بعد أحد عشر يوماً من العدوان الطاحن على إمتداد الأراضي الفلسطينيّة، أعلنت حركة حماس من قطاع غزّة “الانتصار” على إسرائيل. شارك الآلاف من الفلسطينيّين في احتفالٍ أعقب دخول اتفاقٍ رعته مصر لوقف إطلاق النار، حيّز التنفيذ. وفي الدقائق الأولى لبدء سريان الهدنة، عمّت الاحتفالات القطاع. رُشَّت النيران ابتهاجاً، بينما صدحت المنابر بالخطابات المحتفية “بنشوة النصر”، كما عبّر بعضهم. ووعد آخرون ببناء البيوت المهدَّمة.. و”سنعيد إليكم البسمة”، جزم الخطباء “الحماسيّون”.
مبروكٌ لكم نصركم، يا أيّها الفلسطينيّون. بوركَ دحركم غطرسة الاحتلال ووحشيّته، يا أيّها الصامدون باللحم الحيّ. لا شيء يجب أن يعكّر فرحتكم. فهذه الفرحة نغّصت هناء كثيرين. هنا وهناك وهنالك. وخلف البحار، أيضاً. لكن، ربّما الحيطة واجب. والحذر، كذلك. ممّا؟
ثمّة واقعٌ جديد يُرسَم في فلسطين اليوم، هذا أمرٌ أكيد. ثمّة خريطةُ وطنٍ تستعيد خطوطها وحياتها اليوم، هذا أمرٌ مؤكَّد. لكنّ الخوف مشروعٌ من “تنغيص” النصر. الخوف من بقاء الخطاب السياسي والإعلامي المقارِع لإسرائيل، على حاله. من أن يستمرّ قاصراً عن اللّحاق، بالمستوى الذي بلغه فعلُ المقاومة. فخطاب معاداة إسرائيل، ما انفكّ خطاباً ترداديّاً خشبيّاً خاوياً. نجح، على الدوام، في تقديم “الذخيرة” للدعاية الصهيونيّة. إسرائيل لم تعد أقوى منّا، هذا صحيح. لكنّها، أدهى منّا بسنواتٍ ضوئيّة. عرفت، بمؤسّساتها البحثيّة وماكينتها الإعلاميّة، كيف تسوّق بمهارةٍ منقطعة النظير لـ”خطاب الكراهية العربي”. امتهنت صبغ العرب والفلسطينيّين بأبشع الصبغات. وماذا فعل العرب؟
للتعويض عن الكرامة الإنسانيّة المُنتَهَكة في غالبيّة الدول العربيّة (كلّها؟)، تمرّس الخطاب المعادي لإسرائيل في خلق “كرامةٍ وهميّة” للناس. للفلسطينيّين، أكثر من غيرهم. فلقد روّج هذا الخطاب، في خضّم هزائمنا العربيّة المتوالدة وقمع الأنظمة الشموليّة لشعوبها، للنصر المبين. رأوا فيه انتصاراً لقضايانا وأفكارنا وقيمنا وعقائدنا (الدينيّة بالتحديد). حتّى أنّ بعض الخطباء، ذهبوا إلى حدّ جعل المواطن العربي المعنيّ بقضيّة فلسطين، شاهدًا معنيًّا أيضاً، بالرهانات والنزاعات (بين العرب وأعدائهم). وغالباً ما كان يُنتِج هذا الخطاب ويعمِّمه، شريحة من رجال الدين المرتبطين بشكلٍ وثيق بجهاز الدولة المسيطر (مثلاً، نقلت مجلّة “المصوّر” المصريّة في ١٩٤٨ توعُّد حسن البنّا زعيم الإخوان المسلمين اليهود “برميهم في البحر”). كيف تظهَّر الخطاب العربي بوجه إسرائيل، مذْ وُجِدت؟
أسلوبان ميّزا الخطاب السياسي العربي (والفلسطيني)، على وجه الخصوص: الأوّل، هو الذي اشتغل بنبرة تحدي إسرائيل، ووعْدها بالنصر الحتمي عليها. فكان يهدّدها تهديداً مفرطاً “بالتفاؤل”، إنّما من دون الاستناد إلى عناصر القوّة المطلوبة لتحقيق “هذا النصر” (على طريقة صدّام حسين ومعمّر القذّافي وحتّى ياسر عرفات). أمّا الأسلوب الثاني، فهو توسّل استعطاف الجمهور المتلقّي، ولا سيّما الموجود في “دول الأقوياء”. كان يجهد بضخّ الجناس والطباق وسائر المحسّنات اللفظيّة، لاستدرار العطف والدموع. فيصير الكلام عن فلسطين والتعامل معها، عندئذٍ، شبيهاً بغزل الحبيب بمعشوقته التي “يحبّها ويشتهيها” (حتّى رجال العدوّ)!
