الطّروحات الفدراليّة.. هل تنتصر في المنطقة كلّها؟

تُبيّن الأحداث المتسارعة في المنطقة، أنّ الطّروحات الفدراليّة الطّابع تتقدّم بجدّيّة، وبشكل ملموس وواقعيّ، وذلك في بلاد الشّام كلّها. والحقّ يُقال: إنّ عدداً من المكوّنات الدّينيّة والمذهبيّة والاثنيّة في سوريا وفي المنطقة، بما فيها مكوّنات تنتمي إلى الطّوائف الاسلاميّة السّنّيّة نفسها، باتت تشعر- أكثر فأكثر- بأنّ هذا النّوع من الأنظمة السّياسيّة والإداريّة هو الوحيد الكفيل بالحفاظ على وجودها وخصوصيّتها من جهة، وعلى الحدّ الأدنى من الوحدة الوطنيّة والجغرافيّة- وربّما القوميّة- ضمن دول ما بعد الحرب العالميّة الأولى هذه، من جهة ثانية.

بعد وصول العراق إلى ما وصل إليه من نتيجةٍ شكليّة أو ضمنيّة في ما يخصّ نظامه السّياسيّ والاداريّ، من الواضح اليوم أنّ المطلب الفدراليّ غير التّقسيميّ في ظاهره حتّى الآن: بات مطلب الأغلبيّة ضمن المكوّن الكرديّ في سوريا، كما ضمن المكوّن العلويّ.. وصولاً إلى الأغلبيّة ضمن المكوّن الدّرزيّ طبعاً، والتي يُحاول بعض قادتها بين الحين والآخر- ضمن المستطاع- الجنوح أيضاً نحو منحى استقلاليّ مُبين. أمّا المكوّن المسيحيّ، فيميل إلى الصّمت حاليّاً، حفظاً للنّفس وللمال وللعرض.

وبتنا نسمع، حتّى ضمن المكوّن المُسلم السّنّيّ في سوريا إذن، بعض الأصوات التي تُنادي بأنواع من اللّامركزيّة أو من الفدراليّة، لأسباب لها علاقة بالبُعد المناطقيّ هذه المرّة، أو بالبُعد الدّينيّ المرتبط بالخلاف العميق ما بين النّزعة السّلفيّة-الظّاهريّة إن شئت من جهة، وبين النّزعة الصّوفيّة-الأشعريّة الأكثر ميلاً إلى التّفسير الرّوحيّ للدّين من جهة أخرى.

***

إنّ المتابعة الموضوعيّة والواقعيّة للشّأن السّوريّ الرّاهن تُبيّن بوضوح أنّ الأمور تذهب حتّى الآن- أكثر فأكثر- نحو اعتماد نظام فدراليّ (ولو حاول البعض تمويهَه، هنا وهناك، من خلال مصطلح “اللّامركزيّة” وغيره). ومن الواضح أيضاً، بحسب التّحليل لكن أيضاً بحسب المعلومات المتوفّرة، أنّ هذا هو التّوجّه التي بات يدفع باتّجاهه الجانب الأميركيّ، كحلّ وسط ما بين الطّرح الاسرائيليّ المائل إلى التّقسيم الواضح من جهة، وبين التّوجّه التّركيّ-السّعوديّ المُشدّد على وحدة الأراضي السّوريّة ضمن دولة مركزيّة واحدة قدر الامكان (خوفاً من تمدّد النّزعات الفدراليّة و/أو التّقسيميّة هذه طبعاً، شمالاً نحو الأناضول أو جنوباً نحو شبه جزيرة العرب).

في الحقيقة، كان الكثيرون منّا يرتابون حتّى من مصطلح “الفدراليّة”، أو من الكلمة في ذاتها. ولكنّ سقوط نظامٍ قوميٍّ عربيٍّ- وحدويّ ومركزيّ الطّابع- كالنّظام السّوريّ السّابق، مهما كانت أخطاؤه أو فظائعه، وليس هذا هو موضوع النّقاش: ولكنّ سقوط النّظام السّابق بهذا الشّكل المفاجئ والسّريع.. والمشاهد المؤلمة التي تلت هذا السّقوط، من مجازر السّاحل السّوريّ ضدّ الأبرياء غالباً، والتي ترقى بالتّأكيد إلى مقام الجرائم ضدّ الانسانيّة؛ ومن مجازر السّويداء الأليمة جدّاً، ومشاهد القتل والنّهب والسّبي فيها؛ ومن طريقة تعاطي السّلطات الجديدة في دمشق، من خلال خطاب مذهبيّ ورافض للآخر، بما في ذلك “الآخر” الكرديّ (عداك عن المسيحيّ بطبيعة الحال)؛ ومن طريقة تعاطي هذه السّلطات نفسها من زاوية تبرير الظّلم بالظّلم والمذبحة بالمذبحة وما إلى ذلك..

.. وصولاً حتّى إلى ما شهدناه من خطاب ومن تصرّف دوغمائيّ ومتعنّت من قبل السّلطة التّنفيذيّة الحاليّة في لبنان أيضاً، التي أوصلتها موازين القوى الاقليميّة نفسها عمليّاً إلى سدّة الحكم؛

ووصولاً إلى هذا الإصرار من قبل هذه السّلطة على المطالبة المفاجئة بحقوق “دولة” غير موجودة على أرض الواقع في الغالب كما سبق ورأينا؛

وصولاً كذلك إلى خطاب الكراهية الذي بتنا نسمعه، بشكل متصاعد، من قبل بعض الأطراف في لبنان تجاه بعضها الآخر؛

وصولاً إلى ما يبدو أحياناً بأنّه عبارة عن “شركة فاشلة” حتّى الآن واقعاً: أو “شركة فارطة” ما بين مكوّنات لبنان بشكل عامّ؛

وصولاً، بالمختصر، إلى ما يُمكن تسميته، من دون تردّد يُذكر: دولاً فاشلة- حاليّة خصوصاً- في لبنان وسوريا والعراق بشكل خاصّ، وربّما أبعد من ذلك.

إنّها دعوةٌ إلى فتح باب التّفكير هذا على مصراعيه، وبكلّ انفتاح وموضوعيّة.. سمّينا ذلك في النّهاية “فدراليّة” أم لم نسمّه. المهمّ هو أن نأخذ النّقاط الأساسّية التّالية بالاعتبار: الحفاظ على الحدّ الأدنى من الدّولة المركزيّة؛ مع اعتماد توجّهات لامركزيّة عموماً، تتيح لبعض المكوّنات الحفاظ على خصوصيّاتها الدّينيّة والثّقافيّة، وصولاً إلى الاداريّة وربّما الماليّة والسّياسيّة وصولاً حتّى إلى خصوصيّاتها الأمنيّة والدّفاعيّة-المحليّة في بعض الأمثلة (ومنها ما هو معروف وواضح وجلّيّ من العراق إلى سوريا إلى لبنان)

باختصار؛ إنّ كلّ هذه الأحداث والتّطوّرات والظّواهر والوقائع، في لبنان وفي سوريا وفي المنطقة، من شأنها أو عليها، برأيي، أن تدفعَ كلّ عاقلٍ منّا نحو التّفكير جدّيّاً بالطّريقة الأفضل للحفاظ على نوع مُعيّن من الوحدة، لكن دون الاستمرار في العيش ضمن جحيم هذه الدّول الفاشلة، وضمن جحيم هذه الجماعات أو الأحزاب المكفّرة لبعضها البعض.. والفاشلة بالتّأكيد حتّى الآن في ما يعني العيش سويّاً (مهما حاولنا مجاملة بعضنا البعض في هذا الاطار).

نعم، بات علينا التّفكير بحلول أكثر جدّيّة وجذريّة، في ظلّ غرق أغلبيّتنا السّاحقة في ما لا يُعوّل عليه وفي ما لا يُبنى على أساسه. ولا أستثني في ذلك أيّ مكّون، ولا أضع ريشة على رأس أحد كما نقول بالعاميّة. نحن فاشلون عموماً: من زاوية إدارة هذه الدّول، ومن زاوية العيش معاً. نعم، إلى اليوم: نحن فاشلون، وفاشلون جدّاً، وكفى مجاملات.

