إحتفلت العاصمة السعودية، وللمرة الأولى في تاريخها، برأس السنة الميلادية الذي شاهدناه في منطقة “بوليفار الرياض”، حيث اضيئت سماء المنطقة بالالعاب النارية عندما انتصف ليل مدينة الرياض مُودعاً عاماً ومُستقبلاً عاماً جديداً بهذه الالعاب النارية التي عرضتها بعض قنوات التلفزة السعودية غير الرسمية.
ورافق تلك الأمسية غير المسبوقة، حفل فني كبير أحياه أشهر المطربين السعوديين محمد عبده في المنطقة نفسها التي ازدحمت بآلاف المحتشدين من سعوديين وغير سعوديين ممن شاهدوا للمرة الأولى في تاريخ الرياض احتفالاً في مناسبة كان يلقى القبض على من يحتفل بها قبل سنوات قليلة.
وإزدحمت عشرات المطاعم في منطقة “بوليفار الرياض” برواد، دفع الواحد منهم الف ريال سعودي (نحو 270 دولاراً) للحصول على مقعد لتناول العشاء.
وترى أستاذة جامعية سعودية ان هذا الاقبال على مثل هذه الاحتفالات يؤكد ان قطار الانفتاح مستمر ولا أحد يستطيع وقفه، او اعادة عقارب الزمن الى الوراء، وإستذكرت كيف كان يزداد نشاط رجال هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر (الشرطة الدينية) في اسبوع عيدي الميلاد وراس السنة للقبض على اي محتفل بهذه المناسبة.
والملاحظ ان الإقبال على هذه حضور هذه الفعاليات، بلغ حد الازدحام وأن تجد صعوبة في الحصول على بطاقة لحضور حفلة فنية او مشاهدة فيلم في دور السينما. فقد فرضت هيئة الترفيه رسماً دخول الى منطقة “بوليفار الرياض” قدره خمسون ريال سعودي. في هذه المنطقة، تحيط بالمطاعم بحيرة اصطناعية تتوسطها نافورة مائية ترقص على وقع مقطوعات موسيقية، عالمية وعربية، أما المسارح ودور السينما ومدن الالعاب، فيختلط فيها الصغار والكبار. وبرغم هذه الرسوم التي تزداد قيمتها في المناسبات الا ان الازدحام شديد لا سيما في يومي العطلة الاسبوعية.
هذه المظاهر هي جزء من ورشة سعودية كبيرة، ذلك أن ولي العهد السعودي يعمل على بناء الدولة السعودية “الرابعة”، وهي الدولة التي يطمح إليها والده الملك سلمان الذي وجد انه لا بد من العمل على تجديد دماء الدولة السعودية الثالثة التي بدأت تترهل
واللافت للإنتباه أن المملكة التي كان من الصعب الحصول على تاشيرة زيارة (فيزا) لدخولها قبل سنوات، فتحت أبوابها حالياً أمام جميع من يريد زيارتها، وليس فقط من ينتمون إلى 69 دولة يستطيعون الحصول على تأشيرة في المطارات والموانىء السعودية، بل ايضا امام المواطنين العرب، كما تم خفض رسوم تأشيرة الزيارة الى 300 ريال (40 دولاراً) لمدة سنة ولعدة سفرات.
وليس خافياً على أحد أن هذه المظاهر هي جزء من ورشة سعودية كبيرة، ذلك أن ولي العهد السعودي يعمل على بناء الدولة السعودية “الرابعة”، وهي الدولة التي يطمح إليها والده الملك سلمان الذي وجد انه لا بد من العمل على تجديد دماء الدولة السعودية الثالثة التي بدأت تترهل ويسبقها الزمن والتطور الحضاري والثقافي العالمي بفعل التزمت الديني والاجتماعي الذي ازداد خلال السنوات الاربعين الماضية.
يذكر أن الدولة السعودية الثالثة هي تلك التي اسسها الملك عبد العزيز بعد ان وحد الجزيرة العربية قبل نحو مائة عام.
ويبدو واضحا ان ولي العهد يريد ان تكون هذه الدولة “الرابعة” منفتحة حضارياً وثقافياً ودينياً على العالم ومتغيراته، وبعيدة عن التزمت الديني الذي يرى محمد بن سلمان انه كان يشكل عقبة امام التطور الانساني والثقافي في السعودية.
ويستند بن سلمان في مهمته هذه إلى قيادات سعودية شابة، أغلبها تم تعيينها في السنوات الأخيرة، فضلا عن مشورة تقدمها لهم شركات ومراكز بحث ودراسات عالمية مثل “ماكينزي” وخبراء من مختلف الجنسيات.
وبالرغم من مظاهر التغير الاجتماعي والانفتاح الحضاري، الا ان المملكة تشهد مرحلة تحول سياسي واقتصادي وحتى عسكري ليست بالسهلة، علماً أن سنوات ومراحل التحول في اي مجتمع تمر بمراحل صعبة وتنتظرها تحديات يحتاج من يقودها الى ارادة وعزيمة وصبر.
ولا شك ان هذه المهمة لن تكون سهلة على من يريد تحويل المجتمع السعودي من مجتمع متزمت ومحافظ دينيا واجتماعيا الى مجتمع منفتح يكون اساسا لدولة اقليمية قوية.