باستثناء الخطاب الناصري، بالأمس، وخطاب حزب الله، اليوم، قصر العرب والفلسطينيّون لغتهم على “اللعب فوق السطوح”، هذا. إذْ جلّ ما يفعله خطابهم، عادةً، هو السعي إلى تعبئة القوى العاطفيّة والغريزيّة اللّاواعية. لا يشعرون بالحاجة، كما يبدو، إلى بذل أيّ جهدٍ للإقناع أو المحاججة المنطقيّة. لا باتّجاه الأعداء. ولا باتّجاه المناصرين المحتمَلين
فعندما يتعلّق الأمر بالخطاب الدفاعي، يقوم الموقف الاتّصالي، إذّاك، بإنتاج بُنية “علاقة المواجهة” مع “الآخر”. علاقة، تنشأ من خلال كلماتٍ وتعبيراتٍ وجُملٍ ذات حمولة تضامنيّة. فاللغة هي “ملعب خيّالة” العرب. هم يعرفون، أنّ أهميّتها تعود، في الأساس، إلى وظيفتها في تشكيل الهويّة. وفي تمثيل القانون الثقافي والفكري الذي تفرضه الجماعة، على الفرد. فاللغة للإشارة، ليست نظاماً من العلامات اللغويّة، فقط، إنّما هي مجالٌ تتصارع فيه قوى متعارضة. تصارع يشبه “اللعب على السطوح”، بحسب وصف الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (Gilles Deleuze).
باستثناء الخطاب الناصري، بالأمس، وخطاب حزب الله، اليوم، قصر العرب والفلسطينيّون لغتهم على “اللعب فوق السطوح”، هذا. إذْ جلّ ما يفعله خطابهم، عادةً، هو السعي إلى تعبئة القوى العاطفيّة والغريزيّة اللّاواعية. لا يشعرون بالحاجة، كما يبدو، إلى بذل أيّ جهدٍ للإقناع أو المحاججة المنطقيّة. لا باتّجاه الأعداء. ولا باتّجاه المناصرين المحتمَلين. ولا المواطنين المحكومين. لذا، بقي خطابهم محكوماً بالتناقض، بين أسلوبٍ يؤسِّس نواة هويّة العنصر وجوهرها بالذات، من جهة؛ والفكرة التي ترى أنّ هذه النواة أو الجوهر، ليست إلّا هاوية بلا نهاية تقع خلف “سور اللغة”، من جهةٍ ثانية. فـ”سور اللغة” الذي يفصلنا دوماً، عن جحيم طرفٍ آخر، هو الذي يتولّى مهمّة فتح الجحيم وإدامته، في الوقت عينه.
لعقودٍ طويلة، بقي الصراع مع العدوّ صراعاً رمزيّاً تستحضره الأذهان في كلّ ذكرى. النكسة. النكبة. العبور. يوم الأرض. أيّ اجتياح. أيّ انتهاكٍ للمقدّسات…إلخ. هو “الإيهام بالكلام”، إذًا، من خلال تعابير هلاميّة مطّاطة يمكن تفسيرها، بحسب طبيعة المناسبة. وفق الظروف والأحداث ومقتضيات الأمور. ويتطلّب هذا الإيهام، بطبيعة الحال، خلق حالة من الشعبويّة في الخطاب. فمِن عدّة عمل “الخطابة”، دغدغة عواطف الجماهير (بخاصّة غير المثقّفة). بحيث يتمّ التوجّه إليهم، مباشرةً، وتبعاً للائحة من النوايا والنتائج المرتقَبة. نتذكّر عدوّنا وصراعنا معه، لتبقى “القضيّة الفلسطينيّة” حاضرة في المشهديّة، ليس إلاّ.
انحصر معظم الخطاب الخاصّ بالصراع العربي الإسرائيلي، وإلى حدٍّ بعيد، في المهرجانات والمعارض التراثيّة. فلا يحضر في الإعلام، إلاّ إذا كانت تغلب على الحدث، الدماء والتراجيديا والإثارة. ابتعدت قضيّة فلسطين وحقوق أهلها، عن السياق السياسي الديبلوماسي. صارت العاطفة، وحدها تقريباً، تتحكّم شعبيّاً وإعلاميّاً بتظهير صورة البلد المسبي. بقهر أبنائه وظلمهم، في الداخل والشتات. قهر وظلم يتجلّيان، أكثر ما يكون، في الخطابات أو الأناشيد أو الدبكة أو الكوفيّة التي تحوّلت إلى “براند” للمقاومة والثورة ورجْم العدوّ.
