في الجزء الأول من كتاب “المتاهة اللبناينة”، وتحت عنوان ” سياسة الحركة الصهيونية تجاه لبنان خلال فترة الإنتداب” (1918-1947)، سعت الحركة الصهيونية إلى دفع ثلاث مصالح أساسية قدماً في لبنان: المصلحة السياسية بتأسيس علاقة وثيقة بل عقد تحالف رسمي مع الطائفة المسيحية المارونية المهيمنة على لبنان، كمدماك لتبلور أوسع لــ”حلف الأقليات”، المصلحة الإقتصادية والإستيطانية بضم نهر الليطاني ومصادر المياه الأردنية إلى حدود أرض اسرائيل، والمصلحة الأمنية بمنع تنظيمات وأنشطة معادية للإستيطان اليهودي سواء من قبل مجموعات مسلحة أو من قبل جيوش نظامية، (ص 23).
في الفصل الأول عن “النشاط السياسي للحركة الصهيونية في لبنان”، يشير المؤلف إلى أن السياسة الصهيونية تجاه العالم العربي خُططت وأُديرت من قبل القسم السياسي في الوكالة اليهودية الذي تأسس عام 1923، معدداً أسماء بارزة في هذا المجال ومنهم كالفاريسكي، وايزمن، (يرد في الكتاب باسم فايتسمان)، كما جند موشيه شاريت عام 1934 إلياهو ساسون “إبن رئيس الجالية اليهودية في دمشق سابقاً وصاحب العلاقات الواسعة في العالم العربي منذ فترة شبابه حين درس في بيروت وكان عضواً في جمعية وطنية إلى جانب عدد من القادة المستقبليين في سوريا والعراق” (ص25 -26) (للاستفادة يمكن مراجعة كتاب “عدو عدوي” – الصلات الصهيونية اللبنانية 1900-1948 – تأليف لورا أيزنبرغ، دار رياض الريس وفيه على سبيل المثال إنزعاج حميد فرنجية – وقد تسَنّم منصب وزير الخارجية – من جمعه بساسون بحجة أنه يتحدث اللغة العربية في حين أن فرنجية كان ينتظر أن تكون اللقاءات مع يهود غربيين)!
العلاقات مع موارنة لبنان
في العلاقات مع الطائفة المارونية في لبنان، وتبعا لكتاب “المتاهة اللبنانية”، برز معسكران رئيسيان، الأول، صاحب رؤية إنفصالية، والثاني، أيّد قيام لبنان مستقل ضمن حدود 1920 كجزء من العالم العربي. على رأس المعسكر الإنفصالي كان يوجد منذ منتصف العشرينيات إميل اده (رئيس لبنان بين العامين 1936 و1941)، البطريرك الماروني أنطوان عريضة، مطران بيروت إغناطيوس مبارك ورئيس الكتائب بيار الجميل.
اما المعسكر المؤيد لكيان لبناني مستقل كجزء من العالم العربي، فقد ترأسه بشارة الخوري، وكان من ضمن هذا المعسكر الأرثوذكسي شارل دباس (الرئيس الأول للبنان 1926-1933)، وميشال شيحا المصرفي الكلداني الكاثوليكي وصهر بشارة الخوري، إلى جانب أسماء عدة يوردها الكتاب تباعاً.
ويبدو أن عتات الدعوة للتحالف مع الصهيونية تصرفوا بعقلية “المَونَة”، إذ أن المطران مبارك ناشد وزارة خارجية إسرائيل لإرجاع موارنة قرية (كفر) برعم التي هُجّروا منها بالطرد، لكن لم “يُحتَرم” طلبه، وحلّت مكان برعم مستوطنات جديدة، إضافة إلى عدم قبول قادة الصهاينة في تشرين أول 1948 متطوعين موارنة للانضمام إلى الجيش الإسرائيلي من خلال وحدة خاصة بهم، لأن “دولة إسرائيل غير معنية بإنشاء وحدة مارونية في الجيش، لكن يوجد لديها مصلحة في إنشاء “وحدة صغيرة جداً” غير نظامية من خبراء التخريب ومنفذي الأعمال القذرة في أرض العدو، خلف الخطوط”(ص274).
