في محاولة لتفكيك وفهم المجتمع الإسرائيلي والصهيونيّة، سنُضيء على كتاب “قصّة عن الحبّ والظلام” للكاتب عاموس عوز، كنموذج ثقافي يُعبّر عن “المثقّف الإسرائيلي”.
من الصفحات الأولى لهذا الكتاب، تتجلّى شوفينيّة وعنصريّة الصهيونيّة، وترويجها لليهود باعتبارهم شعبًا مميّزًا. يقول الكاتب من سطور كتابه الأولى “في القدس في تلك الأيّام كان كلّ واحد تقريبًا شاعرًا أو كاتبًا أو باحثًا أو مفكّرًا أو مثقّفًا أو مصلحًا عالميًّا”، ويُخبرنا أنّ العالم لا يحبّهم لأنّهم فطنون ومتوقّدو الذهن ومتفوّقون، وللشّعب اليهودي عقل أكثر من جميع العالم مجتمعين، والأغيار (كلّ من هو غير يهودي) يعلمون أنّ الدبلوم (التّعليم العالي) هو دين اليهود، والكاتب في وصفه يهود القدس يرى أنّهم كانوا مثقّفين أكثر من اللّازم.. والكتب هي الشّيء الوحيد الذي كان يتوفّر لديهم بكثرة!
جدُّ الكاتب لأبيه شخصيّة لها وقع كبير في القصّة؛ يصفه بصاحب الدّعابة والدّمث والمحبّ للنّساء والمهذّب بالفطرة؛ ممتلئ اللطافة وعاش عمرًا طويلًا لما يملك من خصال محبّبة، وعنه صدرت الكثير من التّصريحات الصهيونيّة المتطرّفة، فقد قال إنّ العلماء عند الأميركيين والرّوس كلّهم من اليهود، وكان على قناعة تامّة أنّ أغنياء اليهود السّاكنين في أميركا سيضغطون على أميركا لقيام الدّولة، وعلى شعوب العالم أن تساعد إسرائيل في إعادة العرب إلى السعوديّة (موطنهم التاريخي)، وأنّ يد اليهود ستطال آخر العالم إذا تسلّحوا بالإصرار ولم يعيروا الأغيار بالًا، وعندها سيقضون عليهم ويقيمون مملكتهم الجديدة من النيل إلى الفرات، لذلك عليهم القتال حتّى النهاية والانتصار نصر الأقوياء ومن بعدها يمنحون السّلام.
حديث المصداقيّة في رؤية الأحداث السّياسيّة، أمرٌ يطول، فالكاتب قرّر انطلاقًا من الفصل 42 في كتابه أن يستفيض في المغالطات والتّحريفات التّاريخيّة التّي تبرع بها الصّهيونيّة. يذكر الكاتب أنّ اليهود كانوا الأكثريّة المطلقة في القدس منذ منتصف القرن الثّامن عشر حتّى القرن العشرين، وهذا تزوير متعمّد للحقائق، فالبحث يُفضي بالباحث إلى أنّه في منتصف القرن التّاسع عشر تعاظمت هجرة اليهود الأشكيناز إلى القدس، لكنّهم لم يتحوّلوا إلى أكثريّة إلّا بعد العام 1893، أي بعد وعد بلفور والانتداب البريطاني الذّي نظّم الهجرة اليهوديّة وسهّلها.
يتخبّط الكتاب عند الحديث عن الفلسطينييّن، فمرّة يُسميهم العرب ومرّة أخرى الأردنيّيّن، وهو الذّي يحاول التّرويج لكذبة الصّهيونيّة الأشهر من أوّل كتابه “إسرائيل أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. يُخبرنا في مطلع كتابه أنّ هذه الأرض كانت مُقفرة ونائية وصحراويّة فيها بعض العرب، وهي أرض سكنها الإسرائيليّون منذ القدم، لكنّه للمفارقة يذكر أنّ الصّحيفة اليهوديّة التّي كانت تصدر بالإنكليزيّة في القدس الانتدابيّة كانت تسمّى “فلسطين بوست”!