ويريد ولي العهد السعودي ايضا ان يحول المجتمع السعودي من مجتمع رعوي (ترعاه الدولة بكل احتياجاته، وفق مفهوم علينا المبايعة والطاعة وعلى الدولة رعايتنا) الى مجتمع عليه واجب مشاركة الدولة في تحمل الاعباء. من هنا، بدأ المواطن السعودي يشعر بغياب “البحبوحة الاقتصادية” التي كان يعيشها في العهود السابقة لا سيما في العهد الذي سبق العهد الحالي.
يقول مواطن سعودي إنه من الصعب علينا الإنتظار حتى العام 2030 وهو العام الذي وعد فيه ولي العهد السعودي بان يستكمل انشاء الدولة السعودية القوية التي لا تعتمد فقط على النفط مصدراً للدخل
ومن أطرف ما تسمعه من البعض، ممن يشكو الكساد الاقتصادي، الآتي: “صحيح أن الفساد كان مستشرياً كل تلك السنوات وان هدراً كبيراً لإيرادات الدولة وعائداتها كان يتم، الا ان الكل هنا كان مستفيداً. كمٌ كبيرٌ من المشاريع الضخمة التي كان يستفيد منها المواطن وغير المواطن وكانت هناك سيولة مالية كبيرة في البلاد تسمح بان تقدم الدولة للمواطن احتياجاته الاستهلاكية بأسعار مدعومة”.
تتغير الاوضاع في المملكة حالياً، ويقول مواطن سعودي آخر إنه من الصعب علينا الإنتظار حتى العام 2030 وهو العام الذي وعد فيه ولي العهد السعودي بان يستكمل انشاء الدولة السعودية القوية التي لا تعتمد فقط على النفط مصدراً للدخل.
ويرى مواطن آخر انه من الصحيح أن الدولة السعودية الجديدة وفّرت مئات الالاف من فرص العمل للمواطنين السعوديين من خلال فتح ابواب العمل لهم في العشرات من مشاريع الاستثمار الجديدة لا سيما السياحية. وفي المقابل، تم التشديد على توطين الوظائف وفرص العمل وتشديد القيود على العمالة الاجنبية لدفعها لترك المملكة، إلا أن الدولة “أخذت منا الكثير، مثل رفع الدعم عن الوقود والكهرباء والمياه وفرضت ضريبة القيمة المضافة ورفعت رسوم الخدمات البلدية وغيرها من الرسوم الحكومية”.
إذا إستمر الحال على هذا النحو من عدم المصارحة، ماذا يمنع أن لا تتحول التساؤلات “المكتومة” الى “معارضة مكتومة”؟
والسؤال “المكتوم” عند المواطن السعودي هو اين تذهب هذه الايرادات الضخمة التي تجنيها الدولة حالياً؟
وحين يطرح البعض هذا التساؤل، يسارع إلى التوضيح بأنه لا يتهم العهد الجديد بالفساد، ولكن لا شك ان رغبة العهد الجديد باقامة الدولة السعودية القوية عربيا واقليميا يفرض عليها التزامات كانت اقل بكثير في العهود السابقة، “فالدولة القوية تحتاج الى جيش قوي مزود باحدث واقوى انواع الاسلحة، وتحتاج الى اقامة تحالفات تفرض عليها التزامات مالية كبيرة لمواجهة تحالفات اقليمية اخرى معادية للمملكة ومناهضة لدورها الاقليمي في المنطقة”، على حد تعبير أحد المسؤولين السعوديين السابقين.
ويعطي المسؤول السعودي نفسه مثلاً على حرب اليمن ويسميها “حرب إستنزاف”، ويقول: “لم تكن السعودية راغبة بالتورط فيها لولا انها شعرت بدعم إيران للانقلابيين الحوثيين من الجنوب، إذ ذاك، تكون المملكة محاصرة بالنفوذ الايراني شمالاً (العراق) وجنوبا من خلال جماعة الحوثي”.
هذه الحرب وما تخللها من تهديدات بلغت حد استهداف المملكة عسكرياً وقلبها النفطي بالصواريخ، تفرض على القيادة السعودية التوقيع على صفقات تسلح ضخمة للحصول على أحدث الأسلحة، ما جعل السعودية تحتل المرتبة الرابعة في العالم بين الدول الأكثر صرفا على التسلح (بلغ حجم الانفاق على التسلح نحو 120 مليار دولار في العام المنصرم). ولا شك ان هذه الالتزامات هي التي تذهب بالقسم الاكبر من عائدات الدولة.
وبرغم ان المواطن السعودي يدرك ان لدى دولته التزامات مالية ضخمة وكبيرة، الا انه يحتاج على الأقل إلى مصارحة إعلامية، لا ان يهلل الاعلام السعودي أو التابع للمملكة للإنجازات فقط من دون ان يصارح السعوديين بالمصاعب التي تواجه بلدهم في سنوات التحول.
إذا إستمر الحال على هذا النحو من عدم المصارحة، ماذا يمنع أن لا تتحول التساؤلات “المكتومة” الى “معارضة مكتومة”؟
(*) صحافي متخصص بالشؤون الخليجية
– للإطلاع على تاريخ الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة ومواضيع أخرى عن السعودية، راجع موسوعة المعرفة: https://www.marefa.org/