الملحمة الفلسطينية.. والسقوط التاريخي لأطروحات “التطبيع”

إنها المرة الرابعة التي تضطر فيها القيادة السياسية والعسكرية الصهيونية إلى وقف حربها العدوانية على غزة من دون أن تحقق أيّاً من الأهداف التي أعلنتها مع بداية الحرب سوى ارتكاب المجازر وتدمير الأبراج والمنازل.

إضطرار القيادة الصهيونية لوقف حربها هذه المرّة له طعم مختلف، وهو ما يفسّر حجم الفرح الشعبي الفلسطيني والعربي والعالمي، لإدراك الجميع أن وقف العدوان لا يمكن أن يوقف الإنتفاضة، وأن حصيلة العدوان كانت مختلفة عنها في الحروب السابقة، إذ قامت قواعد اشتباك جديدة جعلت من أي عدوان على القدس أو على أي أرض فلسطينية عدواناً أيضاً على غزّة.. وما أدراك ما غزة بمقاومتها وترسانتها العسكرية وصواريخها التي باتت قادرة على الوصول الى كل شبر من أرض فلسطين التاريخية.

ربما يحتاج هذا النصر المبين الذي حققه الفلسطينيون في 11 يوماً في واحدة من أعنف المجابهات العسكرية مع العدو وأكثرها توحشاً إلى ندوات تناقش أبعاده وتداعياته، وقد يحتاج الى مجلدات لدراسة الآثار التي سيخلّفها على مستقبل الصراع العربي الصهيوني، لكن من أولويات البحث في تداعيات هذا النصر هو أثره على “التطبيع”، القديم منه والجديد، الذي تشهده الأمة منذ أواخر سبعينيات القرن الفائت والذي تجدّد بوتيرة سريعة في الأشهر القليلة الماضية حين وقّعت أربع حكومات من المحيط الى الخليج اتفاقات “إبراهيمية” مع هذا العدو، بإيعاز من دونالد ترامب وبتواطؤ مع حكومات اعتقدت أن الظرف بات مناسباً للإعلان جهراً عمّا كانت تفعله سراً!

ليس “تطبيع” بعض الحكومات العربية مع العدو الصهيوني نتيجة إملاءات أميركية وغربية فحسب، كما يبدو للوهلة الأولى، ولا هو “ثمرة” ما سُمّيت “صفقة القرن” التي أعلنها ترامب وسوّق لها صهره جاريد كوشنير فقط، بل لهذا “التطبيع” ركائزه الفكرية والنفسية الخطيرة والتي جرى التمهيد لها طويلاً منذ بدء الصراع العربي – الصهيوني قبل أكثر من قرن.

فـ”التطبيع” مرادف للاستسلام، والاستسلام مرادف للهزيمة والشعور بالعجز، والهزيمة ليست حالة عسكرية فقط بل هي حالة ثقافية وفكرية ونفسية أيضاً.

كان هذا النصر إجهازاً على الأسس الفكرية لـ”التطبيع” مثلما كان إجهازاً على الخطأ الفكري الشائع إننا نواجه عدواً لا يُقهر

فأطروحة أهل “التطبيع” الأولى تقوم على أن هناك تفوقاً كبيراً للعدو علينا كعرب، وأن هذا العدو مدعوم من دول كبرى لا قدرة لنا على مواجهتها، وأن السبيل الأفضل للتعامل معه هو اعتماد المثل الشعبي الشائع:”اليد التي لا تستطيع كسرها بوسها (قبلّها) وأدعو عليها بالكسر”، ولكنهم تخلّوا حتى عن هذا الدعاء، بل لجأوا الى محاولة “تكسير” من يقاوم هذا العدو.

هذه الاطروحة بالطبع لم تكن هي دافع الحكومات المُطبّعة الى سلوكها، ولكنها اطروحة يمكن أن تنجح في اجتذاب بعض العقول الناقصة والنفوس الضعيفة التي لا ترى في مواجهة أعداء الأمة من سبيل إلاّ الاستسلام لهم والقبول باحتلالهم ومجازرهم باعتبارهم القوة التي لا تقهر.

لذلك لم نجد بين المطبّعين حكاماً مرتهنين للإدارة الأميركية فحسب، بل رأينا أقلاماً، ذليلة ونفوساً ضعيفة تروّج للتطبيع  كسياسة “حكيمة” تخرجنا من سياسة “المغامرات” المتهورة وغير المحسوبة، ومن “أسْر” العقائد والأيديولوجيات الجامدة.

من هنا كان النصر التاريخي للمقاومة في غزّة، المقرون بهذه الشجاعة النادرة لأبناء فلسطين التاريخية من البحر الى النهر، إجهازاً على الأساس الفكري الذي  طالما ارتبطت به فكرة “التطبيع”، التي هي في حال الصراع العربي الصهيوني منافية لمعنى كلمة “تطبيع” التي تعني عودة العلاقات الى طبيعتها، وهو في حالتنا عودة هذه العلاقات الى الصراع الوجودي بيننا وبين العدو، باعتباره صراعاً طبيعياً بين الحق والباطل، بين أصحاب الأرض ومغتصبيها.