ومن المهم التوقف عند ما جاء في كتاب “المتاهة” بين الصفحتين 33 و106، من خلال الإشارة إلى أن الحركة الصهيونية وجدت في أميل إده “صاحب النزعة الفرنسية والمعارض للقومية العربية والسورية حليفاً طبيعياً” وأنه بعد انتخابه رئيساً للبنان في العام 1936، أقام إده علاقات وثيقة مع إلياهو إيلات (إلتقيا مرارا اثناء دراسة إيلات في الجامعة الأميركية في بيروت بين عامي 1931 و1934، وإلتقى إده حاييم فايتسمان في 22 حزيران 1937 “وبارك له دولة اليهود العتيدة، و في صيف 1946، إلتقى إده في باريس بدافيد بن غوريون ورؤوفين شيلواح وبعث معهما رسالة تتضمن طلباً مالياً كبيراً (25000 ليرة أرض إسرائيلية) من أجل السيطرة على الحكم في لبنان”.
الرجل الثاني هو البطريرك الماروني أنطوان عريضة الذي كانت الوكالة اليهودية ترى فيه “صديقاً حقيقياً للحركة الصهيونية” ثم البطريرك الماروني إغناطيوس مبارك “الذي أظهر تاييداً علنياً وصاخباً للحركة الصهيونية”، وفي 30 أيار 1946 وُقع إتفاق في القدس صاغه إلياهو ساسون ووقعه يعقوب شمعون عن الوكالة والشيخ توفيق عواد بالنيابة عن البطريركية المارونية، إعترفا بموجبه “بمطلب الشعب اليهودي بإقامة دولة مستقلة في أرض إسرائيل وإقامة دولة مستقلة في لبنان ذات طابع مسيحي”.
ومن الأسماء الفاعلة إلى جانب فريق البطريرك الصحافي والمشجع للعلاقة مع الصهاينة، الياس حرفوش ورئيس الجمعية اللبنانية في أميركا سلوم مكرزل، إضافة إلى رئيس تحرير جريدة العمل التابعة لحزب الكتائب الياس ربابي بتكليف من بيار الجميل رئيس الحزب، علما أن ربابي لطالما طالب بأموال من الوكالة اليهودية “لدعم الجريدة وتغيير الحكم في لبنان”، إذ أنه لم يكن يكتفي بالميزانية السنوية.
أما بشارة الخوري الذي يصفه المؤلف بأنه كان صاحب نزعة معادية للصهيونية، فقد إجتمع في 11 آب 1941 في بيروت بإلياهو ساسون وقال له “يوجد بيننا وبينكم حائل يجب إزالته وهو جبل عامل. ثمة ضرورة لإخلائه من سكانه الشيعة الحاليين الذين يشكلون خطراً دائماً على البلدين والذين تعاونوا أثناء الأحداث مع العصابات العربية التابعة للمفتي المقدسي”، ويكمل المؤلف أنه لأجل ذلك اقترح بشارة الخوري “إخلاء جبل عامل من سكانه الشيعة وإسكانه بعد الحرب بالموارنة المقيمين في الولايات المتحدة”. واقترح الخوري أن يقوم المشروع الاستيطاني اليهودي بإقراض البطريرك الماروني عريضة مبلغاً من المال من أجل شراء جبل عامل وتوطين الموارنة فيه ليكونوا جيراناً لليهود ويتمكنوا من التعاون معهم بدون عوائق”.(ص124).
