كيف يمكن تفسير “تحوُّل” مدارك الانتماء والولاء ومعنى الوطن، لدى شريحة قد تكون كبيرة من السوريين، بين مناطق سيطرة وسلطات مختلفة، وفواعل لديها مدارك وتطلعات ورهانات مختلفة أيضاً، منها ما يريد تشكلاً كيانياً، ومنها ما يعد نفسه بديلاً تام الأوصاف تقريباً لتنظيم المجتمع والدولة؟
وكيف نقرأ الهوية الوطنية اليوم، وكيف يمكن التفكير في الهوية في لحظات الحروب والتحديات الوجودية الكبرى؟ وهل يمكن الحديث عن “هوية وطنية” في سوريا، في وقت تفجّر فيه مفهوما “الهوية” و”الوطن” نفسيهما، بالنسبة لكثيرين؟ وما الذي كشفت عنه الحرب الدائرة منذ العام 2011، وما الذي أنتجته أو أفضت إليه بهذا الخصوص؟
وهل يمكن للسوريين وفواعل الحدث السوري اليوم أن يتوصلوا إلى توافق قابل للاستمرار حول الهوية الوطنية، وهل هذا هو المطلوب بالفعل، بمعنى هل يمثل ـ فيما لو حصل – فرصة أم تهديداً، وهل أن الهوية “المتفاوض عليها”، كجزء من تسوية سياسية، هي ما يريده السوريون أو ما يناسبهم حقاً، وماذا عن أنماط ومدارك الهوية في مجتمع سوري متعدد إثنياً ودينياً ومذهبياً وثقافياً ولغوياً وانثروبولوجياً وتاريخياً الخ وأي هوية وطنية ممكنة في ضوء الحرب؟
من أسف أن الهوية لن تكون “صناعة سورية” مئة بالمئة، أو لن تكون حصرية بالسوريين أنفسهم. وسوف يكابد السوريون تحديات كبيرة على هذا الصعيد، لعل في مقدمها إعادة إحياء روح مجتمع ودولة، فكرة مجتمع سوري ودولة سوريَّة
اللافت للإنتباه أن السوريين انقلبوا على أنفسهم، أو على صورتهم خلال عدة عقود، ومنهم من رفع لافتات مكتوب عليها: “أين أنتم يا أحفاد سايكس وبيكو”، مطالبين الغرب بالتدخل العسكري في بلادهم. وحدث أن انقلب مفهوم “العدو” و”الصديق”، بكيفية جعلت من “إسرائيل” مثلاً، وهي العدو الرئيس لسوريا، صديقاً وحليفاً ومعقد أمل لدى فواعل وجماعات منهم؛ ومن أبناء الوطن أعداءً وموضوعاً للقتل! نعم؛ تحولات كبيرة بحجم الفاجعة.
إذا كان الحديث عن الهوية بوصفها أداة من أدوات الحرب مفهوماً، فقد يكون الأَولى هو التَفَكُّر والتَبَصُّر والتَدَبُّر والمُداولة في الهوية/الهويات الممكنة بوصفها مُخرِج من مُخرجِات الحرب. والحرب صانع ممتاز للهويات وللتاريخ. لكن المهمة صعبة ومعقدة، وطالما أن الحديث عن تبصُّر وتدبُّر، فهذا يحيل أولاً إلى فواعل فكر وسياسة، وشرائح وقوى اجتماعية واقتصادية، وخاصة إلى كُتَّاب ومثقفين ومراكز أبحاث ومؤسسات ثقافية، وبالطبع إلى فضاء فكري وثقافي وإعلامي وسياسي.
وطالما أن “شرايين سوريا مفتوحة” على كل أنماط المواجهات والحروب والتدخلات والرهانات في عالم اليوم، الذي يوصف بـ”عالم ما بعد الحداثة” أو “عالم الحداثة الفائقة”، فمن المحتمل أن تكون الاستجابة لتحديات الهوية الوطنية متأثرة، في جانب منها، بنوع من “التوافق الموضوعي” بين:
- التحولات والتدفقات العولمية في معاني الهوية والوطن والانتماء والدولة والسيادة، وخاصة “لا مركزية المعنى”، و”لا مركزية القوة والسلطة”.
