعل تقوّس ظهره واضحاً، وهي التي تُذكّره دائماً باحتمالات السفر واللجوء والفرار، وفي الوقت نفسه، تُعطيه هذا الشعور المستمر، أن شيئاً ما يلاحقه، وبالتالي.. عليه أن يُسرع ويُسرع ولكنه لا يصل.

محتويات حقيبتي معروفة. أمّا غير المعروف فهي المدة التي علينا أن نمضيها.. وتلك الحقائب مرمية على ظهورنا.

***

يا أيها العالم هل تسمعنا؟ لقد تعبنا. حقاً تعبنا.
أعمل في مجال الكتابة وصناعة المحتوى، ولا يدهشني على الإطلاق حجم الجهل والتحوير والكذب الموجود هنا في هذا الفضاء الافتراضي والواقعي أيضاً. إنها طبيعتنا البشرية. إنها رغبتنا الجشعة في أن نرفع صوتنا. إنه شعورنا الساذج بالانتصار في كل تفاعلٍ، وفي كل إشعار جديد يصلنا. جهلنا هو الذي يفرض علينا بشكلٍ مستمر أن نعلن عمّا نعرف ولا نعرف. لذا، اغفروا لنا إن حاولنا أن نغدو أشخاصاً “طبيعيين في بلد غير طبيعي”.

الموت و”فوبيا” العنصرية يتفشيان في هذه البقعة الجغرافية المسحوقة، وكما في كل الكوارث الطبيعية، انتشرت كل مستلزمات الموت والكره، وعلب الأحزان الجاهزة، وسطور الدعاء، والخيال الشعبي والترويج، والقلوب الصادقة كبيرة الحجم، وشرف البعض وخِسّة البعض الآخر.
معها تنتشر كل الأفعال وردودها. كل الأحقاد المضمرة وكل المتفوّهين و”كلُّ جبارٍ عنيد”.
(تقتلني – وتخجلني – واقعيتي هذه التي بتّ أسيرها، يا لتعاسة الوصف.. لكن أليس هذا هو الواقع؟).
هذا واقعنا كما هو واقع كل البشر،
فلتغفروا لنا إذاً أننا مثل الناس، بما فينا من أشكالٍ وألوان نحاول أن نبدو طبيعيين.

***

“تصوّر معي أنني سوري وأحجب سوريتي عن الآخرين. إذا أعادوني إلى بلدي سيكون الموت هو الأهون. أساساً أنا غير موجود قانونياً. في عودتي إلى بلدي أجد الموت بانتظاري وببقائي هنا أجد الموت. الأمرُ سيّان. كأن المعادلة “أي الموتين أحب إليك”؟

لطالما أعتقدت أن السوري يعرف كيف يموت أكثر مما يعرف كيف يحيا. أسامح نفسي على هذا القول لأنني كبرتُ والترحال كبر معي.
لربما لهذا لا أستغرب كم يسهل علينا وضع صورة سوداء على حساباتنا، ويصعب علينا أخذ صورة جديدة كل ستة أشهر.
وكيف يسهل علينا أن نأكل أظافرنا، وأن نحزم أمتعتنا ونهرب، ويسهل علينا أن نرفض الحب لأن الجزء الذي عشناه منه هو الفقدان، ويسهل علينا أن نقبل بالقليل القليل لنمد حبل الحياة دقيقتين إضافيتين.

يسهل علينا أن نمرض، وأن نقترض القلق من كلّ احتمال، وأن نرى دمعنا يسارع للتدحرج في لحظات الضحك والفرح!
لذا سامِحونا إذا ما رأيتم سوريّاً، يتحسس جيوبه وظهره ويديه ورأسه كل دقيقتين وكأنه فقد شيئاً ما.
إن نيّتنا حقاً أن نبدو طبيعيين.
على أية حال، يتعلم السوري يوماً بعد يوم أن النار التي تبدأ بأكل البيوت، لا تتوقّف بالعِظة.. ولا بالترهيب، إنما بالأذرع التي تمدّ دلو الماء.
وأنه ليس المخيف أن تكبر، إنما أن تكبر وحيداً، لذا يعقد الصداقات دوماً مع الجميع.
وأنه إن وجدت لِيْناً في أحدهم فهو قوي، لأن القساة ضعفاء.
يتعلم السوري ويُعلّم أولاده، أنّ لا خير في الضعف، ولا نُبل في العذاب، ولا كرامة في الشقاء، ولا فضيلة في الشفقة.
هذه ليست محاولة يائسة لرفع معنويات أحد. نحن ـ كما قلت أعلاه ـ والله تَعِبنا، إلا أنني أوثّق حقائق عرفتها وأدركتها في وجوه الناس.
ومن احدى تلك الحقائق الشاب “علي” وعباراته المختصرة المخنوقة:
“أعتبر نفسي سجيناً. لا أستطيع العمل لأنني سوري. لا أوراق ثبوتية تعرّف عني. لا أملك هوية ولا جواز سفر ولا دفتر إعفاء من الجندية. أستطيع هنا أن أهرب وأن أستمر مختبئاً. أجرة العامل السوري مختلفة عن أجرة العامل اللبناني. المسألة سابقة للأزمة السورية. إذا كنت بلا أوراق، فهذا موسم الإذلال. تعمل بشروط رب العمل والأجر الذي يُحددّه وممنوع عليك أن تجادله “ومش عاجبك فل”. سوريا كلها كرهتها. لم أعد أنتمي إليها. إذا فكرت بترتيب أوراقي السورية، يجب أن أدفع حوالي 1500 دولار أميركي.. والبديل هو الحبس. يعني ذلك وبكل الإحتمالات. إما أن يكون الإذلال بانتظاري أو الإستغلال. تصوّر معي أنني سوري وأحجب سوريتي عن الآخرين. إذا أعادوني إلى بلدي سيكون الموت هو الأهون. أساساً أنا غير موجود قانونياً. في عودتي إلى بلدي أجد الموت بانتظاري وببقائي هنا أجد الموت. الأمرُ سيّان. كأن المعادلة “أي الموتين أحب إليك”؟

إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": للصين مصلحة باستقرار المنطقة.. لا بالفوضى!

***

يشرح عالم الاجتماع العبقري ابن خلدون في كتابه «العبر وديوان المُبتدأ والخبر في أيام العَرب والعَجم والبَربر وَمَن عاصَرَهُم من ذَوي السُلطان الأكبر» المعروف باسم “كتاب ابن خلدون” والذي اشتُهرتْ مقدمته باسم “مقدمة ابن خلدون”، وهو رجلٌ وُلد وعاش ومات في زمنٍ أقل ما يقال فيه أنه أسودٌ ومليءٌ بالظلم والخوف والقهر حيث استعبد المماليك الناس، ودفنوا العقل العربي إلى يوم الناس هذا، يشرح ابن خلدون كيف تتغير أحوال الأمم عبر ستّة أطوار، وبعيداً عن التفاصيل، يفيد أن الأوقات الصعبة تصنع رجالاً أقوياء، رغبةً منهم بمستقبلٍ لا يشبه حاضرهم.

اعلموا أننا كبُرنا في زمنٍ صعب.
باسمه ربّ القوّة
فلتتمجّد فضيلة الموت.

Print Friendly, PDF & Email
سومر العتر

كاتب، سوريا

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  البرهان وحمدوك.. لاعبان على حبل من التوازنات الدقيقة