العلاقات مع الشيعة
يذكر المؤلف أنه منذ مطلع القرن العشرين، نُسجت علاقات بين مستوطني المطلة وموظفي البارون (روتشيلد) وبين الزعامة الشيعية الإقطاعية في القرى الجنوبية اللبنانية القريبة من المطلة، والتي كان لها تأثير في المنطقة وعموم جنوب لبنان.. العائلتان الشيعيتان البارزتان كانتا عائلة الأسعد في الطيبة وعائلة عبدالله في الخيام.. الشخصيات البارزة في هاتين العائلتين هي: خليل بك الأسعد (زوجته يهودية)، كامل بك الأسعد الذي ورث خليل الأسعد بعد موته في العام 1908، عبداللطيف بك الأسعد، محمود الأسعد شقيق كامل، الحاج حسن عبدالله وإبنه الحاج ابراهيم عبدالله الذي ورث مكانه بعد موته 1916. وفي مطلع الأربعينيات، “أفضت العلاقات مع الشيعة إلى مساعدة الإستيطان سواء في المجال الأمني أو في مجال شراء الأراضي داخل أرض اسرائيل لمصلحة المستوطنات الجديدة التي أُنشِئَت في تلك الفترة قريباً من الحدود” وفي “الحصول على معلومات حول التنظيمات الفلسطينية في لبنان وتسلل المجموعات المسلحة إلى داخل أرض إسرائيل”.
في المجال الإستيطاني، فإن العلاقات مع أحمد الأسعد وشخصيات شيعية أخرى (سعد الدين شاتيلا من قرية العديسة وهو هاجر لاحقا إلى بيروت) إستُغلت كرافعة لشراء أراضٍ لمصلحة تأسيس نقاط استيطانية جديدة، بيع أراضي قريتي العديسة والطيبة الموجودة داخل أراضي إسرائيل من قبل أحمد الأسعد وكذلك في التسوية التي حصلت بين الصندوق القومي اليهودي وأحمد الأسعد وتضمنت شراء أراضي بلدة المنارة في تشرين الأول 1942.. كما أن صفقات الأراضي بين الصندوق القومي وبين شخصيات شيعية “تواصلت في الأربعينيات رغم ما كان ينشر عنها ورغم العداوة المتزايدة تجاه الإستيطان الصهيوني داخل دوائر حكم بشارة الخوري”.
يوضح الكتاب أن الوكالة اليهودية قررت تقديم “معاملة خاصة” لوزير الأشغال العامة والزراعة اللبناني الشيعي من عائلة حيدر اثناء زيارته المزمعة إلى أرض اسرائيل(1936)، تلبية لدعوة المفوض السامي البريطاني ( يقول المؤلف أن الوزير الشيعي المقصود هو ابراهيم بك حيدر)، كما يشير إلى علاقة إلياهو ساسون بتوفيق حلو حيدر أحد رجال الثورة الدرزية عام 1925 (لعل المقصود هولو بدل حلو)، وأيضاً يشير إلى “وعد أحمد الأسعد وصبري حمادة لبذل جهد لمنع تهريب السلاح إلى أرض إسرائيل”.
وفي الخمسينيات ــ يقول المؤلف ــ تبدلت علاقة حسن الجوار بين المستوطنات اليهودية في الشمال وجيرانها الشيعة وتحولت إلى علاقة قطيعة مُرفَقَة بمشاعر عدائية والسبب الرئيسي في ذلك التحولات السياسية والإجتماعية التي طرأت في الخمسينيات في قلب الوسط الشيعي في لبنان.
