بعد حقبة زمنية استغرقت أربعة عشر عاماً، تم التوصل إلى الإتفاق النووي في العام 2015، في إطار مجموعة دول 5+1 ومجلس الأمن الدولي الذي أصدر القرار 2231، بما تضمنه من اعتراف دولي رسمي بالبرنامج النووي الايراني السلمي، ولكن مع خروج أميركا من الإتفاق النووي، في بداية عهد دونالد ترامب، وعدم نجاعة الجهود الأوروبية الرامية لإلتزام الإتحاد الأوروبي بتعهداته في الإتفاق النووي، اعادت ايران برنامجها النووي إلى طاولة المفاوضات من خلال تبني سياسة تجميد بعض تعهداتها النووية في سياق تضمن ثلاث خطوات حتى الآن، على صعيد خفض التزاماتها النووية، وهذا الأمر، تسبب بتوجيه أصابع الإتهام مجددا حول طبيعة البرنامج النووي الايراني وما إذا كان يحمل أبعاداً عسكرية، وذلك في محاولة أميركية ـ إسرائيلية لإثارة شكوك الوكالة الدولية للطاقة الذرية من جهة وخلق مناخ مواجهة بين الوكالة وايران من جهة ثانية.
إنطلاقاً من هنا، يبدو أن الديبلوماسية الايرانية الخارجية يجب أن تعيد النظر في السياسة التي تتبعها في مفاوضاتها مع الدول الأوروبية وأمريكا حول الإتفاق النووي، لمصلحة إعتماد أساليب جديدة في هذه المفاوضات بدل المراهنة الخاسرة على ما تسمى “البطاقات المحروقة” التي من شأنها أن تلحق الضرر بايران أولاً.
من الواضح أن البرنامج النووي في جميع الدول إما يكون خليطاً يجمع بين الأغراض العسكرية والسلمية أو يكون لأغراض سلمية صرفة، ولكن البرنامج النووي الايراني، وحسب الإتفاق النووي الدولي الموقع في العام 2015، وحسب اعتراف أجهزة الاستخبارات الأوروبية والأميركية منذ العام 2003 حتى الآن، وحسب ما نصت عليه تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 16 مناسبة، هو برنامج نووي لأغراض سلمية مئة بالمئة.
هنا تتبدى أسئلة عدة: ما هي الورقة التي تلعب بها طهران في المفاوضات مع الأوروبيين والأميركيين، طالما أن هؤلاء ومعهم مجلس الأمن أقروا بسلمية البرنامج النووي الإيراني؟
نظرياً، عندما تستخدم ورقة ما في أية مفاوضات، يفترض أن تضمن مردودها لمصلحتك. على سبيل المثال لا الحصر، لنفترض أن ايران قررت المراهنة على ورقة ثمينة مثل مضيق هرمز وقامت بإغلاق هذا الممر المائي العالمي الاستراتيجي لمدة أسبوع. هذا الأمر سوف يضرم النيران في معسكر الدول المستهلكة للنفط في العالم بأسره، إلى درجة أنه ربما يؤدي إلى اشعال فتيل حرب عالمية ثالثة، نتيجة الضرر الذي يصيب الإقتصاد العالمي. عندها، سيتحرك العالم بسرعة، إما لشن حرب ضد ايران وإما لإيجاد حلول سياسية مرضية للطرفين، ولكن مراهنة طهران في مفاوضاتها الجارية حاليا، على ورقة القسم الفني في برنامجها النووي السلمي، هي مراهنة خاطئة، إذ أنها تعيد الأمور إلى المربع الأول، فهل هناك أحد في ايران يوضح لنا الأضرار التي تلحق بالخصم جراء التلويح بهذه الورقة؟
الرسائل يمكن أن تكون مختلفة
لنفترض جدلاً أن ايران كانت تمتلك برنامجاً نووياً عسكرياً، وعلى سبيل المثال، لديها أكثر من خمسين صاروخاً بالستياً مزوداً برؤوس نووية في مستودعاتها، في هذه الحالة، كان يمكن لطهران أن تراهن على ورقة برنامج نووي عسكري وكان بإمكانها أن تبعث برسائل من خلال اختبار قنبلة نووية في قلب الصحراء الايرانية، وعندها كنا سنقول إن إيران تلعب بورقة البرنامج النووي الذي يحمل أبعاداً سياسية وعسكرية وفنية.
