السياسة Archives - 180Post

134.jpg

بعد الحرب العالمية الأولى، وبعد خروج العثمانيين، وقبل دخول الفرنسيين الى بلاد الشام، أنشأت النخب السياسية فيها مملكة دستورية، ونصّبت فيصل الأول ملكاً. الدستور الذي وضعته هذه النخب ـ بعد إخراج البريطانيين ـ كان أرقى من دستور الولايات المتحدة. دام الأمر عامين وأكثر بشهور، إلى أن دخل الفرنسيون الى دمشق، ومزّقوا الدستور وهزموا جيش أهل الشام (كان يشمل العراق وفلسطين وسوريا والأردن ولبنان)، ومحوا الديموقراطية، وباشروا انتداباً كان استعماراً حقيقياً حرم الناس من أن يكون لهم صوتٌ في تقرير مستقبلهم.

8b8629e8c15b72a6ca1d50b8f91867c5.jpg

قرار الحرب والسلم يُثير الكثير من الضجيج في لبنان. لا تتسابق الأطراف على قرار الحرب أو السلم، لكن الشعار يعني بالدرجة الأولى السيطرة على البلد دونما حاجة الى الدولة. في الحقيقة، ليس قرار الحرب والسلم ما يعنيه في الظاهر بل يتعلق بوجود الدولة أو ما بقي منها، أو بالأحرى السيطرة على المجتمع، أو التخويف من أجل أهداف سياسية.

12-5bc889a197053__700.jpg

من أَوْكد دروس الفكر تلازمه في الماهية مع الحرية الذاتية في فضائها الداخلي قبل تداخلها وارتباطها العضوي من حيث الفعل والأثر في الحرية العامة الجمعية، كأن يحاسِب المرء نفسه ويسائلها أو كأن يلاحظ ويتابع ويُحلّل ويستنتج بملء إرادته، وأن لا يكون أمعة تتجاذبها الآراء والأهواء.

090909090909090.jpg

تستند الطائفة إلى الدين أو المذهب في تشكلها لكن يغلب عليها الطابع السياسي. لا يهم الطائفيين ممارسة الطقوس الدينية بقدر ما يهمهم حقوق الطائفة، بالأحرى حصة الطائفة في مغانهم السلطة، سواء كانت هذه مادية أو معنوية. تغلب على الجماعة الدينية ممارسة الشأن الديني على السياسي. الأولوية عندها للدين قبل السياسة، واستقامة ممارسة الدين على حنكة السياسة والسياسيين، لكن يمكن للجماعة الدينية أن تُشكّل ثقافة مغايرة.

ABS8744-1482156154_106.jpg

عندما حدثت ثورة 17 تشرين/أكتوبر 2019، ظهر فجأة لدى اللبنانيين "سوبر هوية"، أو هوية فوق الهويات الطائفية. انفردت تنظيمات طائفية شيعية، وهاجمت المتظاهرين، وهي تهتف "شيعة-شيعة"، لتأكيد الانفصال عن هذه الهوية "السوبر". أصر أكباش الطائفة الشيعية على طابع الجماعة المغلقة. أسدل الستار على الثورة وجاءت الانتخابات النيابية.

photo_2023-01-21_17-45-32-2.jpg

بكل بساطة، كي لا تكون هناك دولة تُحاسبهم.. فرطوا الدولة، وكي لا يكون هناك قضاء يُعاقبهم.. دمّروا القضاء، وكي ينهبوا ما تبقى من أموال الناس.. كرّسحوا المصارف وحموا ما بقي من هياكلها، وكي يحافظوا على سيطرتهم.. أمعنوا في التحريض الطائفي والمذهبي، فبلغت الانقسامات الطائفية والمذهبية حداً غير مسبوق؛ حافظوا على الأجهزة الأمنية والعسكرية ظناً منهم أن ذلك يُبقي على الاستقرار وسيطرتهم بالتالي.. وغيرُ خافٍ أن هذه الأجهزة لديها مناعة، أو بعضها على الأقل لأسباب مهنية.