العلاقات مع الدروز
يذكر الكاتب رؤوفين أرليخ أن أبناء الطائفة الدرزية في جبل لبنان “أقاموا علاقات جريئة مع الزعامات السياسية للطائفة في جبل الدروز ومع أبناء طائفتهم في أرض إسرائيل”. ويشير هنا إلى “دور شكيب أرسلان، وهو كاتب وصحافي قومي عربي انتمى في تلك الفترة إلى السلك الوظيفي العثماني وعُيّن عام 1902 قائممقام الشوف”. شكيب ارسلان الذي نسق مع “جبور بك رزق الله مالك عقارات مسيحي من صيدا باع أملاكه في المطلة، بشأن التوسط بين دروز المطلة الذين سكنوها بعد أحداث 1860 وبين موظفي البارون لكن دون نتائج..” ولكن بعد دفع التعويضات المالية تحسنت الأوضاع بين سكان المطلة والدروز” .. أما إستعانة المشروع الإستيطاني بالدروز في المجال الأمني، فقد بدأت عامي 1928-1929 عندما تشكلت المجموعات الفلسطينية المسلحة الأولى في تلك الفترة ونشطت في الشمال عصابة درزية ترأسها اسماعيل عبد الحق (من منطقة راشيا الوادي في لبنان) ومساعده قاسم ذبيان (من حاصبيا).. كما يعرض الكتاب لاجتماعات إلياهو إيلات مع شخصيات درزية في لبنان أثناء دراسته في بيروت حيث إلتقى في تشرين أول 1934 بالبروفسور سعيد حمادة البروفسور في الإقتصاد بالجامعة الأميركية ببيروت من عائلة حسين حمادة الزعيم الديني للدروز، كذلك نشأت علاقة مع نظيرة جنبلاط (الست نظيرة والدة كمال جنبلاط زعيمة الجناح الجنبلاطي في لبنان آنذاك) “والتي عند مرور وفد من شخصيات درزية ذاهبة إلى أرض اسرائيل بالمختارة استضافتهم الست النظيرة التي دعت الدروز في إسرائيل إلى العمل يداً بيد مع الحكومة واليهود والتي وعدت بالطلب من السلطات في بيروت زيادة الحراسة على الحدود (1936)”، وفي العام 1938، نشأت علاقات مباشرة بين إلياهو ساسون موفد القسم السياسي في الوكالة وبين الشيخ حسين حمادة من بعقلين الزعيم الديني للطائفة الدرزية في لبنان، مع الإشارة إلى أن محمد علي حماده والد مروان حماده كان في عداد الوفد اللبناني في مفاوضات الهدنة” وعُيِّن لاحقاً سفيراً في الخارج، وقد “ترك انطباعاً إيجابياً عند الوفد الإسرائيلي” (ص380).. كما فتحت الوكالة اليهودية خطوطا مع كمال جنبلاط بعد تراجع علاقتها بالوسط الشيعي في الخمسينيات.
العلاقات مع السُنة
يشير الكتاب إلى” تورط عائلات سنية في بيع أراضٍ بمساحات واسعة للمشروع الإستيطاني اليهودي خصوصاً في إصبع الجليل. على سببل المثال، الأمير خالد شهاب من حاصبيا باع أراضيه في سهل الحولة للصندوق القومي اليهودي.. عائلة سلام إحدى العائلات السنية الثلاث الأهم في بيروت لعبت دوراً رئيسياً في نقل أراضي الحولة (حوالي 57000 دونم) إلى شركة “تأهيل الإستيطان”، وفقاً لإتفاقية وُقِعّت في 28 تشرين الثاني 1934.. سليم علي سلام (أبو علي) من زعماء المعارضة البيروتية للنظام اللبناني في الثلاثينيات، لعب دوراً مركزياً في المفاوضات التي استمرت 20 عاماً لبيع أراضي الحولة للإستيطان اليهودي.. إبنه صائب (سلام) المتخصص في الإقتصاد والذي سيلعب أدواراً مهمة في السياسة اللبنانية على مدى أربعة عقود بوصفه ممثل النخب السنية البيروتية، كان شريكاً في المفاوضات مع شركة “تأهيل الإستيطان”.. في إطار ذلك، إلتقى صائب (سلام) مع مسؤولي الشركة وشخصيات رفيعة في الحركة الصهيونية كما أنه وقّع إلى جانب موشيه شاريت ويعقوب طهون ويهوشواغ خنكين (من إدارة “تأهيل الإستيطان”) على اتفاقية بيع حقوق الملكية في أرض الحولة”.
من الشخصيات السنية أيضاً رياض رضا الصلح من مواليد صيدا 1896 وهو أقام هو أيضاً علاقات مع القيادة الصهيونية ( ومثله أبوه رضا الصلح في سنة 1911).. وطوال مسيرته السياسية، أبدى رياض الصلح استعداداً للحوار مع ممثلي الحركة الصهيونية (ولاحقاً مع ممثلي الحكومة الإسرائيلية)، علما أن الإتصالات بين الحركة الصهيونية وعائلة الصلح بدأت قبل الحرب العالمية الأولى.. فيكتور يعقوبسون ممثل الإدارة الصهيونية في القسطنطينية بين عامي 1908 و 1916 والمسؤول عن معالجة مشاكل العلاقات بين اليهود والعرب عمل على تطوير العلاقات مع النشطاء العرب في القسطنطينية من أجل دفعهم إلى التعاون مع اليهود. لأجل ذلك التقى هو ومساعدوه منذ 1911 عدة مرات برؤساء المنظمات والمنتديات العربية وبينهم رياض الصلح.