وفي حين يُسهب في الحديث عن قتل القنّاص الأردني لزوج جارتهم، يمرّ على مجزرة دير ياسين مرور الكرام، ويُخبرنا أنّه في “حرب الإستقلال” – كما يحلو للإسرائيليين تسميتها – مسحت المستوطنات التّي وقعت في أيدٍ عربيّة عن وجه الأرض ولم يسمح لأي من سكّانها بالعودة وحصل تطيهر عرقي، بينما بقي أكثر من مئة ألف من العرب في أراضي دولة إسرائيل! فالكاتب الذّي ذكر أنّ أرض فلسطين حوت مليون فلسطيني وستمئة ألف يهودي قبل إنهاء الإنتداب، يرى أنّ كرم مؤسسي الدّولة الجديدة هو الذّي سمح ببقاء مئة ألف منهم!
يُخبرنا أيضًا أنّه خلال الحرب التّي سبقت الاستقلال (نكبة أيار/مايو 1948 التّي أدّت إلى تهجير الفلسطينييّن) كانت المبادرة بيد العرب، والعصابات الصّهيونيّة إكتفت بالدّفاع، لأنّ بريطانيا اعتقلت رجالات الهاغاناه وأحبطت محاولاتهم في الهجوم، حتّى أن مئات الجنود من الجيش البريطاني انضمّوا للعرب وقاتلوا إلى جانبهم. عمّ الكاتب البروفيسور يوسف كلاونزر يقول إنّ الحكومة العبريّة الحاليّة لم تحرّر الحرم المقدسي والبلدة القديمة من العرب، ولكنّ بعد قيام قيادة جديدة ستتحرّر البلاد من “نير المحتلّ العربي”.
يتحّدث الكاتب عن حصار القدس اليهوديّة وكيف أوشكت المدينة على المجاعة والموت والعطش وعانت خطر انتشار الأوبئة ويسترسل في الحديث عن مذكرات اليهود المحاصرين في الحرب الذّين حرموا من الحياة الطّبيعيّة وأكلوا مسحوق البيض، في الوقت الذّي قتل آلاف الفلسطينيين وهجّروا من بلادهم دون أمتعة وتركوا بيوتهم ولم يعودوا إليها ليومنا هذا.
يحكي عن القافلة التي قتل فيها 77 ممرضة وطبيبًا وبروفيسورًا وطالبًا بألغام وقنابل فورية وزجاجات المولوتوف وعن الهيئة العربيّة التّي أصدرت بيانًا تقول فيه إنه “كان عملًا بطوليًا”! يضيء الكاتب على ألمعيّة ركّاب الحافلة، وبينهم بطبيعة الحال أطباء وطلاب وأساتذة جامعات، كلُّ فردٍ منهم على قدر عالٍ من الأهميّة، بينما يمرّ مستعجلًا في صفحة لاحقة عن مئات الآلاف من الفلسطينييّن الذّين تمّ تهجيرهم! يتطرّق إلى عنصريّة الكلام الذّي توجّه به المفتي العربي تجاه اليهود، وكيف أرادوا ذبحهم، ويقول إنّ اليهود رأوا في ذلك الوقت جامعة الدّول العربيّة مجرد ذراع بريطانيّة، وأنّ بريطانيا أخرجت موظّفيها من البلاد لتعود من الباب الخلفي، وتعطي القدس للملك عبدالله لتصبح عاصمة شرق الأردن بينما يُرحّلون اليهود إلى جزر في المحيط الهندي.
