ليس خافياً على أحد أن جزءاً لا يتجزأ من الصراع السياسي الذي يشهده لبنان في العديد من المحطات، لا يمكن عزله عن نظرة هذا أو ذاك من الأطراف من إتفاق الطائف. 31 سنة من الممارسات في الحكم، لم يعد ممكناً معها إكتشاف الخيط الأبيض من الخيط الأسود. كل رؤساء الجمهورية الذين تعاقبوا على سدة الرئاسة الأولى، منذ العام 1989 حتى يومنا هذا، إما شكوا من الصلاحيات أو حاول بعضهم، ولا سيما إميل لحود، ممارستها بحدودها القصوى، فكان لا بد من حصاد نتائج الشكوى أو الممارسة بحدها الأقصى.
يتكرر الأمر مع ميشال عون. تتركز إنتقادات العديد من المعارضين للحكم على أن رئاسة الجمهورية تتجاوز صلاحياتها وتحاول إعادة لبنان إلى زمن “الجمهورية الأولى”، وبعضهم يقولها بالفم الملآن، إلى “زمن المارونية السياسية”. المفارقة أن هذه النظرة لا تجد صداها في أروقة بعبدا. عون هو رئيس الجمهورية “الاكثر ممارسة لصلاحياته الدستورية”، وهو “أحيا مواداً دستورية كاد ان يطويها النسيان نتيجة الكثير من البدع ولا سيما بدعة “الترويكا” التي تحكّمت بالحياة السياسية اللبنانية وإختزلتها طوال ثلاثة عقود من الزمن، وأدت إلى ممارسة الحكم خارج منطوق الدستور ووفق أعراف “شمّاعة الديمقراطية التوافقية”، على حد تعبير الأوساط المقربة من رئاسة الجمهورية، وتعدّد نماذج مثل توجيه رئيس الجمهورية رسالة الى مجلس النواب، عبر رئيسه، لتفسير المادة 95 من الدستور، إعادة قوانين إلى مجلس النواب، الطلب إلى مجلس الوزراء إعادة النظر بقرارات صادرة عنه إستناداً للمادة 56 من الدستور إلخ..
في ضوء هذا الرد ـ النماذج، يصر ميشال عون على وضع نفسه في خانة “حارس الجمهورية الثانية”، وذلك بخلاف ما يحاول الآخرون تصويره. فمنذ إنتخابه رئيسا للجمهورية قبل ثلاث سنوات ونيف، قرر “الجنرال” مصالحة الطائف. وبالتالي، ليس صحيحاً ما يقال عنه بأنه “العدو الأول للطائف”. لكن “المصالحة شيء والإذعان للبدع شيء آخر”، على حد تعبير المقربين منه، فالعماد عون قرر ممارسة صلاحياته، “لا أكثر ولا أقل، وهو الأمر الذي وسّع دائرة الحانقين والمتربصين به، الى درجة ان بعض من يشغلون مواقع متقدمة في التركيبة اللبنانية، يعترفون في مجالسهم الخاصة أن عون فاجأنا بهذا السلوك الدستوري، فهذا الرجل ينقّب عن أدق تفاصيل الصلاحيات ويمارسها حيث لم يجرؤ من أتوا قبله على ممارستها”، والكلام للأوساط المقربة منه..
حتى عندما قرر ميشال عون إبرام التسوية الرئاسية (تحديداً بينه وبين سعد الحريري) تحت سقف إتفاق الطائف، وبغطاء خارجي، إنبرى من يراهن على أن وصوله إلى سدة الرئاسة الأولى سيصيب منه مقتلاً، لانه يستحيل عليه ان يمارس الحكم خارج قناعاته السياسية وموقفه من دستور كان أول ضحاياه قبل ثلاثة عقود من الزمن، “لكن ميشال عون فعلها” ـ تضيف الأوساط نفسها ـ وقرر أن يخوض “تسونامي المغامرة”، فلم يكن “رئيس الاجهاز على الدستور والطائف” كما كان يشتهي البعض أن يكون، لا بل ذهب بعيداً في إعادة الاعتبار لكل مندرجات الدستور، وهو سيعمل “حتى اللحظة الاخيرة من ولايته الرئاسية على وضع ما لم ينفذ منه موضع التنفيذ، لا سيما ما يتصل باللامركزية الادارية وإنشاء مجلس الشيوخ”، تقول الأوساط نفسها.
المقربون من عون: “على من يريد الذهاب الى خيارات اخرى تتصل بالكيان او بالعقد الاجتماعي بين جميع المكونات اللبنانية ان ينتظر انتهاء الولاية الرئاسية، لأنه في عهد “الجنرال” لن تكون هناك لا فيدرالية ولا أية طروحات منافية للميثاق الوطني”
من هذه الزاوية، لن يجد خصوم “الجنرال” وسيلة إلا وسيلجأون إليها، ومنها ما هو غير أخلاقي، عبر إطلاق سيل من الشائعات عبر مواقع التواصل حول الوضع الصحي لرئيس الجمهورية.