“الإتصالات بين الحركة الصهيونية ورياض الصلح وعن طريقه مع نشطاء الحركة القومية العربية استمرت حتى في السنوات التي تلت إنهيار حكم فيصل. في تشرين الثاني 1921 التقى حاييم فايتسمان (وايزمان) برياض الصلح في لندن. بعد ذلك ببضعة أشهر، وصل الصلح إلى القاهرة للمشاركة في مفاوضات بين مجموعة من نشطاء الحركة القومية العربية، ومعظمهم منفيون سوريون، ووفد من الحركة الصهيونية كان على تواصل مع فايتسمان.
“في الثلاثينات، جرت إتصالات بين رياض الصلح وزعماء الحركة الصهيونية، و في مطلع تموز 1934 “وصل الصلح الى القدس والتقى بن غوريون، حيث أعلن أنه مستعد للعمل من أجل تحقيق تفاهم عربي يهودي”.. الاجتماعات مع رياض الصلح إستمرت أيضاً في النصف الأول من الأربعينيات.. في الأعوام التي سبقت حرب الإستقلال (1943)، تبنى الصلح كرئيس لحكومة لبنان موقفاً مُعلَناً معادٍ للصهيونية، ولعب دوراً رئيسياً في المسار الذي أفضى إلى التدخل العسكري للدول العربية ومن ضمنها لبنان في حرب 1948، الأمر الذي لم يحُل دون استئناف الحوار بينه وبين ممثلين إسرائيليين في نهاية هذه الحرب.
خير الدين الأحدب
يتحدث الكتاب عن قيام حاييم كالفاريسكي مسؤول جهاز المخابرات في الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية بالتواصل مع صحافيين وبينهم اللبناني خير الدين الأحدب وذلك في بيروت في كانون الثاني 1930 . لدى سؤال الأحدب عما يريده مقابل خدماته (كتابة مقالات لمصلحة الوكالة)، طلب الأحدب الذي كان يملك صحيفة لبنانية 400 ليرة سنوياً.. في العام 1934 إنتخب الأحدب نائباً وفي 4 كانون الثاني 1937، عُيّن من قبل الرئيس إميل إده رئيساً للحكومة اللبنانية وفي 13 شبباط 1938، أفاد موشيه شاريت إدارة الوكالة اليهودية بأنه التقى بالأحدب الذي شكا له من أن المعارضة ضده وسط المسلمين السنة إزدادت كثيراً وطلب منه أموالاً لتعزيز مكانته. كما كتب الأحدب (عندما كان رئيسا للحكومة) الى شاريت قائلاً أن حكومته ستحاول “ضمان الأمن في الأراضي اللبنانية المحاذية لهذه المستوطنة (حانيتا)”، كما إستفادت الوكالة من دور بعض رجال الأحدب في التضييق على النازحين الفلسطينيين المقيمين في بيروت ودفعهم إلى مغادرتها.. في 19 آذار 1938، إضطر الأحدب إلى الإستقالة، وفي اليوم التالي، عُقِد لقاء في فندق السان جورج في بيروت بين ساسون والأحدب وفخري النشاشيبي، وقد تركز الحديث “على نشر مقالات في الصحافة اللبنانية (مدفوعة الثمن) وتفعيل فتوّات تابعين للأحدب في بيروت من أجل التضييق على الفلسطينيين”.
من المفيد هنا التذكير بما نشرته مجلة الدراسات الفلسطينية، في عددها رقم 78 في ربيع 2009 من وثيقة للدكتور محمود محارب بعنوان “المقالات الصهيونية المدسوسة في الصحف اللبنانية والسورية أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى(1936-1939 )”، وفيها لائحة بأسماء صحافيين عرب تواصلوا مع الوكالة اليهودية، وبينهم الأحدب، لقاء بدل مالي للتركيز على إثارة مواضيع طائفية تُحيِد الأنظار عن ثورة فلسطين.