أما المراهنة على “الكارت” النووي الايراني السلمي في المفاوضات النووية مع الطرف الآخر، فإنها مراهنة خاسرة، لأن الطرف المقابل لن يقدم أي شيء لطهران مقابل “كارت” محروق، والدليل الحاسم هو تنفيذ ايران خطوات تقليص التزاماتها النووية بهدف الضغط على الدول الأوروبية، فهل حصلت طهران على أي مقابل بعد تنفيذ ثلاث مراحل من خفض التزاماتها النووية، وهل أضافت طهران ريالاً لذخائرها الاستراتيجية في المجالات السياسية والعسكرية والإقتصادية، وهل ساعدت هذه السياسة، أي المراهنة على “كارت” البرنامج النووي السلمي، في حل عقدة واحدة من عقد الإقتصاد الايراني المأزوم؟
الفتوى حسمت القضية
وإذا كانت إيران قد قلصت بشكل تدريجي، وعلى ثلاث مراحل إلتزاماتها النووية، ما هي الرسالة التي أرادت إيصالها؟ هل ترسل طهران إشارات إلى الطرف الآخر بأن استمرارها في خفض التزاماتها النووية، هو بمثابة خطوة باتجاه عسكرة برنامجها النووي؟
إذا كانت طهران تبحث عن هذا الهدف، فالعالم يدرك سلفاً وبناء على الفتوى الصريحة لآية الله السيد علي خامنئي بأنها إشارات ضجيج بلا أفعال، فايران وفي ظل هذا الحكم الشرعي الواضح، لا يمكنها أن تتحرك باتجاه البرنامج النووي العسكري.
ما نريد قوله هو أن المراهنة على هذا الورقة وبالنظر إلى اهداف طهران من البرنامج النووي وموافقتها على مبدأ الإشراف الدقيق والمستمر لمفتشي الوكالة الدولية على برنامجها النووي منذ العام 2015، هي مراهنة خاسرة تعتمد على استخدام “كارت” محروق.
تبني طهران البرنامج العسكري سوف يكون أسوأ خيار يتبناه النظام الايراني منذ تأسيسه قبل أربعين عاماً
ماذا لو قررت طهران تقليص التزاماتها لمصلحة برنامج عسكري نووي؟
أولا، ستتبنى دول الإتحاد الأوروبي والصين وروسيا وأمريكا وجميع الدول النافذة في العالم موقفا موحدا ضد ايران ويمكننا أن تتصور النتائج الكارثية التي سوف تتبع إتحاد هذه الدول ضد ايران.
ثانيا، في مثل هذه الأوضاع التي تعيشها المنطقة، فإن تبني طهران البرنامج العسكري سوف يكون أسوأ خيار يتبناه النظام الإيراني منذ تأسيسه قبل أربعين عاماً، وسوف يجعل من طهران ورقة رخيصة يتم بيعها وشراؤها بين القوى العظمى.
ثالثا، إذا قررت إيران تبني هذا الخيار فهي تمهد الطريق أمام إيجاد إجماع دولي ضدها وبالتالي، تفتح الباب أمام تبني خيار عسكري دولي أو التلويح المستمر بضربة عسكرية دولية ضدها.
يدرك معظم المراقبين أن الإتفاق النووي الإيراني في العام 2015 أغلق ملف ظهور غول جديد وقوة نووية عسكرية جديدة في العالم، ولقد حقق الإتفاق هذا الهدف بالنسبة لجميع الدول العظمى من دون استثناء، وبالتالي، فإن ايران في ظل الإتفاق النووي، لن تتمكن من الإتجاه نحو عسكرة برنامجها النووي على الإطلاق، خصوصا وأن هناك ثقة عالمية راسخة بالنسبة لأهداف البرنامج النووي السلمي الايراني.
هل ثمة شك بأن الضغوط الأمريكية للجلوس على طاولة المفاوضات هدفها التوصل إلى إتفاق جديد مع ايران مشابه للإتفاق النووي الحالي؟ وهل يجب أن نصدق أن أمريكا تبحث عن حوار نووي مع ايران بهدف تمتين جذور الإتفاق النووي الذي تثق أميركا أنه لن يسمح بانحراف البرنامج النووي عن أغراضه السلمية؟
من الواضح أن أميركا تتذرع بالإتفاق النووي لفتح باب الحوار مع طهران حول مواضيع أكثر شمولية من الملف النووي. من جهتنا، لا بد وأن نصل إلى نقطة مشتركة وهي أن مراهنة ايران على “كارت” برنامجها النووي السلمي هي مراهنة خطيرة للغاية ويمكنها تعريض البرنامج النووي السلمي الايراني وجهود علمائها النوويين للخطر، ولذلك نعتقد أن المسؤولين والديبلوماسيين الايرانيين يجب أن يعيدوا النظر في أهداف وأساليب المفاوضات التي تخوضها طهران مع الدول الأوروبية.