تغيير الديموغرافيا.. وتحريف التاريخ

بعد حربٍ سريعة، يهجُر الأرمن اليوم "قره باغ" (الجبل المسمّى أيضاً ناغورنو كاراباخ أو أرتساخ) وسيحلّ مكانهم الأذريوّن، كنهايةٍ لصراعٍ عرقيّ دامَ طويلاً في منطقةٍ متعدّدة الإثنيّات كان الكرد يشكّلون سابقاً جزءاً أساسيّاً من سكّانها.

هكذا كانت الحروب دوماً فرصةً لتغيّرات جوهريّة في تركيبة السكّان، حيث تعمل القوى المنتصرة فيها على “إدارتها” بهدف إقامة “عالمٍ جديد”. هكذا أدّت الحرب العثمانيّة-الروسيّة ثمّ الحرب العالميّة الأولى إلى طرد السكّان الأرمن والأشوريين من مناطق أضحَت اليوم موطناً للقوميّتين الكرديّة والتركية، وتمّ في السياق نفسه طرد الشركس من القوقاز إلى بلاد الشام وتمّ الاستبدال الكبير بين المسيحيين والمسلمين في الأناضول واليونان والبلقان. لقد زالت الامبراطوريّة العثمانيّة ذات الأعراق والأديان المتعدّدة وحلّت مكانها دولٌ “قوميّة”. وهكذا أيضاً شهدت نهاية الحرب العالميّة الثانية ثمّ الحقبة الستالينيّة في الاتحاد السوفياتي تغيّراتٍ كبيرة في حدود الدول الأوروبيّة وهجرات نهائيّة للسكّان أنهت وجود الكثير من “الأقليّات”.

***

عرف المشرق العربي أيضاً تغّيرات كبيرة في سكانه خلال القرن العشرين، من هجرات “السفر برلك” نحو الأمريكيّتين، وهجرات المسيحيين إلى لبنان من جواره، وتهجير الفلسطينيين من أرضهم، واغتراب العمل إلى الخليج، وصولاً إلى النزوح واللجوء الكبير للسوريين خلال حربهم الأهليّة.

وخلال القرن العشرين، انبثقت فكرة مشروع “العروبة”، وعلى خلاف القوميّة التركيّة، بالتحديد كرفضٍ لشرذمة سكّان المنطقة في دولٍ “قوميّة” صرفة أو في دولٍ وحيدة المعتقد الديني أو ذات المذهب الواحد، وكذلك انبثقت لمواجهة خطر مشروع صهيونيّ استيطاني لم يظهر في 1948 بل في الحقيقة منذ نهايات القرن التاسع عشر.

لكن مشروع “العروبة” عرف هزيمته سنة 1967، مع بداية التحوّل التدريجي ليس فقط نحو دولٍ وطنيّة تبقى هويّاتها الداخليّة متعدّدة، بل مؤخّراً نحو تفكيك الدول الوطنيّة ذاتها على أسسٍ إثنيّة أو مذهبيّة. وأضحَت الدولة الصهيونيّة هي “الواقع” و”النموذج” في المنطقة فيما يخصّ طريقة “إدارة” الهجرات الوافدة و”الأقليّات” المتواجدة بهدف تهجيرها البطيء.

***

وتغييرُ الديموغرافيا يرافقه تحريفٌ للتاريخ. ومع فقدان محور لبنان-سوريا-العراق القدرة على إدارة تنوّعه الذي ما زال كبيراً، عروبياً ووطنيّاً، أضحى هذا التنوّع بمثابة “الشذوذ” أمام “الواقع” و”النموذج” ودخل في “هشاشةٍ” مستدامة تتحمّل مسؤوليتها “النخب” المحليّة والقوى النافذة الإقليميّة والدوليّة.

لا تأبه “لعبة الأمم” بالتهجير القسريّ للشعوب، بل تراها أحياناً حلولاً لخلق وقائع تفرِض نفسها بنفسها وإن تطلّب ذلك زمن كي يتمّ نسيان التاريخ. بل تستخدم هذه الهجرات التي عملت عليها كأداة في صراعات نفوذها الواحدة ضدّ الأخرى، وكي يتمّ الأخذ إلى صراعات إثنيّة ودينيّة أو مذهبيّة جديدة أو إلى صراعات بين المواطنين والمهجّرين كما شهدت ساحتا الأردن ولبنان

كثرٌ نسوا اليوم لماذا أنشئت أصلاً الجامعة العربيّة سنة 1944، في وقتٍ لم تكن فيه الحرب العالميّة الثانية قد وضعت أوزارها ولم تكن الاحتلالات العسكريّة الخارجيّة قد زالت؟ وهل كان وراء ذلك النشوء تخوّفٌ من إعادة ترتيب المنطقة تبعاً لإرادة القوى العظمى المنتصِرة، وتخوفٌ من المشروع الصهيوني الذي كان يجري العمل حثيثاً على تأسيسه؟

موضوعان أساسيّان كانا في صلب نقاش تأسيس الجامعة العربية: الدفاع المشترك والاقتصاد المشترك. وكلاهما ذهبا مع الريح سريعاً، لتنخرط بعض الدول العربيّة المستقلّة حينها في مؤتمر سان فرنسيسكو وتأسيس الأمم المتحدة.

