طه محمّد علي.. بركان فلسطين الشعري

يحقّ للشاعر ما لا يحقّ لغيره. قولٌ ذهب مثلاً، وكأنّ الشاعر مخلوق فوق الطبيعة. ميزة تُجيزُ له قول ما يشاء. ولأنّ الشعر من بين أجمل إبداعات الفكر البشري، شكّك الأقدمون بقدرة الإنسان على الإبداع من تلقاء نفسه، فولدت لديهم قناعة أنّ لكلّ شاعر جنّي يلقّنه الشعر (في التراث الإغريقي، يسمّونه "ميوز" (muse)، أي مصدر الإلهام).

أروع الشعر يتميز بالإستخدام البارع للغة والأوصاف الساحرة والحكمة الفلسفيّة. نقرأه، فتنغرس تعابيره في أحاسيسنا كالجذور، ويُولّد فينا مشاعر إنسانيّة دفّاقة. لكن مشكلة الشعر الكلاسيكيّ تتمثل في الإصرار على إخضاعه لمعايير (أوزان وقوافٍ وأشكال ومقاييس) تفضي إلى نوع معيّن من القصائد. من هنا أهميّة الحداثة التي إعترفت بأشكال شعريّة أخرى لا تأبه بكل هذه المعايير، لنشهد هذا الجموح الشعري “النثري” الذي لا يقلّ روعةً عن الشعر “المُقفّى” والموزون.

الشاعر الفلسطيني الراحل طه محمّد علي (1931-2011) كان من روّاد الشعر العربي “النثري” الحديث والقصيدة الفلسطينيّة المقاومة. هو شاعر بالفطرة، حاله كحال شعراء كثر في عالمنا العربي، يرشح منهم الشعر كما يرشح اللبان من شجر الكندر. يقول طه محمد علي عن الشعر “النثري” في ديوانه “إله خليفة، وصبي فراشات ملوّنات” (صدر في الناصرة عن مطبعة فينوس في آب/أغسطس سنة 2002) ما يلي:

“ثم هل يوجد حقًا قصيدة نثرية وقصيدة أخرى غير نثرية، وهل للشعر صفة خلا أنه روح قد تقع عليها في القصيدة الموزونة المقفاة التقليدية، وقد لا تجدها في العديد من القصائد التي تقيم الوزن وتشتمل على القافية؟ ولم لا تنطلق هذه الروح من قصيدة تخلو من الوزن وتتنكب القافية؛ لكنها تقدم مقابلاً مُجديًا عنهما ممثلاً بالموسيقى الداخليّة والإيقاع الجواني الذي يلامس شغاف القلب، ويملأ الذاكرة بالصور النابضة التي تقول أكثر من خطوطها وألوانها وتوحي بما هو خلف الضوء والظلال؟”

بمعنى آخر، ما يريد طه محمّد علي قوله هو أن الشعر روحٌ لا يجب أنّ نحبسها داخل جسد معيّن، بل أن نتركها حرة متمردة عابرة للأزمان طالما أنّها تكشف لنا ما هو غير مكشوف.

التقيت به في أواخر شهر أيلول/سبتمبر من سنة 2002، عندما زار كليّة ميدلبري الجامعيّة في ولاية فرمونت الأمريكية لإلقاء البعض من قصائده الشعريّة. كنت قد بدأت التدريس في ميدلبري قبل ذلك بأسابيع قليلة، وكنا أنا وزوجتي في طور التأقلم مع تجربة تلك القرية (تركناها في ما بعد لصعوبة التأقلم)، فاكتسب لقائي بطه محمّد علي بعداً مختلفاً: عربيّان وجدا نفسيهما في آخر بلاد الله، يتناقشان في أحوال الشعر ودوره في تطوير الوعي السياسي في عالمنا العربي. أهداني وقتذاك كتابه الجديد “إله خليفة، وصبي فراشات ملوّنات” وكان صادراً من المطبعة قبل أسابيع قليلة.

لطه محمّد علي قصائد كثيرة في مواضيع شتّى، لكنّ شاغله الأكبر، الذي فجّر في داخله الشعر فخرج يهدر زائراً كبركان ثائر، هو قضيّة فلسطين وأهلها. يقول في إحدى قصائده:

“ذبحوني / على العتبه / كخروف العيد / …. / وذبحوني / من الأذن إلى الأذن / آلاف

المرات / وفي كل مرة / كان دمي يتأرجح كقدم المشنوق… / لن أموت / لن أموت /

سأبقى شرنيخة فولاذ / بحجم موسى الكباس / مغروسة في العنق / سأبقى بقعة

دم / بحجم الغيمة / على قميص هذا العالم”.

نعم، لم يحمل طه محمّد علي البندقيّة ليقاوم. مقاومته كانت بالشعر والكلمة. وإذا كان للشعر من فضيلة، فإنّه يستمر شاهداً على ما فعله الصهاينة بأهل فلسطين. نعم، مات طه محمّد علي، لكن شعره ما زال حيّاً، يُلهمنا أنّ هناك خيارات في الحياة، كثيراً ما تكون صعبة ومرّة، ولكنها ترسم لنا الأمل ولو كان مستحيلاً بنظر البعض.