إقرأ على موقع 180  أوباما: من هاتف للبيتزا.. أمرت بمهاجمة القذافي (4)

والواقع هو أنّ الكثيرين من بيننا لا يُريدون- حتّى الآن- العيش مع الآخرين، وفي اتّجاهات مختلفة.

***

كما أوضحتُ في كتابات سابقة، ينبغي أوّلًا السَّعي- حيث استطعنا- إلى بناء دولٍ متمحورة حول المُواطَنة والمساواة في الحقوق والواجبات بين الأفراد، تكون مُوحَّدة حيث أمكن.. ومركزيّة. فالنَّزعة التّوحيديّة أو الوحدويّة تُجسِّد المصلحة الموضوعيّة البعيدة المدى لشعوبنا في الإقليم كما نكرّر على الدّوام. غير أنّ الواقع القائم على الأرض لا سيّما في الرّاهن من الأمور، أو ما سمَّيتُه بــ«الهُويّات الواقعيّة» لأغلب أناسنا إن شئت: هذا الواقع الصّعب والخطير عليه أن ينبّهنا إلى ضرورة اعتماد صِيَغٍ ومقارباتٍ انتقاليّة وواقعيّة، كالفدراليّة أو مختلف أشكال المقاربات اللّامركزيّة، درءًا لانفجاراتٍ أعمق وصعبة العلاج.. قد تُصيب مُجتمعاتنا ودُولنا، أبعد ممّا حصل إلى اليوم. علينا التّفكّر جدّيّاً في هذه المسألة.

***

هذا هو الواقع اليوم إذن وإلى حدّ كبير، بمعزل عن مشاعرنا وأمانينا وعقائدنا الأولى، وبمعزل عن خطابات “الوحدة” الدّوغمائيّة التي يُطلقها البعض في سوريا اليوم، أو خطابات “الدّولة” العظيمة التي يُطلقها البعض الآخر في لبنان. اتركونا أنتم وهذه “الوحدة” الدّوغمائيّة، وهذه “الدّولة” الموجودة فقط في أذهانكم في الغالب. اتركونا، ولنفكّر بمخارج أكثر عمقاً وفعاليّةً وواقعيّةً، حقّاً.

فهل يُمكن للحلول أو المخارج الفدراليّة- أو الفدراليّة الطّابع- أن تأتيَ بالمطلوب، وإلى حدّ مقبول نسبيّاً؟ ربّما، وهدفي الأساسيّ من خلال هذا المقال هو المطالبة بوقف الحظر على التّفكير الجدّيّ في هذا النّوع من الطّروحات، في سوريا تحديداً.. ولكن أيضاً في لبنان. نعم، أيضاً في لبنان.

إنّ خطر ظهور “إسرائيلات” جديدة في منطقتنا قائمٌ وواقعيّ، ولكنّه سيكون أكبر وأشدّ في حال انهارت دولنا شبه المركزيّة بشكل مفاجئ وكلّيّ وأعمق مستقبلاً، أو في حال ذهبت بلادنا إلى تقسيمٍ حقيقيٍّ بدلاً من اعتماد هذا النّوع من الأنظمة.

إنّها دعوةٌ إلى فتح باب التّفكير هذا على مصراعيه، وبكلّ انفتاح وموضوعيّة.. سمّينا ذلك في النّهاية “فدراليّة” أم لم نسمّه. المهمّ هو أن نأخذ النّقاط الأساسّية التّالية بالاعتبار: الحفاظ على الحدّ الأدنى من الدّولة المركزيّة؛ مع اعتماد توجّهات لامركزيّة عموماً، تتيح لبعض المكوّنات الحفاظ على خصوصيّاتها الدّينيّة والثّقافيّة، وصولاً إلى الاداريّة وربّما الماليّة والسّياسيّة (بما هو متاح بالمعنى الواقعيّ).. وصولاً حتّى إلى خصوصيّاتها الأمنيّة والدّفاعيّة-المحليّة في بعض الأمثلة (ومنها ما هو معروف وواضح وجلّيّ من العراق إلى سوريا إلى لبنان).

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  اللحظة اليلتسينية