المشهد الرّمزيّ ذاتُه يتكرّر على الدّوام بالمناسبة: رجال أو نساء يفيضون بل يحترقون بل يضطرمون وينفجرون بالحياة، وبالنّشاط وبالعشق المقدّس.. وتنتهي أجسادهم البيولوجيّة على شكل أشلاء.
هل تنفجر الحياة الحقيقيّة من خلال انفجار جسد كجسد الشّيخ صالح؟ هل المفجّر الحقيقيّ لأجساد هؤلاء الأحياء ـ الأحياء: حقّاً لا وهماً ـ هو بالذّات حياتهم الحقيقيّة؟
هل فجّرَ الملكوتُ جسدَك يا شيخ صالح، لتكون حيّاً خالصاً مَحضاً عنده.. دون حجابٍ ودون أثقالِ هذا الجسد الدّنيويّ؟
هو، بلا أدنى شكّ عندي، مشهد رمزيّ وجوديّ. وهدفه الدّلالة على معانٍ عميقة. فقد يكون خير مصير لهذا الجسد الفان الذي يحجبك عن النّور الحقيقي، عن جسدك الذي لا يفنى، عن حقيقتك: قد يكون خير وأجمل مصير له أن ينتهيَ على شكل أشلاء فانية ولا قيمة لها، بعد أن تكون قد تمكّنت من بلوغ ما عليك أن تبلغه من مقامٍ في هذه الدّنيا الفانية.. الخدّاعة والكذّابة وذات الغَرور.
بل أحياء.. ويشعرون
لماذا يرحل بهذه الطّريقة الرّمزيّة المدوّية (والشّاعريّة).. رجلٌ حيٌّ قلّ نظراؤه بين الأحياء كالشّيخ صالح؟
حيٌّ: بسبب خروجه مجاهداً على الدّنيا (وبسبب خروجه منها أصلاً، في جانب ضمنيّ معيّن، سبق لنا الحديث حوله).
حيٌّ: بسبب تطلّعه إلى ما هو حقيقيّ وراء هذه الدّنيا الخدّاعة. أي إلى الوجه الذي لا يفنى نوره.
حيٌّ: بسبب عمله الدؤوب على مجاهدة النّفس، وإنّ النّفسَ ـ غالباً ـ لأمّارة بالسّوء والأنانيّة والفحشاء والعدوان. أي عمله الدؤوب على اتمام الجهاد الأكبر وليس فقط الجهاد الأصغر.
حيٌّ: بسبب خياراته الدّنيويّة الواضحة والبيّنة في مواجهة الظّلم والظّالمين، ونصرة العدل والمستضعفين.
لماذا يرحل “الأحياء الحقيقيّون” بهذه الطّريقة؟
أعتقد، كما أسلفت أنّ رحيلَهم ذاك هو مشهد رمزيّ دراماتيكيّ شاعريّ للتّعبير عن تحرّر الأنفس الرّاقية من سجن الجسد الفان والحاجب.
ولهذا حديثٌ طويلٌ وموعدٌ إن شاء الله تعالى.. ولكنّني أعتقد أنّ هذه الصّورة الرّمزيّة التي أراد لنا الوجود أن نبدأ بها عامنا الحالي: لها معانٍ سياسيّة مهمّة أيضاً. وعلى رأس هذه المعاني: انتصار الخيار القائل بالخروج مجاهدين ومواجهين ومقاومين لهذا العدو (وعليه).. في مقابل هزيمة نكراء وبيّنة للخيارات السّاداتيّة والنّيوـساداتيّة جميعها (من عار كامب دايفيد وما أنتج من أخطاء إستراتيجية إلى ما يمثّله تموضع “أبو مازن” ورفاقه.. إلى خيارات التّطبيع الخليجيّة والعربيّة المستجدّة).
خلف الملحمة الرّمزيّة: الدّلالة على الخيار الصّحيح
نعم، لقد أوصل لنا عام ٢٠٢٣ هذه الرّسالة بشكل واضح، لا سيّما من خلال ملحمة “الطّوفان” ومواجهات غزّة البطوليّة.. وغنّت نشيدَها في بداية عام ٢٠٢٤ – روحيّاً ورمزيّاً وسياسيّاً – الأشلاء الطّاهرة المتناثرة لأجساد “أبي محمّد” ورفاقه.
لا شكّ في أنّ خيار المواجهة العسكريّة غير التقليديّة هو الخيار النّاجح الأوحد، حتّى الآن، مع هذا العدو ومع هؤلاء المغتصِبين.
لكن، لماذا، وباختصار؟
أولاً؛ لأنّنا أمام كيان أنشئ نتيجة “زَعرنة” قامت بها نخب بريطانيّة وغربيّة بهدف تعويض أخطاء تاريخيّة وإنسانيّة تجاه أقليّة هي الأقليّة اليهوديّة في الغرب، ومكافأةً لبعض رجال الأعمال والرأسماليّين اليهود بسبب دورهم المؤثّر في دعم بعض الدّول الغربيّة في حروبها. وما يقوم على “الزّعرنة” من الصّعب جدّاً أن يتمّ تصحيحه بغير استخدامٍ للقوّة المضادّة. وللأسف، يبدو أنّ ذلك من ضمن القوانين المتحكّمة بهذه الحياة الدّنيا (أقلّه في ظاهرها).