والأمير خالد شهاب أيضا
إستلم الأمير خالد شهاب رئاسة الحكومة خلفاً لخير الدين الأحدب..” وكما الأحدب كان الأمير شهاب أيضاً معروفاً لدى الحركة الصهيونية قبل تعيينه رئيساً للحكومة”، يقول رؤوفين أرليخ، ويضيف أنه في نهاية تموز 1938، عقد ساسون لقاءين إضافيين مع خالد شهاب تمحورا، مثل اللقاءات السابقة، حول مواضيع عملية ذات طابع أمني اثارها ساسون ..” إلى جانب البحث في الموضوعات الأمنية، كان الأمير خالد شهاب مولجاً أيضاً بيع أراضٍ للإستيطان على مستوى واسع”(باع شهاب 1100 دونم في منطقة الخالصة (كريات شمونة اليوم) للوكالة اليهودية).
المقدم توفيق سالم
وإذا كان الفصل الثاني من الجزء الأول من كتاب “المتاهة اللبنانية” يعرض تفاصيل كثيرة حول خطط ونوايا الحركة الصهيونية للسيطرة على الجنوب اللبناني طمعا بمياه الليطاني والحاصباني، فإن الفصل الثالث يتحدث “عن مواجهة التهديدات الأمنية من الأراضي اللبنانية، فيقول: “إنه خلال فترة الثورة العربية التي بدأت في 19 نيسان 1936 واستمرت حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية تحول لبنان للمرة الأولى إلى مصدر للمضايقات الأمنية للاستيطان اليهودي في أرض إسرائيل. منطقة جنوب لبنان التي كانت تحت سيطرة الحكومة اللبنانية المركزية فيها أصلاً ضعيفة، وتحولت منذ 1936 إلى معقل للمجموعات الفلسطينية غير النظامية.. وفي التقارير التي وصلت إلى القسم السياسي من بيروت في آذار 1938 أفيد أن قطاع بلدة بنت جبيل هو الأكثر راحة في التسلل. يبدو أن سطوع نجم بنت جبيل في مساعدة جماعة المفتي (الحسيني) ليست عبثاً إذ أنها كانت تشهد حراكاً شديداً بفعل الظلم الإجتماعي اللاحق بها من الحكومة اللبنانية وكذلك بفعل المطالبة بالضم الى سوريا”. كما أن بنت جبيل لعبت لاحقا دورا أساسيا في الحرب التي خاضها جيش الإنقاذ في العام 1948.
ويشير الكتاب إلى أسباب عدة أدت إلى فشل جهود وقف تسلل المجموعات المسلحة من لبنان وكان ذلك سبباً لإقتراح قدمه موشيه شاريت صيف 1941 بجعل الليطاني حدوداً أمنية لأرض إسرائيل.( هواجس منع تسلل الفلسطينيين سواء كفدائيين أو مدنيين إلى الجليل كانت في صلب محادثات لجنة الهدنة)، ففي هذا الإطار، وبطلب من لبنان ،عقد في 7 نيسان 1956 إجتماع عاجل مع ممثلي إسرائيل في الناقورة “من دون علم الأمم المتحدة أو حضور مراقبين عنها. ونقل ممثل لبنان المقدم حسامي رسالة باسم رئيس الأركان اللبناني توفيق سالم جاء فيها أن لبنان غير معني بحصول مشاكل على الحدود”.. ونصح ممثل لبنان الجيش الإسرائيلي “باتخاذ إجراءات وقائية تشمل زيادة الدوريات والكمائن على الجانب الإسرائيلي”، وأضاف مخاطبا الوفد الإسرائيلي: “أقتلوهم من دون رحمة”( ص502).