وفي سياق التّرويج لخطاب المظلوميّة، يقول الكاتب إنّ اليهود عام 1947 تأمّلوا أن تُلغى القيود التّي فرضها البريطانيون على الهجرة، وتمنّوا أن يتمكّن مئات آلاف اللّاجئين في أوروبا ومعسكرات الاعتقال البريطانيّة في قبرص من الدّخول إلى البلاد، لكّنهم تخوّفوا همسًا أن تسمح بريطانيا للمليون عربي بمساعدة الجيوش النّظاميّة لجامعة الدّول العربيّة أن يقتلوا اليهود الموجودين في البلاد، وخلال التّصويت على قرار الأمم المتّحدة ترقّبوا بحذر تصويت الجمعيّة العموميّة، فجوزف ستالين في موقفه المتعنّت ضد الصّهيونيّة سيأمر أتباعه بالتصويت ضد القرار (الإتحاد السّوفياتي من بين أوّل الدّول التّي اعترفت بدولة إسرائيل)، وبريطانيا التّي تعمل ضدّ اليهود في كلّ مكان، بالطّبع ستصوّت مع الدّمينيونات التّابعة لها في كندا وأستراليا ونيوزلندا وجنوب أفريقيا ضدّ اليهود، حتّى أنّ فرنسا ستخاف من ملايين العرب الموجودين لديها وتُصوّت ضدّهم أيضًا؛ أميركا وحدها، وهي ضمير العالم النّيّر، ستُعرقل المحاولات العربيّة البريطانيّة، وقد تطلق قنابلها الذّرية لتساعد اليهود، أو تبعث بجنرالات ليساعدوا في الحرب لكنّها لن تسمح بمجزرة جديدة تُرتكب بحقّهم.
في سعي الكاتب لإظهار حياديتّه وتعاطفه، يقول إنّه وغيره من اليهود لم يفكّروا في مئات الآلاف من الفلسطينييّن الذّين هُجّروا عند بناء الدّولة، ويقول إنّ الجرائد الإسرائيليّة تركز على ضحايانا دون الإشارة إلى ضحاياهم، وينقل لنا حواره مع زميله في الحراسة اللّيلية في الكيبوتس الذّي اعترض على تسمية عاموس للفلسطينييّن الفدائيّين بالقتلة؛ زميله قال أيضًا إنّ قتال الفلسطينييّن لليهود متوقّع، فهم بالنّسبة إليهم غزاة أرض، وعندما سأل عاموس صديقه عن سبب حمله السّلاح أجابه أنّه مضطرّ لذلك فلا مكان يريد استقبال الشّعب اليهودي، سيقاتلهم حتّى الرّمق الأخير لكنّه لن يدافع عن المزيد من الاحتلال لأرض جديدة، ولن ينعت الفدائي الذّي فقد أرضه بالقاتل!
نحتاج إلى المزيد من الصّفحات لتحليل تفاصيل الكتاب والغوص في ما وراء السّطور. مثلًا، عندما يحكي الكاتب عن ذهابهم إلى بيت المقدسّيين العرب، كل تفصيل هناك يحتاج إلى التّعمّق، كيف يحاول الصّهيوني أن يُبرّر لنفسه ويُصدّر مظلوميته للعالم حتّى حين لا يرتكب أحد غيره الأخطاء، وكيف يحاول الإيحاء غير مرّة أنّ اليهود كانوا دعاة سلام وقبلوا بالحلول لتجنّب الحروب إلّا أنّ العرب كانوا متعطّشين للدّماء!
رُشّح عاموس عوز أكثر من مرّة لجائزة نوبل للآداب، وهو برغم كونه معروفًا بمواقفه الدّاعمة للسّلام، والمتّهم في كثير من الأوقات في إسرائيل بالخيانة لرفضه سياسات الحكومة، أيّد حرب 2006 على لبنان، ودعا إلى وقف الحرب على غزّة في 2008 -2009 بعد دعمه لها بداية باعتبارها حاجة موضوعيّة، فهو بالنّهاية ليس إلّا صهيونيًّا يحاول النّجاة بذاته، ولا يكترث إلّا بتجميل الصّهيونيّة وتهذيبها، وتنقيتها من الشّوائب.
في 28 كانون الأوّل/ديسمبر 2018، لفظ عاموس عوز آخر أنفاسه في تلّ أبيب إثر معاناة مع مرض السّرطان.
منذ بداية حملة الإبادة الإسرائيلية الأخيرة على غزّة، أتساءل هل كان عاموس عوز سيؤيد هذه الهجميّة الصّهيونيّة من زاوية أنه خيار إكراهي لا بد منه، أو سيرفض هذه الإبادة وعندها هل سيكون الرّفض نابعًا من منطلقات إنسانيّة أم صهيونيّة؟
(*) الجزء الثاني في الأسبوع المقبل