ولا يخفي المقربون من رئيس الجمهورية أن “الشائعات عن صحة عون شكّلت صدمة لدى الرأي العام، اذ انه في ليلة اطلاق الشائعة استمرت الاتصالات بالورود من دول الانتشار الى رئاسة الجمهورية والى فريق العمل الرئاسي حتى ساعات الفجر، خصوصا ان مطلقي الشائعة تمكنوا من فبركة خبر ونسبوه الى “الوكالة الوطنية (الرسمية) للاعلام” يصب في الخانة ذاتها، الامر الذي دفع بالرئاسة الاولى الى اصدار بيان عن مكتبها الاعلامي لنفي هذه الشائعة، التي وصفها المقربون من عون بأنها “كانت رخيصة جداً”.
ولعل خطورة هكذا شائعة، “انها تؤدي الى قلق وارباك على الصعيد الوطني العام، وخصوصا انها تصيب الاسواق المالية والقطاعات الاقتصادية بهزات كبيرة، اذ يكفي رمي شائعة من كلمتين “الرئيس مات” ـ لا سمح الله ـ حتى يذهب الوضع النقدي والمالي في البلد الى انفلات كبير، وتكون له إرتدادات سلبية على مفاوضات الحكومة اللبنانية مع صندوق النقد الدولي، وهذا الامر دفع رئيس الجمهورية الى وضع الاجهزة الامنية امام مسؤولياتها في القيام بواجباتها كونها تمتلك القدرات والامكانيات التقنية المتطورة، وهي قادرة على تحديد مطلق او مطلقي هكذا شائعات”، والكلام للمقربين من رئاسة الجمهورية.
الان ان مضي رئيس الجمهورية في استعمال صلاحياته الدستورية، لم يمر مرور الكرام، اذ تعمّد مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان في خطبة عيد الفطر وبحضور رئيس الحكومة حسان دياب أن يقول “نحن لا نقبل الإخلال بالدُّستور، ولا تهميش رئاسة الحكومة أو المس بصلاحّيات رئيس الحكومة، ليس لأن في ذلك تجاهلاً لتراتبية المؤسسات الدستورية، وحقوق طائفة من مكونات لبنان الرئيسيَّة فقط، بل لأن الإخلال بالدستور، يصنع أزمةً سياسيَّة، تقع في أَصل الانهيار الكبير الذي يعانيه لبنان”، وهذا الكلام للمفتي لا يأتي من فراغ، لأن هناك من يرى ان ذهاب رئيس الجمهورية الى الحد الاقصى في استعمال صلاحياته الدستورية يؤدي الى تهميش موقع رئيس الحكومة، بعدما استعمل عون المادة 56 من الدستور التي تمنحه “حق الطلب الى مجلس الوزراء اعادة النظر في اي قرار من القرارات التي يتخذها مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوما من تاريخ ايداعه رئاسة الجمهورية”.
على هذا الأساس، طلب عون من مجلس الوزراء اعادة النظر بالقرار حول بناء معامل توليد الكهرباء معللاً السبب في رسالة مفصلة قانونياً وتقنياً، “لأنه لا يمكن نقض قرار لحكومة سابقة تضمن تعهداً بتنفيذ معمل سلعاتا، وصار جزءاً لا يتجزأ من البيان الوزاري للحكومة الحالية”.
وماذا عن موقف رئيس الجمهورية من طروحات الفيدرالية؟
جواب المقربين من رئيس الجمهورية “ان ميشال عون عندما قبض على الحكم حلف امام البرلمان يمين الاخلاص للامة والدستور بالنص التالي: “أحلف بالله العظيم اني احترم دستور الامة اللبنانية وقوانينها وأحفظ استقلال الوطن اللبناني وسلامة اراضيه”. وبالتالي؛ حسب المقربين أنفسهم، “هذا اليمين لا ينكثه رئيس الجمهورية، وباعتقادنا ان كل هذه الطروحات هدفها صرف الانظار عن عملية مكافحة الفساد، وعن ثابتتي الحفاظ على سلامة ووحدة الاراضي اللبنانية والميثاق الوطني اللتين لا يمكن لأحد أن يتحلل منهما، وعلى من يريد الذهاب الى خيارات اخرى تتصل بالكيان او بالعقد الاجتماعي بين جميع المكونات اللبنانية ان ينتظر انتهاء الولاية الرئاسية، لأنه في عهد “الجنرال” لن تكون هناك لا فيدرالية ولا أية طروحات منافية للميثاق الوطني”.