ما جرى، بالأمس، في حقلي بقيق وخريص يمثل في الواقع أكبر هجوم على البنية التحتية للنفط في منذ إطلاق صدام حسين صواريخ “سكود” على المملكة خلال حرب الخليج الأولى (1990)، وقد أعاد تسليط الضوء على مدى ضعف شبكة الحقول وخطوط الأنابيب والموانئ التي توفر 10 في المئة من النفط الخام في العالم.
بذلك، عادت الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط لترسم مستقبل الطاقة في العالم، على غرار محطات كثيرة شهدتها هذه المنطقة المضطربة بالأحداث منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، في ما يؤشر إلى مرحلة جديدة، تتسم بطابع استراتيجي، باتت معها بضعة مركبات جوية صغيرة قادرة على إحداث هزّات، وربما زلازل، في الاقتصاد العالمي.
وبرغم التطمينات التي سعت الجهة المستهدفة مباشرة، أي السعودية، إطلاقها بشأن إمدادات النفط، وكذلك الجهات الأخرى المعنية بالأمر، ولا سيما الولايات المتحدة وأوروبا اللتين صدرت منهما إشارات باحتمال استغلال مخزونات الطوارئ، إلا أن ثمة إجماعاً دولياً على أن الاختراق الخطير الذي حققه الحوثيون، أو ربما الإيرانيون، إذا صحّت الاتهامات الأميركية، سيترك من دون أدنى شك تداعيات كبرى، سواء على أسعار النفط الخام، أو على الطموحات الاقتصادية السعودية، بعنوانها العريض المتمثل بـ”رؤية 2030″، التي تشكل المشروع الطموح لولي العهد محمد بن سلمان.
ترقّب في الأسواق العالمية
في ما يتعلق بأسواق النفط العالمية، لا يختلف اثنان على أن الضربة كانت موجعة. تعطّل الانتاج في بقيق وخريص، حتى لفترة قصيرة، يعني أن الانتاج النفطي قد فقد خمسة ملايين برميل يومياً، بما يتجاوز نصف الانتاج السعودي يومياً، وخمسة في المئة من الانتاج العالمي، أخذاً في الحسبان أن السعودية تصدر أكثر من سبعة ملايين برميل يومياً، ما يعادل ثلث صادرات منظمة “أوبك”.
تكفي الأرقام المتصلة بحصص الدول المستوردة للنفط السعودي لتحديد درجة تأثير المسيّرات الحوثية العشر على الاقتصاد العالمي: 1.88 مليون برميل إلى الصين، 1.02 مليون إلى اليابان، 0.89 مليون إلى كوريا الجنوبية، 0.74 مليون إلى الهند، 0.58 مليون برميل إلى الولايات المتحدة.
بقيق “بالنسبة إلى سوق النفط، إن لم يكن الاقتصاد العالمي، أثمن عقار على كوكب الأرض”، بحسب توصيف الخبير في شؤون الطاقة بوب ماكنالي
لا بد من التذكير، في هذا الإطار، أن خريص هو ثاني أكبر حقل نفط في السعودية، بقدرة انتاج تصل إلى 1.45 مليون برميل في اليوم، في حين تعد بقيق موطناً لأكبر منشأة في العالم لمعالجة النفط، بقدرة معالجة تصل إلى سبعة ملايين برميل يومياً، وفقاً لإدارة معلومات الطاقة الأميركية، أو بعبارات أخرى، فإن بقيق “بالنسبة إلى سوق النفط، إن لم يكن الاقتصاد العالمي، أثمن عقار على كوكب الأرض”، بحسب توصيف الخبير في شؤون الطاقة بوب ماكنالي.
لفهم التأثير المحتمل للهجمات في بقيق وحدها، يمكن العودة إلى تداعيات الهجوم الإرهابي الفاشل على هذه المنشآت في العام 2006، والذي أدى إلى ارتفاع أسعار النفط بأكثر من دولارين للبرميل. يمكن على هذا الأساس قياس ما يمكن أن تحدثه هجمات الأمس، مع فارق جوهري، وهو أن الهجوم المذكور يمكن وصفه بـ”البدائي”، إذا ما تمت مقارنته بهجمات الأمس، التي استخدمت فيها طائرات مسيّرة كشفت أن خطط التأمين، التي تنفق عليها الرياض مليارات الدولارات سنوياً، باتت أقل قدرة على حماية المنشآت الاستراتيجية.
بطبيعة الحال، لا يمكن الحديث حتى الآن عن سيناريوهات كارثية على امدادات الطاقة العالمية، كتلك التي يروّج لها بعض خصوم الرياض، فشركة “أرامكو”، التي ضخت 9.8 ملايين برميل من النفط الخام يومياً في شهر آب الماضي، ستتمكن من الاستمرار في تزويد عملائها بالمواد الخام لعدة أسابيع، وذلك من خلال السحب على شبكة تخزين عالمية، إذ يحتفظ السعوديون بملايين البراميل في خزانات داخل المملكة نفسها، بالإضافة إلى ثلاثة مواقع استراتيجية حول العالم: روتردام في هولندا، أوكيناوا في اليابان، وسيدي كرير على ساحل البحر الأبيض المتوسط في مصر.
ومع ذلك، فإنّ المخزون الخام السعودي آخذ في النفاد منذ بداية عام 2016، وقد عاد الآن إلى مستويات لم يشهدها منذ عام 2008، ما يعني أن الرياض لديها مخزون أقل بكثير بالمقارنة عما كان عليه قبل ثلاث سنوات.
وفي العموم، فإنّ السلطات السعودية تحدّت عن “توقف احترازي”، مشيرة إلى أن معظم الانتاج ستتم استعادته خلال 48 ساعة، فيما أكدت الوكالة الدولية للطاقة، التي “تراقب الوضع”، أن العالم مزوّد بالمخزونات التجارية بشكل جيد، لكن الكل يقر بأنّ ما جرى من شأنه أن يهز أسواق الطاقة العالمية، خاصة إذا ما تعطّل الانتاج لفترة أطول من المعلن.
ووفقاً لرأي أمريتا سين، كبيرة محللي النفط في “شركة إنرجي أسبكتس” في لندن فإنّ “السوق ستلاحظ حدوث انقطاع كبير في الإمدادات، وتفتح أبوابها بقوة… بالطبع إذا كان الإنتاج سيستأنف بسرعة، فإن الارتفاع سيكون قصير الأجل”، ولكن ثمة آراء مغايرة، من قبيل ما صرّح به بوب ماكنالي، الخبير في شركة “رابيدان”، التي كانت تقدم المشورة للبيت الأبيض في عهد جورج دبليو بوش، من أن الهجوم على منشأة المعالجة في بقيق يشكل خطراً تصاعدياً على أسعار النفط، وسيسبب “هبوطاً في الأسهم”، ويؤدي إلى “مخاطر سلبية على النمو العالمي”.
يمكن تحويل النفط الخام بعيداً عن الخليج الفارسي وهرمز عن طريق ضخه عبر البلاد إلى البحر الأحمر عبر خط أنابيب النفط بين الشرق والغرب، ولكن من غير الممكن تجاوز بقيق
ثمة أسباب أخرى تعزز المخاوف، فمنشآت بقيق، بحسب وكالة “بلومبرغ” تبقى أكثر أهمية لقطاع النفط السعودي من محطات التصدير في رأس تنورة وجعيمة، أو حتى مضيق هرمز الذي يربط الخليج بالمحيط الهندي وأعالي البحار. وتوضح “يمكن تحويل النفط الخام بعيداً عن الخليج الفارسي وهرمز عن طريق ضخه عبر البلاد إلى البحر الأحمر عبر خط أنابيب النفط بين الشرق والغرب، ولكن من غير الممكن تجاوز بقيق. ذلك أن خط الأنابيب بين الشرق والغرب يبدأ عند بقيق حيث تتم معالجة الإنتاج من حقول الغوار والشيبة والخريص العملاقة، وبالتالي فإن الهجوم على المنشأة سيؤثر على تدفق النفط الخام إلى محطات التصدير على كل السواحل”.
على هذا الأساس، يتوقع آندي ليبو، رئيس شركة “ليبو” للاستشارات في هيوستن أن يرتفع سعر النفط بين 5 و10 دولارات للبرميل “إذا تبين أن الضرر كبير”.
استراتيجية استهداف الطاقة
لكنّ المخاوف لا تقتصر على الأهداف المباشرة التي حققتها مُسيّرات الحوثيين بالأمس، وإنما ثمة تداعيات أكثر خطورة لاستمرار حال التوتر في الشرق الأوسط، والتي باتت فيها عمليات استهداف الطاقة استراتيجية ثابتة، وفق مجريات الأحداث خلال الأشهر الفائتة.
وبحسب رأي حليمة كروفت، الخبيرة في في شركة “آر. بي. سي كابيتال ماركتس”، فإنّ “هجمات الحوثيين أظهرت أن المخاطر على إمدادات النفط تبقى مرتفعة في المنطقة”، موضحة أنه “على الرغم من إقالة (مستشار الأمن القومي الأميركي جون) بولتون وتلميحات الرئيس (دونالد) ترامب بشأن المحادثات (مع إيران)، فإن خطر حدوث تصعيد خطير لا يزال قائماً على الإطلاق”.
ومنذ الأزمة النفطية في سبعينيات القرن الماضي، ظل مسؤولو أمن الطاقة يشعرون بالقلق من ضرب متعمد لإحدى النقاط الحرجة، على غرار الممرات البحرية مثل مضيق هرمز، ولكن حتى الأمس القريب، كانت الهجمات العسكرية على المنشآت النفطية نادرة، باستثناء “حرب الناقلات” في الثمانينيات والتي شملت العراق وإيران وسفن المنتجين الإقليميين الآخرين مثل الكويت، أو غزو صدام حسين للكويت عام 1990، الذي تسبب بتوقف الانتاج الكويتي وتعطّل جزئي في الانتاج السعودي.
حالياً يمكن توقع سيناريوهات أكثر تطرفاً، فاستهداف المنشآت النفطية بات أكثر سهولة بفضل التكنولوجيا، التي توفّر إمكانيات تتراوح من الطائرات من دون طيار إلى الهجمات السيبرانية. ولعلّ تتبع الأحداث خلال الأشهر الماضية يشي بأن الهجمات على السعودية تتخذ منحى تصاعدياً، لا يمكن حتى الآن تحديد نقطة الذروة فيه، وهو ما يمكن استشرافه في بيان الحوثيين حول هجمات الأمس، والذي توعدوا فيها “بتوسيع عملياتنا في المستقبل”، والتي “ستكون أكثر إيلاما طالما استمر العدوان والحصار”.
ومن المعروف أن التوترات بين إيران والولايات المتحدة وحلفائها، بما في ذلك السعودية ، قد دفع بخام برنت، المقياس العالمي لأسعار النفط ، إلى ارتفاع بنسبة 12 في المئة، ليصل إلى 60 دولاراً للبرميل هذا العام. ومع أن أسعار النفط ما زالت أدنى من أعلى مستوياتها في نيسان الماضي، وذلك على خلفية المخاوف من أن تراجع الطلب سيؤدي إلى وفرة العرض، إلا أن حالة السيولة القائمة في الشرق الأوسط ربما تذهب بالأسعار في اتجاه تصاعدي.
“بقيق هو قلب النظام، وقد تعرض للتو لأزمة قلبية، لا نعرف حتى الآن شدتها”
“أرامكو” على المحك!
وتأتي الهجمات في الوقت الذي تسرع فيه “أرامكو” من الاستعدادات لطرح عام أولي، وذلك عبر خصخصة الشركة، ببيع خمسة في المئة من أسهمها، بقيمة مئة مليار دولار من أصل التقدير الكامل البالغ ألفي مليار دولار، وذلك ضمن الجهود المبذولة لتحقيق “رؤية 2030″، المشروع الاقتصادي الطموح لولي العهد محمد بن سلمان.