وبهذا المعنى كان هذا النصر إجهازاً على الأسس الفكرية لـ”التطبيع” مثلما كان إجهازاً على الخطأ الفكري الشائع إننا نواجه عدواً لا يُقهر.

أما الاطروحة الثانية التي يعتمدها أهل “التطبيع” للترويج لها هي أن “التطبيع” هو مدخل للسلام والاستقرار والازدهار في المنطقة كلّها لأنه يخرجها من حالة الحرب التي تستنزف طاقاتها ومواردها وتسهم في قتل أهلها وتدمير عمرانها.

العدوان على غزّة وعموم فلسطين جاء ليكشف أن “التطبيع” مرادف للحروب والمجازر والفتن في بلادنا، وان “التطبيع” مع العدو الصهيوني يعني الحرب المستمرة بين الأخوة أبناء الأمة الواحدة، بل إن “التطبيع” مع العدو يحتاج الى تحويل بوصلة الصراع عن وجهتها الصحيحة

من هنا يأتي هذا العدوان على الشعب الفلسطيني بكل ما يرافقه من وحشية وإجرام عنصري وحروب إبادة وحروب ضد الإنسانية، ليجهز ايضاً على هذه الاطروحة من أساسها.

إذ لم  تمضِ أشهرٌ قليلة على الاتفاقات “الإبراهيمية” حتى فجّر المحتل  الإسرائيلي حقده على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس بدءاً من الاعتداء على كنيسة القيامة عشية عيد الفصح، الى اقتحامات الحرم القدسي في شهر رمضان مبارك، وصولاً الى محاولة اقتلاع أهل حي الشيخ جرّاح من بيوتهم  وصولاً الى الاقتحام الكبير في 28 رمضان باسم “يوم القدس اليهودي” متوّجاً ذلك كله بالعدوان الرهيب على قطاع غزّة الذي أودى بالمئات من الشهداء، والآلاف من الجرحى، شكّل الأطفال ثلثهم على الأقل.

إقرأ على موقع 180  شرقٌ جديدٌ.. إيران، تركيا وإسرائيل وَرَثة أميركا

فهل كان “التطبيع” هنا مدخلاً للسلام والاستقرار والازدهار، كما وعد جاريد كوشنير باسم “ورشة التطبيع” في المنامة في صيف 2019، والتي أطلق عليها اسم  “ورشة السلام والازدهار”، وهل كان “التطبيع” مدخلاً لحل عادل للقضية الفلسطينية كما ادعى المطبّعون والمروّجون للتطبيع؟

لقد أعاد العدوان الصهيوني الأخير الى الذاكرة  العديد من الحروب الصهيونية على المنطقة بعد عقد العدو اتفاقات تطبيع مع هذه الحكومة او تلك، فشهدنا صيف عام 1982 في لبنان حرباً واسعة وحصار بيروت ومجازر صبرا وشاتيلا، بعد “اتفاقات كمب ديفيد”، وشهدنا أيضاً في لبنان حرباً في نيسان /ابريل عام 1996 و”مجزرة قانا” بعد أسابيع من مؤتمر “صانعي السلام” في شرم الشيخ بحضور أكثر من 30 دولة عربية وإقليمية  وأجنبية، وبعد اتفاقات “أوسلو” عام 1993 و”وادي عربة”عام 1994، كما وجدنا أنفسنا أمام حرب كبرى على العراق في العام 2003 بعد مفاوضات “سلام” طويلة توّجتها مبادرة قمة بيروت العربية عام 2002، ووجدنا في  الأجواء ذاتها حرب تموز/ يوليو 2006 على لبنان ثم الحرب الكونية على سوريا عام 2011، في اطار ما يسمى بـ”الربيع العربي” الذي جرى خلاله استغلال مطالب مشروعة خدمة لأجندات مشبوهة تهدف الى ضرب قوى المقاومة والصمود كعقبة رئيسية في وجه “السلام”.

من هنا، يمكننا القول إن العدوان على غزّة وعموم فلسطين جاء ليكشف أن “التطبيع” مرادف للحروب والمجازر والفتن في بلادنا، وان “التطبيع” مع العدو الصهيوني يعني الحرب المستمرة بين الأخوة أبناء الأمة الواحدة، بل إن “التطبيع” مع العدو يحتاج الى تحويل بوصلة الصراع عن وجهتها الصحيحة تجاه العدو الصهيوني نحو إتجاهات أخرى باسم العصبيات الدينية أو المذهبية أو العرقية.

طبعاً في النصر المبين في فلسطين، والمستمر في انتفاضة شعب فلسطين العديد من المعاني والدلالات، الاّ ان السقوط المدّوي للركائز الفكرية والثقافية والسياسية لـ”التطبيع” يبقى من أبرز الإنجازات.

Print Friendly, PDF & Email
معن بشور

الرئيس المؤسس للمنتدى القومي العربي

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  خامس إنتخابات إسرائيلية مبكرة.. لا إستقرار سياسياً!