فهم الحدث السوري، داخلاً وخارجاً.. نقاط ارتكاز منهجية

يواصل الحدثُ السوريُّ التأكيد على طابعه الرئيسِ وهو: صعوبة الإمساك بما يجري. ومن يستطيع القول (أو مجرد الادّعاء) بأنه قرأ الحدث قراءة مطابقة أو أن الأمور تسير وفق تقديراته وتوقعاته؟ وقد مثلت الحربُ السوريّةُ ـ ولا تزال - ذروة الرهانات السياسية والتدفقات الميديائية والإعلامية حول العالم. وتشكلت أو تراكمت طبقات فوق أخرى من القراءات والتقديرات والمواقف والأفعال وردود الأفعال، جعلت التوصل إلى مقاربة موضوعية مسألة بالغة الصعوبة وأقرب للاستحالة.

بدت الأزمة في سوريا، بعد مرور أكثر من عقد على حدث 2011 والحرب التي تلته، كما لو أنَّ فواعلَ الفكرِ والثقافةِ والسياسةِ والعسكرةِ قالت كلَّ ما يمكن أن يُقال عنها. ويبدو أيّ كلامٍ عن الحدث/الحرب كما لو أنه مجرد تنويع على “متون” هي “المواقف الأساسية” لمختلف الأطراف والفواعل، أو تعبئة لزمن البرامج في قنوات الميديا والاتصال والإعلام والاجتماعات والمؤتمرات والندوات إلخ..

وهذا الحال، على ما فيه من سيولة وتعقيد، وتداخل وتخارج، إقدام وإحجام، ربما أشعر المتلقي بأن البحث عن “أصل” للحدث هو مكابدة لا طائل منها، وكذلك الأمر بالنسبة للبحث في “المسارات المحتملة”. وشعر كثير من المتابعين بعامّة ومن السوريين بخاصّة بأن “الله وحده يعرف ما يجري”!

ثمة حاجة ملحة لقراءة صريحة وعميقة للحدث السوري، على ما في الحدث من سيولة كبيرة، ولا يقين حادّ يسم الحدث السوريّ والإقليمي والعالمي اليوم. وفي ظل الغموض الثقيل في المشهد، تكثر التقديرات التي تذهب مذاهب مختلفة في القراءة والتحليل والتفسير، لكن أكثرها لا يفعل، إلاّ أن يجعل الأمور بعيدة عن الفهم وأكثر غموضاً واستغلاقاً!

نقاط ارتكاز

يمكن الحديث عن “نقاط ارتكاز” رئيسة في قراءة وتقدير الحدث السوري، تمثلت في أولوية أو تغير الوزن النسبي لـ “الداخل” مقابل “الخارج”؛ الاجتماعي مقابل السياسي؛ الاقتصادي مقابل الأمني؛ الكلي مقابل الجزئي؛ الاحتمالي والنسبي مقابل القطعي والإطلاقي، من قبيل:

  • أنَّ الاستعدادَ والقابليةَ الداخليةَ مَثَّلا أساساً وذريعة للتدخل الخارجي.
  • أنَّ التحديات الأمنية ومكافحة الإرهاب والضغوط الخارجية والحصار إلخ.. لم تعد تقنع المتلقي وفواعل الاجتماع والفكر والسياسة والرأي العام في الداخل.
  • أنَّ الأولوية النسبية أصبحت لتأثير عوامل الفساد والمحسوبية وسوء الأداء والتقصير في البنى الإدارية والتشريعات والقوانين، إلخ..
  • ضرورة “الأبواب المفتوحة” للمداولة والحوار والمصالحة، وإزالة أو تخفيف الجدران بين الأطراف ومناطق السيطرة المختلفة، وبين السوريين على جانبي الحرب، وبين السوريين في الداخل والخارج.
  • أن ثمة شرائح اجتماعية لديها قراءات وتقديرات ورهانات وأولويات قد لا تنسجم مع الخط العام للنظام السياسي والدولة في سوريا، وأن ذلك ليس سبباً كافياً لقطيعة كلية.

في شروط القراءة

تبدو محاولة القراءة الناجعة أو الفعالة – ان أمكن التعبير– للحدث السوري محكومة أو مشروطة بأمور رئيسة، تتمثل في ضرورة أو أهمية تتبع واستقصاء النقاط الآتية في قراءة الحدث وفي التعبير عنه: الرؤية أو المقاربة الكلية لما يجري، وحيث الجزئي لا يمكن أن ينوب عن الكلي. والثبات على البداهات، ومن ذلك من هو الصديق ومن هو العدو. وأولوية الداخل على الخارج. وأولوية الواقعي على المتخيل. والواقعية وليس الوقوعية، أي النظر بواقعية للأمور، لكن ليس الاستسلام لوقائع قد تكون طارئة أو مختلفة أو نتيجة إكراهات الحرب. والاحتمالية، واللا متوقع.

