لم تكن العاصمة الأردنية على موعد مع ندوة عادية أو حفل توقيع تقليدي. لقد صمّم لنا عبد الحسين شعبان قارورة عطر مادتها الخام مصنوعة من بنفسج مظفر النواب، فتنفسنا عطراً وهواءً وأدباً وشعراً عذباً في اللحظة نفسها.
هي لحظات زمنية معطرة بمفردات الشيح والخزامى والنرجس والبنفسج، ومذاق القهوة بالهيل وهي التعابير النوّابية بامتياز. كتاب المفكر عبد الحسين شعبان “مظفر النواب.. رحلة البنفسج” هو تذكرة تعبر بنا إلى عوالم مظفر النواب الشعرية.
في كتاب “رحلة البنفسج” نجد أنفسنا مع أول إصدار حول شاعرية مظفر النواب. للكتاب رمزية خاصة جداً، إذ أنه يعكس ليس وجهة نظر مؤلفه بل قدرة الشخص أن يحل أحياناً محل المؤسسة. عبد الحسين شعبان قرر أن يحتفي بمن عاصر أو عرف من المبدعين، الحي منهم أو الغائب. لا بد من الإضاءة على إنجازاتهم، وهو ما قام به الدكتور شعبان في كتاب “مظفر النواب.. رحلة البنفسج”.
يبدأ الكتاب بإهداء مُميز يشي بمعرفة المؤلف بخصوصية شخصية مظفر النواب، يقول شعبان: “قبل ربع قرن أصدرتُ كتابي عن شمران الياسري (أبو كاطع) وأهديته لمظفر النواب مع مقطع من رائعته (المساورة أمام الباب الثاني) والآن أهدي “رحلة البنفسج” لأبو كاطع ليقيني أن ما يجمع بينهما هو الإبداع والقرب من الناس والمصداقية في التوجهات”.
يلتقط الكاتب في المبحث الأول صورة عن قرب لمظفر النواب مقتحماً أحلامه الطريدة طيلة سبعة عقود، تلك الأحلام التي طاف بها مشرق الأمة ومغربها. في هذه الصورة القريبة، لامس الدكتور شعبان أشواق مظفر النواب الغامضة وحنينه المعطر وشراكته الأساسية مع كل قضية عادلة وأولها القضية الكبرى، وأعني بطبيعة الحال القضية الفلسطينية.
ولعل رحلة المنافي وتشظي شخصية الشاعر، لم تجعل منه شاعراً كلاسيكياً ينشر دواوينه الشعرية بشكل تقليدي وأنيق، ومن ثم يُوقعها أو يكتب سيرته الذاتية بعنوان برّاق. السبب أن شخصية مظفر النواب لم تكن أبداً شخصية تقليدية ولا مؤطرة ضمن كادر محدد.. ولذلك جاء شعره موزعاً بين المنافي من الشام إلى طرابلس الغرب وصولاً إلى أريتريا وكذلك سيرته المركبة والصعبة وغير المستقرة حتى آخر أيام حياته.
وسيرة مظفر النواب مثل نصه الشعري. يتناقلها أهل الثورة والثقافة والسياسة. وفي هذا الكتاب، جمع الدكتور شعبان سيرة الشاعر وفق تسلسل زمني موثق؛ تحدث عن علاقة النواب بالأمكنة، وسلّط الضوء على أصول الشاعر ومراحل حياته من الطفولة للمشيب، وقدّم مادة جديدة لقرّاء الشاعر لم يكن يعرفها الكثيرون، وهذه إحدى أجمل ميزات كتابات ومؤلفات عبد الحسين شعبان.
قبل هذا الإصدار الجديد، كان المؤلف قد أتحفنا بوثيقة أبصرت النور بعد سنوات طويلة من الاختفاء، وأعني كتابه الذي صدر مؤخراً بعنوان (الغرفة ٤٦)، وفيه محاكاة لسيرة مؤسس حركة “فتح ـ المجلس الثوري” صبري البنا المعروف باسم “أبو نضال”.
لم يكتف المؤلف بزاوية واحدة. طرح أسئلة حول شخصية مظفر النواب على نفسه وأخذ على عاتقه من خلالها الغوص في شخصية النواب بروح الآثاري النبيل الذي يحفر بإزميل يتجنب فيه الكسر والهدم للوصول إلى جوهر الكنز، ومن ثم يمسح عنه تراكم غبار السنين ويعرضه للجمهور (القراء) بلغة أنيقة وعذبة..
فعلها مؤلف “رحلة البنفسج” بحذافيرها بحيث قدّم إلينا وثيقة وشهادة حق ودراسة أدبية ونقدية عن شعر النواب بشقيه الشعبي (العامي) والفصيح وبصوره الغزلية والحسية والثورية ولم يغفل عن التحول الذي أصاب شخصية النواب في أواخر أيامه حين أدرك التحول الزمني والمتغيرات التي شهدها العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين برغم عدم إنتمائه وجدانياً لهذه المرحلة إلا أنه تعامل بحذر شديد مع هذه المتغيرات. كما أضاء الكاتب على صداقات الشاعر الشخصية وعلاقاته مع الشعراء، وسلّط الضوء مثلاً على شخصية النواب النواسية في خمرياته والدعبلية في إشارة إلى نقد الشاعر وصراخه العالي عندما هجا الحكام العرب وصارت قصائده على كل لسان بوصفه شاعر الأمة وممثلها الحقيقي والمُعبّر عن أوجاعها.
في كتاب من حوالي ٢٤٠ صفحة استطاع عبد الحسين شعبان أن يجمع كل ما يتعلق بالشاعر مظفر النواب شخصياً وإبداعياً، وكان أميناً على شعر مظفر الذي لم ينل حتى الآن إهتماماً جدياً من المؤسسات العراقية أو العربية المعنية. بهذا المعنى، وفّر المؤلف علينا الوقت والمهمة، بأن إختار باقة من القصائد التي تحاكي مراحل عديدة في تجربة غنية وقاسية عاشها هذا الشاعر العظيم، من دون أن نُغفل العنوان المُميز الذي إختاره المؤلف وهو “رحلة البنفسج” الذي ينطوي على إشارة هامة وهي قصيدة (ليل البنفسج) الشهيرة لمظفر النواب والتي اشتقها من رائحة ولون هذه الزهرة الجميلة والساحرة في الليالي المقمرة.
(*) كتاب “رحلة البنفسج” للباحث الدكتور عبد الحسين شعبان صدر عن “دار النهار” اللبنانية عام 2023.