ونشير هنا إلى كتاب بعنوان “بريطانيا والوحدة العربية-1945-2005″، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية للمؤرخ الدكتور علي محافظة وفيه يذكر “أن المقدم توفيق سالم الذي ترأس مفاوضات الهدنة بين لبنان واسرائيل عام 1949 كان يقوم بتسليم محاضر الاجتماعات السرية العسكرية للدول العربية المنعقدة في القاهرة عام 1953 (وصار لاحقا رئيساً للأركان في الجيش اللبناني) إلى الملحق العسكري البريطاني في سفارة بلاده في القاهرة”…
ويروي رؤوفين أرليخ أن ديفيد بن غوريون وقيادة الجيش الإسرائيلي أهملوا محادثات مفتوحة على مدى شهر في باريس (بين منتصف تشرين الثاني ومنتصف كانون أول 1948)، عقدها رياض الصلح وإلياهو ساسون (ص278)، وذلك كونهم بدأوا يراهنون على قناة الإتصال الرسمية التي كانت تتطور مع رئيس أركان الجيش اللبناني الضابط توفيق سالم(ص287).
مكتب باريس “عنوان” للعرب
ويتناول الجزء الثاني من الكتاب بعنوان “موقع لبنان في السياسة الإسرائيلية خلال فترة حرب الإستقلال ( 29 تشرين الثاني 1947-23 آذار 1949)، فيشير المؤلف رؤوفين أرليخ إلى إلى أن القيادة اللبنانية “لم تبد حماسة لإنضمام الجيش اللبناني عملياً إلى اجتياح الجيوش النظامية لأرض إسرائيل، لافتاً إلى ما قاله قائد الجيش يومها فؤاد شهاب بحسب تقرير إستخباري “أن جيشه هو فقط جيش دفاعي وليس جيشاً هجومياً” (ص197).
وفي هذا الجزء من الكتاب، يعرض مؤلفه للإجراءات العسكرية على الجبهة الللبنانية: معارك المالكية، موقع لبنان في إطار الإستراتيجية الإسرائيلية أثناء التهدئة، أي من التهدئة الثانية 18 تموز 1948 حتى عملية حيرام 18 تشرين أول 1948. وفي عملية حيرام هذه إجتاح الجيش الاسرائيلي أرض لبنان وسيطرعلى 15 قرية شيعية فيقول المؤلف “على وجه الخصوص برز الدمار في قرية حولة التي قتل 92 من سكانها في المعارك (مع العلم أن ما حصل في حولة (حولا) كان مجزرة أودت بحياة أكثر من مئة من المدنيين فيها).
يعرض الجزء الثاني وتحديدا في فصله السادس، “الإتصالات السياسية مع شخصيات ومجموعات لبنانية خلال حرب الإستقلال”( أي خلال نكبة 48 )، فيقول الكاتب أن الغاية من هذه الإتصالات كانت جزءاً من الجهود السياسية الشاملة التي وجهت للعالم العربي بدءاً من تموز 1948. وقد قسّم الشخصيات والمجموعات التي جرت إتصالات سياسية معها خلال فترة حرب الإستقلال إلى أربعة مجموعات أساسية:
– إميل إده والمطران مبارك والكتائب وجهات مارونية في جنوب لبنان.
– شخصيات في السلطة اللبنانية وأهمها رئيس الحكومة رياض الصلح، بضعة موظفين في وزارة الخارجية وسفراء في الخارج وشخصيات إعلامية ودينية.
– الجمهور الشيعي في جنوب لبنان ولا سيما أحمد الأسعد.
– الطائفة الدرزية.
وفي رسالته إلى موشيه شاريت بتاريخ 4 شباط 1949، يشير إلياهو ساسون إلى أربعة مجالات أفضى نشاطه في باريس إلى نجاحات فيها:
– استئناف العلاقات مع معظم أصدقاء إسرائيل في الدول العربية.
– إنشاء علاقات جديدة ووثيقة مع شخصيات عربية.
– تحول المكتب في باريس إلى “عنوان” للزعماء العرب الذين أرادوا التواصل مع إسرائيل
– الإهتمام بطلاب عرب سيتحولون في المستقبل إلى عنصر متعاطف مع إسرائيل في بلادهم.
لائحة أسماء لبنانية تطول
ويتطرق الجزء الثالث من كتاب “المتاهة اللبنانية” إلى “سياسة اسرائيل تجاه لبنان في الخمسينات 1949-1958″، وفيه إشارة إلى اقتراحات بن غوريون للقيام بمبادرة تجاه لبنان تؤدي إلى اقامة دولة مارونية ضمن حدود مقلصة، وتحويل لبنان إلى رافعة لتغييرات جوهرية في الشرق الأوسط بأكمله، كما حضرت نظرية حلف الأقليات في الفكر الصهيوني لمواجهة “صعود نجم مصر والناصرية في العالم العربي”، مع تشديد بن غوريون على نظرية التحالف مع تركيا وإيران وأثيوبيا والسودان، وبرأي المؤلف رؤوفين أرليخ، أنه أبّان الخمسينيات إحتل لبنان موقعاً ثانوياً في جدول أولويات السياسة الإسرائيلية، لكنه يركز هنا على دور كميل شمعون “الذي بادر أواخر كانون أول 1958 إلى الإتصال سراً بإسرائيل، ومعه أيضاً وزير الخارجية سليم لحود، والكولونيل فؤاد لحود، عبد الرحمن الصلح. وقد قدمت اسرائيل في صيف 1958 إلى نظام كميل شمعون مساعدة بالسلاح والذخيرة عبر قائد منطقة جنوب لبنان يومها الكولونيل فؤاد لحود وكلوفيس فرنسيس، وعلى ما قاله حميد فرنجية الذي أبدى حرصه مع تسيفي فايتسمان في بيروت في 15 كانون الأول 1949 على أهمية بقاء اليهود في لبنان “لأن له أهمية في التوازن العددي بين المسلمين وغير المسلمين”.
إلى جانب التواصل مع رياض الصلح، وردت أسماء كل من: ميشال شيحا، شارل الحلو سفير لبنان في الفاتيكان، أحمد الداعوق سفير لبنان في باريس، فؤاد عمون مدير عام وزارة الخارجية، الصحافي الشيعي فؤاد حاج علي مراسل الأسبوعية البيروتية “كل شيء” في باريس، فؤاد أفرام البستاني، تقي الدين الصلح المستشار في الأمانة العامة للجامعة العربية، سامي الصلح، أحمد الأسعد واللائحة تطول…
كادر:
رياض الصلح على لائحة الإغتيال!
لم تحُل لقاءات رئيس الحكومة رياض الصلح مع مسؤولين صهاينة من وضعه على لائحة الاغتيال كما يذكر المؤلف رؤوفين أرليخ ، فيكتب تحت عنوان “رياض الصلح – رئيس حكومة على المهداف” أن “علاقات رياض الصلح مع المشروع الإستيطاني اليهودي منذ مطلع القرن ولقاءاته السرية مع ممثلي وزارة الخارجية في صيف 1948 لم تمنع تحوله إلى هدف للإغتيال بعد إنتهاء المحادثات معه في باريس من دون نتائج. في 12 كانون أول 1948، بعد ثلاثة أيام فقط من اللقاء الأخير بين آرزي والصلح، أبلغت قيادة المستعربين من البلاد أمراً عبر اللاسلكي لغمليئيل كوهين قائد خليتي مستعربين في بيروت بتصفية رياض الصلح. هذا الأمر شكل بداية الإستعدادات العملية التي استمرت حتى 22 شباط 1949 موعد وصول أمر الغاء العملية من البلاد .. خليتان من المستعربين بقيتا تعملان في بيروت طوال عامين وجمعتا المعلومات حول العملية، وتعقبتا الصلح يومياً في طريقه إلى البرلمان ذهاباً واياباً”.
وكتب رافي سيتون واسحاق شوشان في كتابهما “رجال السر والخفاء، بعض أنشطة الإستخبارات الإسرائيلية وراء الحدود” أنه في أعقاب جهد ميداني مكثف على مدى بضعة أسابيع، إكتشف شوشان “نقطة ضعف” في مسار مرور الصلح من بيته إلى البرلمان. كما أن غمليئيل كوهين الذي لعب دوراً في جمع المعلومات، يقول أنه شارك في مظاهرة تأييد للصلح في إحدى ساحات بيروت “ووصل إلى حد التماس معه ومع سيارته” (ص 290-291).