أن يكون الفراغ في سدة الرئاسة الأولى سُنّةً، يصير وكأنه من تقاليد الحياة “السياسية” في لبنان، وأن يُصرّوا على التوافق بشروط مسبقة دون التفاوض والتصويت.. فيه إلغاء للسياسة، وهي بالأساس تفاوض مبدأها التسوية التي تُحسم بالتصويت. يريدون أن تكون الدولة فراغاً دستورياً لا ينتظم فيها المجتمع تلقائياً، بل يكونوا هم الذين يجمعون الناس بعد تفريقهم طائفياً وإنهاكهم مالياً وتجويعهم معيشياً، خاصة بعد ثورة 2019 التي رأوا فيها خطراً على سلطتهم. خلقوا الفراغ في الدولة ليكون وسيلة لحكم لبنان. أسلوب جديد في إدارة الدولة.

المشهد في لبنان الآن ثلاثي الأوجه: فريق المقاومة وفريق الثقافة المغايرة، وسفارة أميركية كبرى يشير حجمها الى أن المقصود بها المنطقة وليس فقط هذا البلد الصغير، فيؤول الأمر الى بضع رصاصات يطلقها من تدعي الأجهزة الأمنية أنها لا تعرفه، فهي غير معنية بصراع “يفوق” المهمات المكرسة هي من أجلها

ليس الأمر أن ليس في البلد دولة. الدولة الآن هي الفراغ. الحُكم بالفراغ هو ما تفتعله السلطة الحاكمة والمسؤولون عنها. لا شيء يمنع رئاسة المجلس النيابي من الدعوة لانتخابات رئاسية إلا لسبب التواطؤ الذي يكون مبدأه إما وجهة نظرنا أو لا أحد. يعتمد أصحاب هذا التواطؤ على أن جمهور اللبنانيين لن يستجيب لدعوات التحريض فيؤدي الأمر إلى الأسوأ، ومعروف ما هو الأسوأ، فيعتبر ذلك عجزاً عن المواجهة. ويتعالى أصحاب التواطؤ إمعاناً في احتقار شعبهم من مختلف الطبقات والطوائف والمذاهب. هم لا يُسيئون إلى البلد بخلق الفراغ وحسب، لكنهم يسيئون إلى أنفسهم، إذ وضعوا أنفسهم في قفص الإتهام. وما عاد خافياً على أحد هوية من يحكم لبنان أو من بيده السلطة، سلطة الحل والعقد. هل يُريد هؤلاء الإشارة الى أن العداء لإسرائيل ليس الأولوية، بل هي في مواجهة “الشيطان الأكبر”؟ وهذا يشمل الامبريالية الأميركية كما الثقافة المحلية التي لا تروق لهم. ولا مانع عند خصومهم من المواجهة الثقافية ما دامت لا تُكلّف الكثير إلا أنها تنم عن مكبوت الفيدرالية التي صارت ممارسة يومية بين ثقافتين.

ربما تأكد للنخب الحاكمة أن في ذلك فرادة لبنان واستثنائيته؛ عبقرية لا يجاريه فيها أحد على وجه الكرة الأرضية. المشهد في لبنان الآن ثلاثي الأوجه: فريق المقاومة وفريق الثقافة المغايرة، وسفارة أميركية كبرى يشير حجمها الى أن المقصود بها المنطقة وليس فقط هذا البلد الصغير، فيؤول الأمر الى بضع رصاصات يطلقها من تدعي الأجهزة الأمنية أنها لا تعرفه، فهي غير معنية بصراع “يفوق” المهمات المكرسة هي من أجلها. مسرح الفراغ شغّال، ويتعيّن عليها حمايته.