ثانياً؛ لأنّنا أمام كيان من المُرَجّح أنّه قد زُرعَ في هذه المنطقة أصلاً وأيضاً: بهدف التّخريب وإيقاع الفتن وعدم الاستقرار والحروب (إلخ..) بين أهلها ودولها. بتعبيرٍ آخر: من المرجّح أنّ الهدف من إيجاد هذا الكيان هو أيضاً بثّ العنف وعدم الاستقرار في المنطقة. وهل يُمكن مواجهة كيان كهذا الكيان من خلال قنوات الحوار والسّلام والدّيبلوماسيّة (إلخ..) كما يُردّد البعض؟ أقلّه حتّى الآن: علينا برأيي نسيان أيّ خيار غير خيار المقاومة المسلّحة – غير التّقليديّة – مع هؤلاء.. تلك المقاومة التي تهدف إلى فرض توازنات قوى تسمح لشعوبنا ولدولنا – ولو بعد حين – بفرض وقائع تعيد أغلب الحقوق إلى أهلها وأصحابها.
ثالثاً؛ لأنّنا أمام كيانٍ قد قام بنسبةٍ كبيرةٍ على العنف والدّم والعدوان والتّهجير والتّطهير العرقي، ولا زالت عقيدته في الأغلبِ قائمةً على ذلك. هل يُمكننا انكار حقيقة أنّ أغلب النّخب المتحكّمة بهذا الكيان تعتقد – دينيّاً واستراتيجياً وسياسيّاً – بضرورة استمرار هذا النّوع من التّعامل مع الفلسطينيّين ومع شعوب المنطقة؟ فلنتفكّر في ذلك جيّداً.. دون أن نصبح أسرى هذه النّقطة الجزئيّة بالذّات (ولتفصيل ذلك بحثٌ آخر إن شاء الله تعالى).
رابعاً؛ لأنّنا وللأسف في عالمٍ جيوسياسيّ أصبح رأسماليّ العقيدة في الغالب. وأمسى لا يرى عمليّاً إلا منطق القوّة المادّيّة وبالمعنى الأضيق. وصار في الغالب لا يأخذ في الاعتبار إلا توازنات الميادين الحربيّة والعسكريّة. لذلك، من المهمّ في رأيي أن نعيَ أنّ عالماً كهذا لن يعطينا حقوقنا المسلوبة إلا إذا أدرك أنّه مجبر على ذلك (بناء على واقع موازين القوى في مختلف الميادين المذكورة وغير المذكورة آنفاً). صحيح أنّ هذه الصّورة الضّدّية شيطانيّة وحُجُبيّة بامتياز. ولكن: هذا هو واقع ظاهر الحياة الدّنيا حاليّاً، وكما نردّد على الدّوام. وفي انتظار القفزة الوجوديّة الموعودة (أو “الإذن الإلهي” الموعود)، علينا أن نصبر ونصابر ونرابط ونقاوم هذا الواقع حتّى يؤذن بتغيّره.
“المقاومة”، حتّى الآن، هي الطّريق المناسب الأوحد بالنّسبة إلى حالنا في الواقع الظّاهر والخارجيّ: بانتظار تغيّرات جذريّة قادمة إن شاء الله. لكن هل سيُغيّر الوجودُ واقعَنا الخارجيّ من غير أن نبذل الجهد المطلوب منّا؟ لا أعتقد بذلك طبعاً، وأنا المؤمن بأنّنا نعيش حاليّاً في عالم الامتحان والتّمحيص والابتلاء.
خامساً؛ أخيراً وليس آخراً، وكما ذكرنا في ما سبق: لأنّ الواقع الخارجيّ عينه قد أظهر لنا فشل وعدم جدوى الخيارات السّاداتيّة – بمختلف أشكالها وتجلّياتها حتّى اليوم – مع هذا العدو. أعجب حقيقةً من الذين يصرّون على الحديث عن عمليّة سلام وتطبيع وفي هذا التّوقيت بالذّات مثلاً: ألا يرَون نتائج “السّلام” المبني على الذّلّ أو القائم على توازنات قوى ليست في مصلحتنا كشعوب وكدول؟
لا شكّ في أنّ خيارَ المواجهة مع الحياة وفي الحياة: صعبٌ، وصعبٌ جدّاً. ولكن لا طريق إلى النّجاة في هذا العالم الظّاهر ومنه: إلّا من خلال قبول المواجهة عندما تُفرض على الفرد أو على الجماعات في أوقات وظروف معيّنة. وقد سبق لأبي القاسم الشّابي الهذلي (التّونسي) أن عبّر عن هذا الجانب، وأشعرُ اليومَ بأنّ أبياتَه هي ربّما خيرُ نشيدٍ نغنّي من خلاله ملحمةَ استشهاد صالح العاروري ورفاقه السّابقين والقادِمين (وما بدّلوا تبديلا):
كذلكَ قالتْ ليَ الكائناتْ
وحدَّثَني روحُها المُستَتِرْ
(من الواضح أنّ أبا القاسمِ يُشير هنا إلى الحدسِ الرّوحي، وهي المرتبة العليا من الوعي.. ومن لم يقفْ على إشارة أبي القاسم الشّابي، فكيف ستُرشدُهُ عباراتُهُ؟).
إِذا مَا طَمحْتُ إلى غايةٍ
رَكِبتُ المُنى ونَسيتُ الحَذرْ (…)
وقالتْ ليَ الأَرضُ لمّا سأَلْتْ
أيا أمُّ هل تكرهينَ البَشَرْ؟
أُباركُ في النَّاسِ أهلَ الطُّموحْ
ومَن يَسْتَلِذُّ ركوبَ الخطرْ
وأَلعنُ مَنْ لا يماشي الزَّمانْ
ويقنعُ بالعيشِ.. عيشِ الحجرْ!
فإلى متى يا (بعضَ) قومنا سترضَون لأنفسكم.. عيشَ الحجرْ؟ متى تقفزون في الحياة؟
إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياه
فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ!