إسرائيل آلة حرب قوية، وهي لم توجد إلا من أجل الحرب، ولا تدعمها قوى كبرى إلا من أجل ذلك. كلما اكتشف هؤلاء الداعمون مدى ضعف العرب وتمزّقهم، ازداد الدعم لإسرائيل. الكل يعرف أن هذه الآلة الحربية هي جيش له دولة أكثر مما هو دولة ذات جيش. العلاقة بين الجيش والدولة في إسرائيل هي ما يُقرّر أسلوب الحياة وقابلية دولتها للبقاء في علاقتها مع الغرب وثقافتهم. لدى الغرب ضغينة ضد حضارتنا التي هو وريثها، وما يجمع بين الحضارتين مما لا يقره الغرب هو أنهما وجهان لعملة واحدة. هما ليسا غرباً وشرقاً إلا في المخيلة، بل شمالاً وجنوباً لبحر واحد وبعض أطراف الغرب الأقصى، تصل إلى خط طول هو في غرب بريطانيا. لدى العرب ضغائن مقابلة ضد الغرب. نعرف منها ما استجد في القرون الأخيرة نتيجة الطغيان الاستعماري.
يبدو أنه في سياسة الأرض (الجيوبوليتيك) قوة الجار متى زادت تبعث على الشعور أن هناك ما يُهدّد. لذلك يترتب على المعني أن يبقي الجار ضعيفاً، بل مهترئاً. لدى الشرق ما يسحر الغرب: ثقافياً ومادياً بما يتمتع به من ثروات خام لا يستفيد منها إلا القليل من الناس. السحر يشوبه الخوف من أشباح ذات قوى مستترة، خاصة وأن الإسلام السياسي صار ما هو عليه، مما يعرفه الجميع. يتوجب إذن، في نظر المعني، أن يبقى الجار ضعيفاً وذلك باستخدام كل وسائل الحرب. أداة الحرب الكبرى هي إسرائيل، بالأحرى جيشها. فهي دولة ملحقة به. المفارقة في كل ذلك أن اليهود هم ضحايا الغرب، تاريخياً، لا ضحايا العرب. واختيار الأرض العربية في فلسطين لهم كان قراراً خبيئاً. كان الانجليز قادرين على الحنث بالوعد، وعد بلفور، كما كانت عادتهم بالحنث بالوعود الأخرى. وكذلك الأميركيون. وحتى الاتحاد السوفياتي كان أول دولة اعترفت بإسرائيل، أيام ستالين.
ما زلنا نسمع أصواتاً وازنة تطالب بالفدرلة، ليس من أجل تسهيل المعاملات البيروقراطية، بل من باب اختلاف ثقافتين، وعدم قدرة أصحاب الواحدة منهما على العيش مع الآخرين. فكأن السياسة لا تُمكّن من تجاوز الاختلاف الثقافي، أو كأن هذا الاختلاف عميق لا يمكن ردمه، بينما الجميع يتكلمون لغة واحدة ويتشاركون في كثير من الرقصات، والمآكل، والزجليات، وغيرها!
كل ما سبق هو من نوع الحجج الذي ليس ضرورياً. الذي لا بدّ منه لمواجهة إسرائيل أو أية دولة أخرى هو إصطناع أو بقاء دولة في لبنان أو غيره من الأقطار العربية، بما فيها جيش قوي. ففي الدولة سيادة وشرعية لا تتمتّع بها أي منظمة أخرى، سوى أن بعض تلك المنظمات أو معظمها من الجهتين تتبع لطرف خارجي سلب لبنان السيادة، وهو من يُقرّر الحرب والسلم.
إذن الجدلية الحقيقية هي في وجود الدولة أو اللادولة، لا بين قرار الحرب وقرار السلم. وفي هذا المجال لم نفعل الكثير لإقامة الدولة، بل هدمنا ما بقي من دولة بعد أن مرت أحداث اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام 2005، والانسحاب السوري، وتبجحنا بالاستقلال والسيادة. الفريقان في لبنان يعكسان واحدهما الآخر. أحدهما لا يريد دولة والآخر يفعل كل شيء لإضعاف اللبنانيين الذين لا تقوم الدولة بإنهاكهم. وما حصل من إقفال المصارف والتضخم المفتعل أديا بالنتيجة الى إنهاك شعب لو توحد لكان قادراً على المواجهة، وعلى اتخاذ القرارت اللازمة. يُتوّج ذلك أن لا رئيس جمهورية لأخذ القرارات والتعامل مع الدول الأخرى.
الاعتراف بالدولة يتطلّب الإقرار بأن اللبنانيين يمكنهم العيش سوية، وأخذ هذا الأمر بجدية لا تقبل النقاش. لكننا ما زلنا نسمع أصواتاً وازنة تطالب بالفدرلة، ليس من أجل تسهيل المعاملات البيروقراطية، بل من باب اختلاف ثقافتين، وعدم قدرة أصحاب الواحدة منهما على العيش مع الآخرين. فكأن السياسة لا تُمكّن من تجاوز الاختلاف الثقافي، أو كأن هذا الاختلاف عميق لا يمكن ردمه، بينما الجميع يتكلمون لغة واحدة ويتشاركون في كثير من الرقصات، والمآكل، والزجليات، وغيرها!
المصارف اللبنانية، وهي أداة هامة بيد البورجوازية الكبرى المالية، بإغلاقها الأبواب أمام المودعين الذين في معظمهم تشكل أموالهم لدى المصارف جنى العمر أو معظمه، لعبت الدور المزدوج لدى الفريقين المختلفين حول شعار الحرب والسلم، بسلخ ملكية الناس وطردهم من مواطنيتهم، وشل الدولة الذي يريدها الطرف الآخر، أو يبدو أنه يريدها، وإلا كان فعل شيئاً لمنع أو إيقاف السرقة التي تشكل جرماً قانونياً أو دستورياً.
أما التوافقية فهي مؤشر آخر على إهمال شأن الدولة والسياسة، أو العداء لهما. ففي السياسة لحمة المجتمع ومنها تطلع الدولة وتدوم، إذ تنزرع في ضمير كل فرد ليصير مواطناً لا رعياً. ففي غياب السياسة، بما في ذلك تواري المعارضة والموالاة، يتشقق البلد مجتمعاً وسياسةً، بما يجعل صعباً رتق الفجوات بين اللبنانيين. في السياسة إرادة العيش سوية لدى مختلف الفئات والطوائف والطبقات، التي لا بد من تسويات بينها تُحسم بالانتخابات. التوافقية تعطي حق الفيتو لفريق أو طرف مما يعطل التسويات وتراكمها، ويحيل تبادل الأفكار الى حوار طرشان. السياسة تحمل في طيات الاختلافات نية التسويات. هي ما ينقل النظام الى حال الدولة. عدم انتخاب رئيس يبقي لبنان في حال اللا-نظام. حال الدولة المنقوصة هي في الحقيقة لا-دولة. في لبنان يوجد كل أجهزة النظام الأمنية والبيروقراطية إلا أنه صار لا-دولة بعد أن كان دولة. كل هذه الأجهزة يضاف إليها ما هو منظمات غير حكومية، سواء كانت مسلحة أو غير ذلك، هي اللا-دولة.
للسلم والحرب نحتاج الى دولة، سواء كانت مركزية أو لا مركزية، فيدرالية أو كونفيدرالية. في الدولة يتشابه الناس في أمر واحد فقط وهو المواطنية. وغير ذلك يختلف ويتطوّر ويصير غير ما كان عليه. الاختلاف ليس عيباً. هو ما يمنح الحياة تشويقاً يحتاج كل منا إليه.
اللا-دولة هي ذلك الوهم الجميل أننا في دولة، بينما واقع الأمر مغاير لذلك. وهي وجود حقيقي كالدولة. يقلقنا هذا الوجود ويوهننا، ثم يحيلنا الى كائنات تشك بالقدرة على فعل شيء. الهجرة هي الترك أو المغادرة إلى حيث نستطيع فعل شيء، شرط أن يكون خارج لبنان الذي بات خواء حتى في باطن كل منّا. ما عاد وجودنا في لبنان ذا أهمية بالنسبة لنا.
يقال في الفيزياء إن اللا-مادة موجودة كالمادة. نحن ليس لدينا إلا ما هو مقابل اللامادة.