كل ما عدا ذلك من أحزاب وتجمعات نيابية وكتل نيابية وأقزام يروحون ويجيئون على المسرح، ما هم إلا “ديكور” يهدف إلى ضمان استمرار المسرحية ذات الأبطال الثلاثة المذكورين أعلاه. ليست المسرحية عبثية إذ أن نتائجها متوقعة، وما هو مزعوم أنه غير متوقع، يتقرر فيه مصير جمهور كبير من المشاهدين في صالة المسرحية من اللبنانيين وغير اللبنانيين، من أصحاب إخراج القيد ومن يفتقدونه حتى إشعار آخر.

ليس في لبنان مواطنون. هم جميعاً رعايا. إذ أن المواطن بالتعريف يُساهم في السلطة بطريقة أو بأخرى، عن طريق الإنتخابات، أو الأحزاب، أو التظاهر، أو ما يؤدي إليه تشكيل الرأي العام. فالمواطنية ملغاة بحكم إلغاء الدولة وتدمير السياسة وممارسة أو محاولة تطبيق مبدأ التوافق لا التسوية. والغرابة في لبنان هي الإصرار على مبدأ لا يمكن تطبيقه والعزوف عما هو متيسر ولوجه.

بين المشاهدين، النسبة بين من يملكون إخراج قيد والذين لا يملكونه متقاربة، وهم حتى الآن جمهور من المشاهدين، لكن وراء الأكمة ما وراءها.

القابضون على السلطة مطمئنون إلى أنه إذا حدث ما لا يريده أحد، وهو متوقع على كل حال، فإن لكل منهم طائفته التي يحتمي بها ويدفعها إلى تشكيل جماعة مغلقة. في أحسن الأحوال ستكون هناك فيدرالية بين الجماعات المغلقة سواء أكان لكل منها أرض متصلة أو لا يكون؛ لكن الاعتماد على “ثقافة” كل فريق طائفي؛ ولذلك الإصرار على مواجهة ثقافية حتى ولو تعلق الأمر بمنع كتاب أو تحريم فيلم سينما أو مقال صحفي، يزعم ذوو الحياء الثقافي أنه كان ذا أثر عليهم؛ على شعورهم الثقافي أو القومي.

مسرح الفراغ لا يدوم وأطراف الطبقة السياسية يعرفون ذلك. ليس في القانون الدولي فراغ. لا فراغ في السياسة. إن لم تملأه السلطة فإن الجماهير قادرة على ملئه وتعبئته كما لم يكن متوقعاً.

لم يأخذ أهل الحل والعقد أن الفراغ وإن أخلوه إلا أن الجمهور يستطيع أن يملأه. حينذاك سوف يقولون “لات ساعة مندم”.

سلايدر-3.jpg

يكشف الأدب عما في المجتمعات من اختلال في القيم واتجاهات التفكير والفعل، ويُقدّم استبصارات لما يُمكن أن تؤول إليه الأمور. صحيح أنه لا يُنتج خُطباً أو نصوصاً أو مشروعات سياسية بالضرورة، لكنه يقول الكثير مما يُمكن أن يقال.

ef681f21551247.5630506018aee.jpg

علينا أن نشتري ورداً، لنضعه على قبر أمة. الأمة لم تولد بعد في جغرافيا العرب. علينا أن نسأل من أفسد الأديان في مهبط الوحي والإيمان. لا تنقصنا الأدلة: السياسة تسيء إلى الدين، والدين يسيء إلى السياسة.

9fec4ee1062eade451bc382207519abb.jpg

يُعدُّ الشرق العربي أو الهلال الخصيب أو ما أصبح يعرف بـ غرب آسيا واحداً من أقدم المناطق التي عرفت أو أنتجت السياسة في العالم.([1]) وهذا ما يفخر به أهل المنطقة، ويحقُّ لهم ذلك، إلا أنَّه مع ذلك يثير أسئلة من قبيل: لماذا لا ينعكس ذلك على أحوال مجتمعاتها ودولها اليوم، ولماذا يمثّل تاريخها تراجيديا دائمة (أو شبه دائمة) في السياسة؟