في ختام حلقةٍ إذاعيّة مشتركة مع راديو “راية” في رام الله، طرح الإعلامي العراقي ملهم الملائكة، الذي يعمل في مؤسّسة “دويتشيه فيلي” الألمانيّة، سؤالاً إشكاليّاً على زميله الفلسطيني. سأله عن السبب الذي يجعل الإعلام الفلسطيني عاطفيّاً، إلى درجةٍ ينسى معها أن يسرد المعلومات والحقائق المهمّة والمُنصِفة للقضيّة الفلسطينيّة؟ لم يستطع صديقنا الرملاوي الإجابة على ذاك السؤال! وبعد؟
قائدٌ عربيٌّ واحد، فقط لا غير، إنتهج نهج عبد الناصر حيال العدوّ. وتحديداً، في ما يتّصل بمخاطبة الإسرائيليّين. إنّه الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله. فهو الآخر، يزن كلام خطاباته مع العدوّ، بميزان الذهب. هو يعرف، حقّ المعرفة، أنّ أيّ سقطةٍ لفظيّة قد تودي بالجميع إلى النار والدماء والدموع. لذا، تصدِّق إسرائيل كلّ كلمة يتفوّه بها نصرالله
مقابل سطوةٍ إعلاميّة وسياسيّة لخطابٍ معادٍ للعرب المعادين للأسْرلة والصهْينة، لم يُشهِر العرب بوجه عدوّهم سوى خطابٍ ممعنٍ بالانفعاليّة. انفعاليّة بقيت، حتّى الأمس القريب، السمة الغالبة على خطابهم المناهض لإسرائيل. لقد التزم هذا الخطاب، بـ”نظريّة الواقعيّة” في العلاقات الدوليّة. لذا، لم يُضبط، أبداً، بميزان الربح والخسارة. فأحياناً، كان إطلاق الخطاب، بحدّ ذاته، هو الغاية والمبتغى. أي، الخطاب للخطاب، فقط. مثلما هو الفنّ للفنّ. هكذا فعل قادة “منظمّة التحرير” وسلطتهم، في أراضي الحكم الذاتي. هكذا فعل معظم الحُكّام العرب وأنظمتهم، التي جاهدت جهاداً لفظيّاً ضدّ اليهود.
وهنا، تحديداً، تكمن أهميّة جمال عبد الناصر. واختلافه الجوهري عن سائر الحُكّام في تاريخنا العربي المعاصر البائس. فلقد امتاز، كأبرز المؤثّرين في تكوين حقل الخطاب السياسي العربي (1952- 1970). خطابه هيمن وانتشر وسحر العقول قبل القلوب. أصبح نواة إنتاجٍ إيديولوجيٍّ واسع. كيف لا، وهو الذي تمايز عن باقي الخطابات، بغايةٍ إقناعيّة تعبويّة (وتربويّة؟) غير مسبوقة. لقد زعزع أسلوب الخطاب الناصري الفريد، شكلاً ومضموناً وموقعاً، العلاقة التقليديّة التي كانت تقوم بين الحاكم والمحكوم. ماذا بالنسبة لمخاطبته إسرائيل؟
كان عبد الناصر سبّاقاً في رفع شعار “إعرف عدوّك”. فهو يدرك جيّداً، أنّ مقارعة العدوّ في الخطاب، تتطلّب معرفةً عميقة به. وإلماماً بقدراته وبنظامه السياسي وبخطابه، كذلك الأمر. كان يتابع أخباره، ويتقصّى عن سلوكيّاته وردود أفعاله. وعليه، كان خطاب عبد الناصر “يدرس”، وبدقّةٍ متناهية، كيفيّة مواجهة إسرائيل على “الجبهة الخطابيّة”. لم يماشِ ميول “نظرائه” في قصف التهديدات الكبيرة. وعلى الرغم من الاستفزازات التي مارسها عليه “أعداؤه” العرب والمزايدون من التيّار البعثي، غير أنّه لم يوهم الناس، يوماً، بحتميّة النصر. لم يضلّل الرأي العام العربي والفلسطيني، بقدراتٍ جبّارة لجيشه يمكنها أن “تمحي إسرائيل من الوجود”. بقي متحكِّماً، حتّى النهاية، بكلامه الموجَّه لإسرائيل.
قائدٌ عربيٌّ واحد، فقط لا غير، إنتهج نهج عبد الناصر حيال العدوّ. وتحديداً، في ما يتّصل بمخاطبة الإسرائيليّين. إنّه الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله. فهو الآخر، يزن كلام خطاباته مع العدوّ، بميزان الذهب. هو يعرف، حقّ المعرفة، أنّ أيّ سقطةٍ لفظيّة قد تودي بالجميع إلى النار والدماء والدموع. لذا، تصدِّق إسرائيل كلّ كلمة يتفوّه بها نصرالله. وتدير، لكلّ المسؤولين الآخرين في جبهة المواجهة معها، الأُذن الطرشاء. على مستوى الخطاب، لا يبدو حتّى اللحظة أنّ المقاومة في فلسطين استفادت كثيراً من تجربة المقاومة في لبنان. ربّما عليها، وبعد الانتهاء من سكرة النصر، تكريس جهدٍ لصوْغ خطابٍ يتناسب ويتناسق أكثر مع قدراتها النضاليّة في الميدان. فماذا بعد النصر؟ سؤالٌ مُلحّ. ألم يحن الوقت لتطوير الخطاب المقارِع لإسرائيل. بلى. كيف؟
بلا ريب، يتطلّب الخطاب المعادي لإسرائيل تجديداً. تجديد يُفضي لإعطاء إجاباتٍ للحاضر وللمستقبل، في آنٍ معاً. تجديد يُبعِد إلى القطب الشمالي، كلّ البكائيّات والمظلوميّات. أكثر من سبعين عاماً تكفي للانتقال إلى تكتيكٍ آخر. ماذا نفعل؟
1- نُظهِر للعالم بذكاءٍ، ازدواجيّة خطاب إسرائيل والغرب تجاه العرب، بين القول والفعل. أي، علينا أن نفصّل، علميّاً وبالأرقام، حقيقة ما يمكن أن تسفر عنه اتفاقيّات التسوية مع إسرائيل (وهم الازدهار الاقتصادي والاستقرار الأمني والانفتاح السياسي..إلخ).
2- نعمل على دحض الخطاب الصادر عن بعض الدول العربيّة. أي، نكذِّب المسلّمات المروَّجة منذ عقود، والقائلة إنّنا شعوب متخلّفة ومهزومة. بينما إسرائيل متقدّمة علميّاً، وتدعمها أقوى دول العالم.
3- نُطلِق خطاباً حجاجيّاً مقنعاً مدعَّماً بالأمثلة، ندحض فيه، وبالأرقام أيضاً، حجج الخطاب الذي يدّعي أن التعاون مع إسرائيل لا يخلق إلاّ الازدهار. والتطبيع معها، سيدفع عجلة التقدّم المنشود للبلدان العربيّة.
4- نُبيِّن أنّ وجود إسرائيل لا يرتبط بكذبة إيجاد “وطن قومي لليهود”، بل إنّها وُجِدت لتكون قاعدة الارتكاز الأساسيّة لمشروع السيطرة والهيمنة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على المنطقة العربيّة.
5- نسهر على اتقان وتطوير آليّات العمل في الوسائل الإعلاميّة التقليديّة والمنصّات الرقميّة، لكي نصل إلى أكبر شريحة ممكنة من المتلقّين في العالم. نحتاج إلى خطابٍ حضاري يُبرِز بمهنيّةٍ أكثر وحنكةٍ أكبر، عداء إسرائيل لنا وخطر التطبيع معها علينا.
كلمة أخيرة. علّمنا التاريخ، أنّه لا يوجد عقيدة تحريريّة بذاتها. فجميع العقائد يمكن أن تنحرف. وكلّ القضايا السامية يمكن أن تشذّ و”تلطّخ” أيديها بالدماء. لكن، “عندي حلم. دعوا الحريّة تصدح من كلّ قريةٍ ومدينة. عندي حلم بأنّه، في يومٍ ما، ستنهض هذه الأمّة وتعيش المعنى الحقيقي لعقيدتها الوطنيّة. عندي حلم”. قالها، قبل ستّين عاماً، بطل أميركا القومي مارتن لوثر كينغ، في الخطاب الذي ألقاه عند نُصب لنكولن التذكاري أثناء “مسيرة واشنطن للحريّة”. اعتُبِر خطابه، من اللحظات الفاصلة في تاريخ حركة الحريّات المدنيّة في العالم. وأهمّ الخُطب الأميركيّة في القرن العشرين (طبعاً، إذا استثنينا خطب دونالد ترامب البليغة). إقتضى الحلم بالثورة للحريّة..هناك في فلسطين. وهنا في لبنان. وفي كلّ مكان.