وما نورده هو من نمط الشروط اللازمة، ولو أنها غير كافية، ويمكن تكثيف الأمر بضرورة “القراءة المُفْضِيَة إلى فعل” أو “ما أمكن من فعل”، باعتبار إكراهات الحدث الراهن، وصعوبة توقُّع أو حتى تَلَمُّس المسارات المحتملة وحتى المُرجِّحَة لتطوره.

الكلي-الجزئي

الحاجة لقراءة وفهم أو تقدير كلي أو إجمالي للحدث في اللحظة الراهنة، وفي اتجاهات تطوره، وتناول أكثر فواعل الحدث السوري، وأكثر محاوره وجبهاته، السياسية والعسكرية، الحلفاء والخصوم في الداخل والخارج. وتوضيح أنماط التداخل والتراكب والتفاعل بين كل ذلك، إذ أنّ الحدث الجزئي، كما في إدلب أو منطقة الجزيرة أو المنطقة الجنوبية أو اللجنة الدستورية، إلخ.. يجب موضعته في سياق الحدث الكلي، وإلا ضاعت السياسة وضاع المعنى. كما يُعَدُّ من غير المعقول أو غير الممكن أن ينوب الجزئي، عن طبيعة الحدث السوري ككل، وباعتبار إكراهات وفرص ما يجري في الإقليم والعالم.

“اللا متوقع”، له حيز أكبر مما هو متوقع؛ بمعنى أنَّ الحدث السوري كان عرضة لتطورات لم يكن بالإمكان توقعها أو مجرد التفكير فيها بوصفها تطورات قريبة، من ذلك مثلاً تحول “الفواعل الكردية” في منطقة الجزيرة من الاعتماد على روسيا إلى الاعتماد على الولايات المتحدة، وتحول الموقف بين روسيا وتركيا من حالة خصومة أو عداء في المشهد السوري إلى حالة تفاعل وتجاذب

البدهي

من أخطر ما يمكن أن تفعله الحرب هي أن تدفع الفاعل للخروج عن بداهاته أو الابتعاد عنها، حتى لو كانت الإكراهات ثقيلة. وقد تكون الحرب السورية “خلخلت” نظم القيم وبداهات السياسة والتاريخ لدى شرائح مختلفة من السوريين، ومنهم فواعل السياسة والثقافة والاجتماع وغيرها، وبخاصّةٍ في ما يتعلق بالتمييز بين “ما يمثل فرصة” و”ما يُمثّل تهديداً”، “من يُمثّل صديقاً” و”من يُمثّل عدواً”. وهذا من أكبر التحديات بالنسبة لسوريا في مرحلة ما بعد الحرب. بالتالي، يتطلب الأمر نوعاً من الثبات على “البداهات الرئيسة”: من هو الصديق أو الحليف، وإلى أي حدٍّ لديه ثقة به، وكيف أن المعركة مشتركة أو واحدة؟ ومن هو العدو، وإلى أي حد تبدو المعركة معه معقدة؟ وأن من الصعب قراءة الحدث السوري بمعزل عن إسرائيل: وجودها ورهاناتها تجاه سوريا والإقليم. 

الداخلي-الخارجي

التركيز على البعد الداخلي، ليس بإعطائه القوامة على الخارج بالتمام، إنما بإيلائه الاعتبار اللازم، إذ تبرز أولوية الداخل على الخارج في فهم “العوامل المرجحة” لاندلاع الحرب، وفي تَلَمُّس التحولات في فهم السوريين لمقتضيات الحرب ومفاعليها، ذلك أنَّ وجود “قابلية محلية” أو “داخلية” لدى شريحة من السوريين لـ”تلقي” التأثير الخارجي، و”قبول” الدخول في رهاناته كان أحد الأسباب الابتدائية والأولية للحرب، وأحد أسباب جعلها مستمرةً حتى الآن، وأن استمرار تلك “القابلية” أو “الاستجابة” قد يجعل ذلك التدخل ممكناً وربما مؤثراً في طبيعة الحل وفي طبيعة الأمور في مرحلة ما بعد الحرب.