وإذا كان من غير المعروف حالياً التأثير المباشر لهجمات الأمس على هذه الخطط، إلا أن أجواء التوتر السائدة في الشرق الأوسط، والمخاطر الأمنية المتصلة بها، والتي باتت منشآت النفط السعودية على رأس بنك الأهداف فيها، لا شك أنها ستترك أثرها على قرار المستثمرين وتخمين الشركة.
بذلك، يمكن توقع ارتدادات سياسية واقتصادية لهجمات الحوثيين، فاهتزاز “أرامكو” سيعني بطبيعة الحال اهتزاز المشروع السياسي لمحمد بن سلمان، خصوصاً أن ثمة تقديرات باحتمال أن تؤدي هذه الضربة إلى خفض تخمين الخمسة في المئة المطروحة للبيع، وفي ظل الصعوبات التي تواجهها الرياض لجذب المستثمرين لهذا الاكتتاب، بحسب ما يقول خبير اقتصادي عربي لموقع “180”.
لعل هذا ما يجعل مراقباً مخضرماً في “أوبك”، مثل روجر ديوان، الخبير في مؤسسة “اي اتش اس ماركت”، يعلّق على هجمات الأمس بالقول: إن “بقيق هو قلب النظام، وقد تعرض للتو لأزمة قلبية، لا نعرف حتى الآن شدتها”.
“أرامكو”… حقائق وأرقام – الاحتياطات النفطية بلغت احتياطات “أرامكو”، أكبر شركة نفط في العالم، 260.2 مليار برميل من المكافئ النفطي في العام 2017، وهي أكبر من احتياطات شركات “إكسون موبيل”، “شيفرون”، “رويال داتش شل”، “بي.بي” و”توتال” مجتمعة – إنتاج النفط أنتجت “أرامكو” 10.3 مليون برميل يومياً من النفط في العام الماضي، مستفيدة من أقل تكلفة في العالم لإنتاج الخام وهي 2.8 دولار للبرميل. وأنتجت أيضاً 1.1 مليون برميل من سوائل الغاز الطبيعي، و8.9 مليار قدم مكعب قياسية من الغاز الطبيعي يومياً. – صادرات النفط ورّدت “أرامكو” نحو ثلاثة أرباع صادراتها من الخام في العام الماضي إلى مشترين في آسيا حيث ترى أن الطلب سيزداد بدرجة أسرع من أي منطقة أخرى في العالم. ومن أبرز زبائن “أرامكو” الصين والهند وكوريا الجنوبية واليابان وتايوان. وقد بلغ حجم شحناتها إلى أميركا الشمالية أكثر من مليون برميل يوميا العام الماضي و864 ألف برميل يوميا إلى أوروبا. – تكرير النفط تقوم “أرامكو” بعمليات لإنتاج وتكرير وتصدير النفط في السعودية، ولكن لديها أيضاً عمليات للتكرير في أنحاء العالم. وتملك “موتيفا انتربرايزيز” للتكرير التابعة لـ”أرامكو” في الولايات المتحدة معمل فورت ارثر في تكساس، الذي تبلغ طاقته 607 آلاف برميل يومياً، وهو الأكبر في الولايات المتحدة. وقد أعلنت الشركة السعودية في العام 2017 عن خطط لضخ استثمارات بقيمة 18 مليار دولار في عملياتها في الأميركيتين خلال خمسة أعوام. وتوسع أرامكو أيضا طاقتها لتكرير وبيع الخام في القارة الآسيوية خاصة في دول سريعة النمو مثل الصين والهند. وفي العام 2018، بلغت طاقة التكرير الصافية للشركة 3.1 مليون برميل يومياً. – الانتشار بوصول عدد موظفيها إلى 76 ألف شخص في العام 2018، تملك “أرامكو” عمليات لإنتاج الطاقة ومنشآت بحثية ومكاتب في أنحاء متفرقة من العالم تشمل آسيا وأوروبا والأميركيتين. وللشركة مكاتب في بكين ونيودلهي وسنغافورة ونيويورك ولندن وهيوستن ومناطق أخرى.
(المصدر: رويترز) |