تذكّرت طه محمّد علي مع توالي فصول مجزرة غزّة التي نشهدها منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. سألت: “ما كان ليقول أمام هول ما نراه من قتل وتدمير لم يشهد له العالم مثيلاً”؟ تذكّرت قصيدته “إنتقام”، التي كتبها في الناصرة يوم 15 أبريل/نيسان 2006، ويقول فيها:

“أحيانًا / أتمنّى أن أُبارز / الشخص الذي /قتل والدي / وهدم بيتنا / فشرّدني / في بلاد الناس / الضّيّقة / فإذا قتلني / أكون قد إرتحت / وإن أجهزتُ عليه / أكون قد إنتقمت!”
بعد أنّ هُدّمت بلدة صفّوريّة ـ مسقط رأسه ـ وهُجّر أهلها، لجأ مع عائلته إلى لبنان، لكنّهم عادوا سريعاً إلى فلسطين وسكنوا في الناصرة قريباً من صفّورية. حنينه إلى قريته لم يفارقه طوال سني حياته، وكان دائماً يُعرّف عن نفسه أنّه ابن صفّوريّة. جرحٌ لم يندمل، ولّد فيه حسّ الإنتقام. لكنّه انتقام إنساني من نوع آخر:

“لكن/ إذا تبيّن لي / أثناء المبارزة / أنّ لغريمي أُمًا / تنتظره / أو أبًا / يضع كفّ يمينه / على مكان القلب من صدره / كلّما تأخّر ابنه / ولو ربع ساعة / عن موعد عودته / فأنا عندها / لن أقتله إذا / تمكّنت منه.
كذلك/ أنا لن أفتك به / إذا ظهر لي / أنّ له إخوة وأخوات / يحبّونه / ويُديمون تشوّقهم إليه. / أو إذا كان له / زوجة ترحب به / وأطفال / لا يطيقون غيابه / ويفرحون بهداياه. / أو إذا كان له / أصدقاء أو  أقارب / جيران معارف / زملاء سجن / رفاق مستشفى / أو خُدناء مدرسة / يسألون عنه / ويحرصون على تحيّته”.
لا يسعني إلاّ أن أنحني أمام هذه الكلمات التي تُعبّر عن إنسانيّة قلّ مثيلها في عالم الواقع. فالغرب يتبجّح كثيراً بإنسانيّته، بينما يصبح متوحشاً في أعماله وأفعاله. غير أن أهل فلسطين الذين عانوا المظالم وذاقوا الويلات كانوا دوماً مجبولين بالإنسانيّة، وأكثرهم يُقاوم بالكلمة والحجر، علّ الإنسانيّة تستيقظ داخل الصهاينة الفاشيّين والغربيّين الذين يقتلونهم ويُنكّلون بهم.

إقرأ على موقع 180  أين اليسار اللبناني والعربي مما يجري على أرض فلسطين؟

نعم، كان انتقام طه محمّد علي بلا بندقيّة وبلا رصاص.. ويمكن أن ندحضه بما قاله أبو تمّام:

 “السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ / في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ
بيضُ الصَّفائحِ لاَ سودُ الصَّحائفِ / في مُتُونِهنَّ جلاءُ الشَّك والريَبِ”.

لكن، ما نشهده الآن ليس فقط حرباً بالسلاح. هناك حرب موازية لتلك التي تشهدها ساحات غزّة والضفّة وأماكن أخرى. إنّها حرب الكلمة والرواية التي يريد الصهاينة الفاشيّون ودول الغرب الإستيلاء عليها ليكون لهم إنتصار ولو كان وهمياً. هنا يبدو لنا كم كان قصير النظر أبو تمّام، وكم سها عن باله أنّ السيوف تنكسر ويتآكلها الصدأ، أمّا الكلمة فلا سيوف تكسرها ولا زمن يُميتها.

لنقرأ كيف انتقم طه محمّد علي:

“أمّا إذا كان وحيدًا / مقطوعًا من شجرة / لا أب ولا أم / لا إخوة ولا أخوات / لا زوجة ولا أطفال / بدون أصدقاء ولا أقرباء ولا جيران / من غير معارف / بلا زملاء أو رفقاء أو أخدان / فأنا لن أُضيف / إلى شقاء وحدته / لا عذاب موت / ولا أسى فناء / بل سأكتفي / بأن أُغمض الطّرف عنه / حين أمرّ به في الطريق / مُقنعًا نفسي / بأنّ الإهمال / بحدّ ذاته هو أيضًا / نوعٌ من أنواع الانتقام”!

 

من دون شكّ، كان طه محمّد علي ليتألّم وقلبه ليتمزّق أمام هول المذبحة التي تحدث الآن في غزّة وفي الضفّة. لكنّه لم يكن ليغيّر قناعاته قيد أنملة: فعينه قاومت مخارز كثيرة، لأنّه كالكثيرين من فطاحل الشعر، قلب القواعد، فجعل صوته عابراً للحدود، وكلماته ثاقبة وقاطعة.. هل يصحُ القول فيه إنه شاعر المقاومة بالفطرة؛ الشاعر المتحرر من الولاءات الضيقة.. شاعر فلسطين التي تختزل ببركانها المفتوح حكاية كل المظلومين والمقهورين في العالم؟

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  حرب رفح.. لترفع مصر صوتها أياً كانت الكلفة