- التحولات والتدفقات في الأزمة السورية، وصعوبة مركزة السلطات، بحكم وجود تدخلات ومناطق سيطرة مختلفة، والانقسام الحاد حول كل ما يتصل بالظاهرة السورية، بما في ذلك معاني الوطن والانتماء والدولة.
الأمر الذي يعني صعوبة العودة في سياسات الهوية إلى ما كانت عليه قبل الحرب في سوريا، من حصرية أو مركزة للقوة ومعنى الهوية والوطن والانتماء إلخ.. بيد النظام السياسي والدولة. والواقع أن بناء أو إعادة بناء الهوية الوطنية ربما تكون ـ في جانب منها – جزءاً من سياسات “إدارة الأزمة” السورية، بكل فواعلها الخارجية والداخلية، وبكل القوامة البادية ـ حتى الآن – لعوامل وفواعل الخارج على عوامل وفواعل الداخل.
“تدبير السياسة” يتطلب العمل على تقصي الأفكار والبدائل الممكنة لهوية وطنية، انطلاقاً من خبرة وتجارب الأزمة السورية، ومن بداهة المعنى الكامن أو المنبثق من معاناة وكفاح ودماء السوريين
ومن أسف أن الهوية لن تكون “صناعة سورية” مئة بالمئة، أو لن تكون حصرية بالسوريين أنفسهم. وسوف يكابد السوريون تحديات كبيرة على هذا الصعيد، لعل في مقدمها إعادة إحياء روح مجتمع ودولة، فكرة مجتمع سوري ودولة سوريَّة. ويجب الاعتراف أننا نستخدم تعابير مثل “مجتمع” و”هوية وطنية” في سوريا، “بحكم العادة”، إذ أن السوريين اليوم، يمثلون واقعة لا تبرر نفسها، ومن الصعب أن يكونوا إسماً على مسمى، طالما أنهم ليسوا في أفق مجتمع واحد ودولة واحدة، قابلين للاستقرار والاستمرار، وطالما أنهم مختلفون على معنى أن يكون المرء سورياً أو المرأة سورية، ومن يمثل صديقاً ومن يمثل عدواً، بتعبير مستعار من كارل شميت.
وحتى لا يشكل الآخرون هويتنا الوطنية، أو يهيّئون الظروف لـ”هندسة هوية” أو “ترجيح هوية” أو أنماط للهوية بعينها، من خلال ديناميات تأثير مختلفة، منها قابلية السوريين اليوم لتلقي كل شيء تقريباً، مهما كانت خطورته؛ فإن “تدبير السياسة” يتطلب العمل على تقصي الأفكار والبدائل الممكنة لهوية وطنية، انطلاقاً من خبرة وتجارب الأزمة السورية، ومن بداهة المعنى الكامن أو المنبثق من معاناة وكفاح ودماء السوريين، وانطلاقاً من واقع واتجاهات القيم لدى السوريين اليوم، وبأي معنى يمكن الحديث اليوم عن روح أو أفق مجتمع ودولة لديهم، وقد أصبحوا “ظاهرة مهاجرة”، في أربع جهات الأرض، وفي فضاءات للمعنى والقوة مختلفة، وتحت ضغوط العيش القصوى؟
أحياناً ما يُساء فهم معنى الهوية الوطنية في مجتمعات متعددة إثنياً ودينياً ولغوياً إلخ بحيث تكون “الهوية الجامعة” بمثابة “بوتقة صهر” للهويات المتعددة في “هوية متخيلة” جديدة أو في أفق هوية الجماعة الإثنية أو الدينية أو العرقية الغالبة من حيث العدد أو القوة أو الإيديولوجيا الحاكمة. والصحيح أن الهوية الوطنية لا تكون “بوتقة صهر” للهويات الفرعية، بالمعنى الذي كنا نعرفه، وإنما هي “هوية موازية” أو هي “مظلة” أو “حصيلة” أقرب لـ”الهجنة”، إن أمكن التعبير، لجهود فواعل السياسة والثقافة والفكر والاجتماع والجغرافيا إلخ في إطار مشروع وطني وجماعة وطنية عابرة للثقافات والهويات والسياسات الفرعية.