***

بالطبع أضحت “إسرائيل” واقعاً يفرض نفسه اليوم. وهذا الواقع هو دوماً مركز اهتمام الإدارات الأمريكيّة المتعاقبة، وكذلك هو أحد شروط التعاوّن بين الاتحاد الأوروبي – الذي أنتج اقتصاداً ودفاعاً مشتركين – والدول العربيّة. ومهما كانت الانتقادات الأمريكيّة والأوروبيّة الخافِتة للانتهاكات “الإسرائيليّة” لم تؤدِّ يوماً إلى الإقرار الصريح بـ”التمييز العنصري”، الذي هو أيضاً واقعٌ، ولا إلى إدانة للاحتلال.

أمام هذا الواقع، تمّ الدفع بقوّة نحو “التطبيع” وليس “السلام”. والفرق شاسعٌ بين هذا وذاك. فالسلام يعني مرجعيّة قرارات الأمم المتحدة، ويعني مبدأ “الأرض مقابل السلام” الذي تبنّته القمّة العربيّة في بيروت عام 2002 بمبادرةٍ أتت أصلاً من المملكة العربيّة السعوديّة.. أي عودة إسرائيل إلى حدود عام 1967. وفي حين أنّ اتفاقيّات مصر والأردن مع إسرائيل لم تكن “تطبيعاً” بل “اتفاقيّات سلام”، استرجعت مصر مقابلها أرضها المحتلةّ في سيناء وأبعَد الأردن محاولات تحويلها إلى وطنٍ بديلٍ للفلسطينيين. أمّا “التطبيع” فهو في شكله الرسميّ علاقات دبلوماسيّة وإمكانيّة تنقلّ الأفراد والبضائع بين الدول، وفي شكله غير الرسميّ هو تعاونٌ خاصّةً في المجال الأمنيّ ضدّ مخاطرٍ “مشتركة”.

ويقوم “التطبيع” مبدئيّاً على احترامٍ ضمنيٍّ لسيادة وسياسات الدولة التي يتمّ التطبيع معها وعلى عدم التدخّل في شؤونها “الداخليّة”. أي ما يعني القبول بالمستوطنات وبضمّ القدس الشرقيّة والجولان السوري وبغزّة “السجن الكبير” وبسياسات “التمييز العنصري”.. ودون أي مقابل. وبما أنّ هذه القضايا تبقى جميعها شديدة الحساسيّة لدى شعوب البلدان العربيّة، يتمّ استخدام الرموز الآنيّة كي يتمّ تقبّل “الواقع” تدريجيّاً، كالدفاع عن حلّ الدولتين الذي لم يعُد ممكناً عمليّاً أو المناداة بأولويّة القضايا الوطنيّة على جميع القضايا “العربيّة”. مثل نغمة “مصر أوّلاً” و”الأردن أوّلاً”.. كما تقام مشاريع طموحة تغيّر الواقع الاقتصادي للمنطقة، من الهند حتّى.. حيفا.

إقرأ على موقع 180  باكستان.. كادت تصبح عربية لولا حروب الهند 

لم تكن القضيّة الفلسطينيّة يوماً قضيّة دينيّة كي يكون نبيٌّ عنواناً لحلّ قضيّتها.. وللتطبيع. إنّها في الأساس قضيّة تهجير شعبٍ من أرضه واستبداله بآخر. وعندما يصمُد جزءٌ من هذا الشعب على أرضه بكلفةٍ بشريّة وإنسانيّة كبيرة يُجبَر على العيش في ظلّ “تمييزٍ عنصريّ”.

***

لا تأبه “لعبة الأمم” القويّة بالتهجير القسريّ للشعوب، بل تراها أحياناً حلولاً لخلق وقائع تفرِض نفسها بنفسها وإن تطلّب ذلك زمن كي يتمّ نسيان التاريخ. بل تستخدم هذه الهجرات التي عملت عليها كأداة في صراعات نفوذها الواحدة ضدّ الأخرى، وكي يتمّ الأخذ إلى صراعات إثنيّة ودينيّة أو مذهبيّة جديدة أو إلى صراعات بين المواطنين والمهجّرين كما شهدت ساحتا الأردن ولبنان.

***

يبقى أنّ العصر الحالي هو عصر تهجيرٍ كبير للسكّان على المستوى العالمي من جرّاء الصراعات المفتوحة، حسب ما تذكره الأمم المتحدة. والقضيّة الإنسانيّة والسياسيّة الكبرى هي كيفيّة تعامل الدول والشعوب مع قضايا التهجير والهجرات والمهاجرين. ليس أساساً لإغاثتهم و”تبرئة الضمير” ووضعهم في خيمٍ بانتظار أن يُنسي الزمن تهجيرهم وأن يندمجوا، بل أن تعود الإنسانيّة إلى إنسانيّتها عبر نبذ التمييز العرقي والديني والمذهبي وعبر اعتبار المهجّرين والمهاجرين بشراً مثل كلّ الآخرين. وأنّ القبول بتهجير الآخرين القسريّ يفتح مجالاً للقبول بتهجير من قَبِلَ به.. يوماً ما.

إنّ العالم يحتاج إلى خطواتٍ عميقةٍ وكثيرة كتلك التي قام بها بشجاعة بابا الفاتيكان في مرسيليا لتذكير الأوروبيّين بأنّهم جميعاً أحفاد هجرات تاريخيّة وأنّ البحر المتوسّط وغيره من البحور.. ليسوا مقابر.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  نظرية الأمن الإسرائيلي.. ما الذي تغيّر؟