وُلِدَ حقان فيدان في كنف أسرة تركية متواضعة من عشيرة حسنان، وترعرع في بيئة عادية بعيدًا عن النخب السياسية أو الإجتماعية الغنية أو التقليدية. التحق بالجيش التركي في سن مبكرة، وخدم كضابط صف في القوات البرية التركية. هذه التجربة كانت بداية انخراطه في المجال العسكري.
حصل على بكالوريوس في الإدارة السياسية من جامعة ماريلاند (University of Maryland) في الولايات المتحدة. هناك تعرّف على العديد من نظريات العلاقات الدولية من منظور الفكر السياسي الغربي. حينذاك، بدأ وعيه السياسي بالتبلور متأثرًا بنظريات الأمن القومي والدبلوماسية المتعددة الأطراف.
أكمل حقان فيدان دراساته العليا في العلاقات الدولية من جامعة بيلكنت (Bilkent University) في أنقرة. أطروحته كانت عن الدبلوماسية واستخدام التكنولوجيا في الاستخبارات. ينظر إلى الاستخبارات كأداة حاسمة لتعزيز النفوذ التركي في المنطقة، وهو ما برز في الاستراتيجيات التي اعتمدها خلال قيادته جهاز استخبارات بلاده (2010-2023).
برزت شخصية حقان فيدان عندما تولى مناصب في الحكومة التركية قبل أن يتولى جهاز المخابرات. عمل بين سنتي 1986 و2001، في «وحدة التدخل السريع» التابعة لحلف شمال الأطلسي، ومن بعدها في فرع جمع المعلومات السريعة في ألمانيا. تولى عام 2003 رئاسة وكالة التعاون والتنسيق التركية المعروفة باسم “تيكا” واستمر على رأسها حتى العام 2007.
عمل حقان فيدان مستشارًا لرجب طيب أردوغان عندما كان رئيسًا للحكومة. ومنذ توليه إدارة جهاز المخابرات في العام 2010، أصبح فيدان الذراع الاستخباراتي والسياسي الأبرز لأردوغان، وتمت الإشارة إليه بوصفه “الصندوق الأسود” للرئيس التركي، والمسؤول عن تنفيذ أجندة تركيا الاستراتيجية. كان دوره يتجاوز مجرد إدارة العمليات الاستخباراتية إلى التأثير في صنع القرار السياسي، ما جعله شخصية محورية في بناء شبكة علاقات تركيا الدولية المترامية الأطراف.
علاقة حقان فيدان الوثيقة بأردوغان منحته مساحة واسعة على صعيد اتخاذ القرارات الحاسمة في ملفات معقدة، أبرزها الملف السوري منذ اندلاع الأزمة السورية في العام 2011، أي على مسافة سنة واحدة من تسلمه مسؤولية إدارة جهاز الاستخبارات.. كان فيدان مسؤولاً عن التنسيق الاستخباراتي بين تركيا وقوى المعارضة السورية، إلى جانب إدارة التحديات الأمنية الناجمة عن الحرب في سوريا، مثل تدفق اللاجئين ومكافحة التنظيمات الإرهابية.
سعت تركيا إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية في سوريا: إسقاط نظام بشار الأسد؛ احتواء تهديد التنظيمات الإرهابية مثل “داعش” ووحدات حماية الشعب الكردية (YPG)؛ وضمان أمن حدودها الجنوبية.
قاد فيدان عمليات استخباراتية دقيقة لدعم المعارضة السورية المعتدلة، مع الحفاظ على التوازن في مواجهة التحديات الإقليمية. وتحت قيادته، نجحت تركيا في إنشاء مناطق آمنة داخل سوريا من خلال عمليات عسكرية موضعية مثل “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام”، التي قلّصت نفوذ التنظيمات المسلحة قرب الحدود التركية.
بالإضافة إلى ذلك، لعب فيدان دورًا محوريًا في إدارة العلاقات المعقدة مع روسيا وإيران، الشريكين الرئيسيين في الملف السوري ولا سيما منذ انطلاق صيغة أستانا في العام 2017. وقد نجح فيدان في الحفاظ على قنوات تواصل دبلوماسية واستخباراتية مع موسكو، ما ساعد على خفض التصعيد العسكري وضمان مصالح تركيا في شمال سوريا. هذا الرصيد منحه صورة لم ينلها غيره عند زيارته الأولى لدمشق، فكان له استقبال مميز وأن يحتسي الشاي أيضاً مع القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقًا) عند قمة جبل قاسيون المُطل على دمشق، في الوقت نفسه الذي كان رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو يُطل من قمة جبل الشيخ مراقباً بالمنظار ما يجري على أرض دمشق وتلالها!
عمل فيدان أيضا على قضايا أساسية، جعلته رقمًا صعبًا وأبرزها الآتي:
– لعب دورًا محوريًا في عملية السلام مع الأكراد (2013-2015)، بما في ذلك المفاوضات السرية التي أُجريت مع قيادة حزب العمال الكردستاني (PKK) في أوسلو، بهدف إنهاء الصراع الذي دام عقودًا.
– لعب دورًا بارزًا في إحباط محاولة الانقلاب الفاشلة ضد أردوغان في العام 2016. جهاز المخابرات تحت قيادته كان من بين أولى المؤسسات التي نبّهت القيادة إلى التحركات المشبوهة، مما ساعد في إفشال المحاولة، وعزّز ثقة أردوغان به.