وأحياناً ما تتعرض مدارك الهوية الوطنية لـ”إجهاد شديد” و”استقطاب حاد”، وربما “صدوع وانقسامات” على أسس هويات فرعية. وقد تخطئ فواعل الهوية في قراءة الواقع، وخاصة في اللحظات والمواقف الحرجة، مثل التهديدات الخارجية والأزمات الداخلية، فترتد إلى مقولات وعناوين: مناطقية وقبلية وطائفية.. وأحياناً ارتزاقية، هنا تكون الكارثة الحقيقية، التي عادة ما تستمر تداعياتها زمناً طويلاً.
واليوم، لا بد من عمل فكري وثقافي ومقاربات معرفية حول الهوية، بأقلام كتاب وأكاديميين ومثقفين وفواعل تفكير، وباعتبار تجربة وخبرة الحرب السورية، آخذين بالاعتبار أن المهمة كبيرة وبالغة الحساسية والخطورة، وأن أصحاب الجهود المعرفية والحوارية وحتى السياسية ليسوا بصدد “تمثيل” السوريين أو “ادعاء تمثيلهم” في السعي لتحديد أو تعيين “ما” هي الهوية الوطنية السورية، ولا “من” هم السوريون؟ ولا القيام بأدوار ومهام يفترض أن تكون موضوع بحث ومداولة وإجماع أو ما يشبه الإجماع الوطني بين السوريين، وما أصعبها من مهمة!
إنما هو تفكير في الهوية في أفق مجتمع ودولة، كما تتكرر الإشارة، وليس أفق الملة أو الجماعة أو الكيانية، وفي ذلك تحريك أو تنشيط لـ”إمكان هوية وطنية”، ولو أن ذلك مشروط بوجود “مشروع وطني” و”فعل قصدي” تقوم به “جماعة وطنية” أو “كتلة تاريخية”، بتعبير غرامشي، يريد لفكرة الهوية الوطنية أن تتحول إلى قوة رمزية وروح مجتمع، وإلى قوة مادية وواقع اجتماعي وسياسي. وهذا باب فيه كلام كثير.
أكثر من 90 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر، وقد يكونوا مهتمين بـ”تدبير حياتهم”، وهذا أمر مفهوم، إلا أن التفكير في الهوية، يمثل حاجة وضرورة كبرى أيضاً، من باب الاستجابة الثقافية والفكرية لما يمثل تحدياً وتهديداً وجودياً لسوريا
يمكن للتفكير في هوية وطنية سورية أن يدور حول مفردات من قبيل: مفاهيم الهوية وتجاذباتها في العالم اليوم. ومصادر الهوية الوطنية، وتجاذبات الهوية في سوريا. والهوية في الكتب المدرسية والبرامج الجامعية، والفنون والآداب مثل الرواية والمسرح والموسيقى. والهوية في الفكر السياسي، والدين والظاهرة الدينية، والخطاب الثقافي، والهويات الفرعية، والمجتمع المدني. والجيش والمؤسسة العسكرية. وأي هوية لسوريا ما بعد الحرب، والانتقال أو العبور من “الهويات القاتلة”، بتعبير أمين معلوف، إلى الهوية الوطنية. والهوية الثقافية، والهوية والهجرة واللجوء. والهوية والتنمية، والحوار وإدارة التنوع، والبناء الديموقراطي واللامركزية إلخ.. ولا معنى لذلك ما لم يكن في إطار مشروع وطني، و”عقد اجتماعي” يصنعه السوريون أنفسهم، بأقل قدر ممكن من التدخل الخارجي.
قد لا يشغل التفكير في الهوية، على أهميته، موقعاً مهماً على أجندة السوريين اليوم، ذلك أن شواغل السواد الأعظم منهم بعيدة عن ذلك. تقول التقديرات العالمية إن أكثر من 90 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر، وقد يكونوا مهتمين بـ”تدبير حياتهم”، وهذه مسألة كبرى، وهذا أمر مفهوم، إلا أن التفكير في الهوية، يمثل حاجة وضرورة كبرى أيضاً، من باب الاستجابة الثقافية والفكرية لما يمثل تحدياً وتهديداً وجودياً لسوريا.