الواقعي-المتخيل

قراءة تعطي أولوية للواقعي على المخيالي أو المتخيل، وذلك خلافاً لظاهر الحدث وتدفقاته في عالم الميديا وتوقعات وتقديرات المتلقين حول العالم. لكن العلاقة بين الواقعي والمتخيل ليست علاقة تضاد بالضرورة، ثمة تداخل معقول ومفهوم بل ومطلوب: إنَّ الواقعي هو ما تتأسس عليه أو وفقه السياسات ويتم تقدير البدائل والخيارات. أما المتخيل أو المخيالي فهو إحدى فواعل الحدث أو أحد دوافعه ومحرّكاته، ويمكن التدخل عليه والتأثير فيه.

الأمني-المعيشي

هذا يفتح الباب على أولوية أو ثنائية من نمط آخر، وهي الأمني والعسكري مقابل السياسي والاقتصادي، إذ أنَّ تحسن الوضع الأمني والعسكري لم يترافق مع تحسّنٍ في الوضع المعيشي للناس، وربما حدث العكس، الأمر الذي أثر في توقعات وتقديرات الناس حيال النظام السياسي والدولة.

الواقعي-الوقوعي

الواقعية هي أن تستند في تقدير الموقف وربما تقرير أو تعيين البدائل والاستجابات إلى معطيات مادية واجتماعية حقيقية أو فعلية، بما في ذلك المعطيات السياسية والأمنية وغيرها، باعتبارها معطيات يمكن التفاعل معها والتأثير فيها، وأما الوقوعية فتعد المعطيات المشار إليها “نهائية” و”حتمية”، ولها دور مقرر في أنماط الاستجابة.

الاحتمالي، اللا متوقع

المشهد السوري مفتوح على تطورات وتفاعلات ومسارات لا يقينية، وهو منطقة تداخل وتقاطع رهانات الحلفاء والخصوم، تقارباً وتنافراً. وكثيراً ما يتم وصف الحرب السورية بأنها حروب عديدة بحربٍ واحدةٍ. ولا بد لأي قراءة عقلانية للحدث أن تأخذ بالاعتبار صعوبة رسم ملامح حول المسارات المحتملة للأمور، وكيف أن تغيُّر أولويات وتقديرات أي فاعل من فاعلي الحدث يمكن أن تغير في طبيعة أو ملامح المشهد ككل.

أما “اللا متوقع”، فله حيز أكبر مما هو متوقع؛ بمعنى أنَّ الحدث السوري كان عرضة لتطورات لم يكن بالإمكان توقعها أو مجرد التفكير فيها بوصفها تطورات قريبة، من ذلك مثلاً تحول “الفواعل الكردية” في منطقة الجزيرة من الاعتماد على روسيا إلى الاعتماد (بل الرهان) على الولايات المتحدة، وتحول الموقف بين روسيا وتركيا من حالة خصومة أو عداء في المشهد السوري إلى حالة تفاعل وتجاذب خاصة، والتغير في مقاربة عدد من الدول العربية وغيرها للحدث السوري، وعودة الانفتاح العربي على دمشق، والإلحاح التركي على تطبيع العلاقة مع سوريا في الآونة الأخيرة.

في الخلاصة، إنّ الأفكار أو نقاط الارتكاز المنهجية المقترحة تقتضي “ممارسات دالة” أو “اتجاهات فعل وتأثير”. ولعل أولى تلك “الممارسات” هو قلب أو تغيير نمط التفكير والتقدير “من الخارج إلى الداخل”، كما سبقت الإشارة، بمعنى التفكير في وجود “قابلية داخلية” للحرب، بكل ما يعنيه ذلك من تغيير في الرؤية وأنماط الاستجابة، وبخاصة السياسات الحكومية على صعيد التنمية وتوزيع الموارد المادية والمعنوية، والسياسات المتعلقة بمراجعة فكرة “الهوية الوطنية”، وربما بناء “عقد اجتماعي جديد”.

إنّ اقتراح “نقاط ارتكاز منهجية” من أجل “فهم الحدث السوري”، ليس من أجل “تجديد عدة الحرب”، بل من أجل “الخروج منها”، مجتمعاً ودولة قابلين للاستقرار والاستمرار..

(*) اللوحات للفنان التشكيلي السوري يوسف عبدلكي

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  سوريا ساحة نارية مُتجددة أميركياً.. لماذا؟
عقيل سعيد محفوض

كاتب وأستاذ جامعي، سوريا

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  الخليج يعود إلى سوريا، هل هجوم أرامكو مقصود؟