– لعب فيدان دورًا بارزًا في مواجهة تنظيم “داعش” داخل تركيا وخارجها، بالإضافة إلى تعزيز الجهود الاستخباراتية لمكافحة حزب العمال الكردستاني وامتداداته الإقليمية. وسّع شبكة الاستخبارات التركية دوليًا، ما ساهم في تعزيز نفوذ تركيا في مناطق مثل إفريقيا، الشرق الأوسط وأوروبا. أقام علاقات تعاون وثيقة مع أجهزة استخبارات دولية، مع الحفاظ على استقلالية جهاز المخابرات التركي في خدمة مصالح تركيا الوطنية.
ويُمكن القول إن حقان فيدان يمثل أحد العقول الرئيسية للأردوغانية؛ هو الشخص الذي اعتمد عليه أردوغان في إدارة التحديات الأمنية الكبرى، مثل مواجهة الإرهاب، الانقلابات العسكرية، والصراعات الإقليمية. وقدرته على تصميم استراتيجيات استخباراتية ودبلوماسية متقدمة جعلته من أبرز العقول وراء استقرار النظام التركي، وكان أداة حاسمة في تنفيذ وترجمة رؤية اردوغان للسياستين الداخلية والخارجية.
كان لفيدان تأثير كبير على نهج تركيا الجديد في السياسة الخارجية، الذي يمزج بين البراغماتية والمواقف الحازمة. ففي ملفات معقدة مثل الأزمة السورية، الأزمة الليبية، العلاقات مع روسيا والولايات المتحدة، كان لفيدان دور استثنائي في الحفاظ على مصالح تركيا الإقليمية والدولية؛ لا بل يقول أحد الخبراء الأتراك إن فيدان يُعتبر من أبرز المدافعين عن السياسات الاستباقية التي تُعزّز استقلالية تركيا على الساحة الدولية.
لماذا نجح فيدان حيث فشل داود أوغلو؟
اعتمد أوغلو في سياسته الخارجية على نظرية “العمق الاستراتيجي”، التي ركّزت على جعل تركيا قوة إقليمية مهيمنة عبر سياسة “صفر مشاكل مع الجيران”. لكن هذه السياسة اصطدمت بالواقع السياسي المعقد في الشرق الأوسط، ولا سيما مع اندلاع الثورات العربية في العام 2011، ما جعل تركيا تنخرط في صراعات مع العديد من الدول. بالمقابل، تبنى فيدان نهجًا أكثر براغماتية ومرونة، مركزًا على تحقيق المصالح التركية المباشرة، مثل الأمن القومي، السيطرة على الحدود والمصالح الاقتصادية.
خلفية داود أوغلو الأكاديمية والفكرية تنطلق من رؤية استراتيجية طويلة الأمد، لكن الخبرة التنفيذية في القضايا الأمنية والاستخباراتية لم تتوفر له. بينما يتمتع فيدان بخبرة عميقة في عوالم المخابرات والأزمات، ما أهّله للتعامل مع ملفات حساسة بحرفية عالية، وخصوصًا تلك المتعلقة بسوريا والعراق وملفات الإرهاب. هذا كُلّهُ مكّنه من تحقيق إنجازات ملموسة على الأرض، مثل تأمين المناطق الحدودية وتعزيز النفوذ التركي في شمال سوريا.
أما النقطة الأبرز في تحديد مستقبل كل منهما فهي العلاقة مع أردوغان، فعلى الرغم من قرب أوغلو السابق من أردوغان، إلا أن الخلافات السياسية بينهما أدت إلى تراجع تأثير داود أوغلو، ولا سيما بعد تركه منصب رئيس الوزراء. أما فيدان، فيُعتبر من أقرب المقربين من أردوغان وأكثرهم ثقة لديه. وصفه أردوغان بأنه “صندوق أسراره”، وهو ما منحه حرية أكبر في تنفيذ السياسات الخارجية من دون معوقات سياسية داخلية. ومن أبرز نقاط الخلاف بين الرجلين كيفية إدارة العلاقات مع الدول الكبرى؛ ففي فترة أوغلو توترت علاقات تركيا مع القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة وأوروبا، بينما ركّز فيدان على إدارة التوازنات في العلاقات مع القوى الكبرى، ولا سيما مع روسيا والولايات المتحدة، الأمر الذي مكّن تركيا من تحقيق مكاسب استراتيجية من دون أن تُستنزف في صراعات كبرى.
في أي حال، “الأردوغانية” كنهج سياسي تعتمد على المزج بين القومية التركية، الهوية الإسلامية، والسياسات البراغماتية. فيدان ليس فقط ذراعًا مُنفذًا للأردوغانية، بل أحد عقولها الرئيسية وبخاصة في مجالات الأمن والسياسة الخارجية ودوره حاسم في تنفيذ رؤية أردوغان التي تجعل منه شخصية لا غنى عنها، وهو ما يفتح الباب أمام أدوار مستقبلية تنتظره، يجب أن تكون منسقة بالضرورة مع أردوغان، إلا إذا كان مطلوبًا أن يُبكّر في وراثة “السلطان الطيب”!