حين يُراد التعريف بموريس الجميل (1910 ـ 1970) يتقدم توصيفه بـ”مُصمّم لبنان” وواضع مشاريعه الإستراتيجية والثاقب الرؤية بعلاقات لبنان العربية، والخصم العنيد لإسرائيل.
ثمة مزايا لبنانية، من مثل تاريخ لبنان وحضارته ودوره الإقليمي ومؤهلات موقعه الجاعلة إياه مساحة وصل واتصال بين الشرق والغرب، لا تتوافر مثيلاتها إلا في فلسطين، وإذ ضربتها النكبة منذ عام 1948، فقد غدت دولة الإحتلال الإسرائيلي نقيض لبنان بالمطلق ومنافساً صراعياً لواقعه ومصيره، وتأسيساً على هذه الرؤية، راح الشيخ موريس الجميل يُطلق تصاميمه ومشاريعه الإقتصادية والحضارية التي تحافظ على المصير اللبناني وتسد الطرق والسُبل أمام اسرائيل كي لا تجتاح دور لبنان ومستقبله، مستنداً في ذلك على عاملين، التنمية الإستراتيجية الشاملة وخصوصاً في الأطراف، وتحويل لبنان إلى حاجة اقتصادية ـ تجارية ـ ثقافية للمشرق العربي ومن بعده الشرق كله، وفي ذلك قال:
أولاً؛ مرفأ بيروت:
في خطبة ألقاها في 29 ـ 11 ـ 1953 قال الشيخ موريس الجميل “في بيروت مرفأ البواخر المعروف، وفيها مرفأ الكرنتينا للكاز ومرفأ النهر للكاز ومرفأ الدورة للكاز ورصيف محطة توليد الكهرباء في الزوق وهو المعد لتبريد المحركات، لو فكّر المسؤولون في الأموال التي انفقت لإنشاء هذه المرافىء والأرصفة، لتيسر إنشاء مرفأ عظيم ابتداء من الكرنتينا يضاعف إمكانات مرفأ بيروت، ولتيسر إنشاء محطة توليد في بيروت ولأمكن تعديل مناخ بيروت في الصيف، والمؤسف كلما قدمنا مشروعاً سيطر الجبن على القلوب واتُهمنا بالجنون”.
لماذا توسيع مرفأ بيروت؟ يجيب الجميل في الخطبة نفسها:
“إسرائيل أقرت إنفاق مليار ونصف مليار من الدولارات لأجل توسيع مرفأ حيفا، وقد تغطى من أصل هذا المبلغ، بظرف أسبوع، مئة وخمسون مليون دولار”.
ثانياً؛ المياه والكهرباء والعرب:
في الخطبة ذاتها يقول الجميل “قدمنا مشروع نقل المياه الجوفية إلى الرياض (السعودية) وهو ما لا يحتاج إلى مضخات لإنحدار الأرض، ونفقات هذه المشاريع لا توازي ربع الإعتمادات المرصدة لتوسيع مرفأ حيفا ـ وإسرائيل مقابل ذلك ـ تعد مشروع النفق لوصل العقبة بالبحر الميت وبطبريا، وتحويل مجرى نهر الأردن مقدمة لتحقيق هذا المشروع واحتلال العوجا مقدمة اخرى، وإسرائيل باشرت مشروع ري فلسطين بأعمال تمتد من حاصبيا لبنان إلى عريش مصر بعد أن أعدت 292 مليون دولار، ودفعت حتى اليوم 600 مليون دولار لتحقيق مشاريعها المائية، أي أضعاف أضعاف ما نطلبه لتحقيق مشاريعنا بما فيها الكهرباء إلى مصر والمياه إلى الرياض”.
ثالثاً؛ طرابلس بوابة الشرق:
ألقى موريس الجميل محاضرة في 3 أيار/مايو 1958 بعنوان “طرابلس واللامركزية” حدّد فيها ثلاثة وجوه للبنان، الأول، محلي بإمكانياته الطبيعية وكيفية استغلالها، الثاني، عربي وشرقي منبثق من حتميات طبيعية، الثالث، عالمي ركيزته الجغرافيا وملتقى الطرق العالمية “التي تنافسنا عليها اسرائيل”.
وبعد أن يتوسع الجميل في الحديث عن دور طرابلس المحلي، يتجه للتفصيل في الحديث عن دور المدينة خارجياً:
أـ دور طرابلس الإقليمي: يقول الجميل “تُمثّل طرابلس رأس الطريق البري والنهري المارة في تدمر فصحراء سوريا فالعراق، حيث تتفرع نحو إيران فالصين حتى المحيط الهادىء من جهة، ومن جهة أخرى نحو الباكستان والهند لغاية الهند ـ الصينية، ومن الممكن أن نجعل من هذا الخط الشاسع مدينة حمص (سوريا) قاعدة مهمة حيث تكون طرابلس منفذها الطبيعي”.
هل هي “طريق الحرير” التي تحدث عنها الصينيون قبل سنوات؟
نعم، هي ذاتها، ويضيف الجميل:
“بفضل هذه الحلقة من مشروع الإنبعاث والمعنونة بالمركب التصميمي الشمالي من البحر المتوسط للمحيط الهادىء، نكون قد أحيينا الطريق الذي جعل من فينيقيا ما كانت عليه في الماضي”.
ب ـ دور طرابلس العالمي: حول هذا الدور، يقول الجميل “إذا كانت بيروت مركزاً تجارياً عالمياً، فمن الواجب ألا تقل طرابلس عنها أهمية، لأن طرابلس هي نهاية الخط الشاسع كما تكلمنا عنه، وفي تصميمنا للمواصلات أن الشاطئ اللبناني معدٌ لأن يكون سلسلة متراصة من المرافئ، يكون كل مرفأ فيها مخصصاً لعمل معين لجملة شركات نقل، وهذه الطبيعة الجيوغرافية تحسدنا عليها اسرائيل، كما ذكروها في مؤتمرهم الرأسمالي العالمي في القدس سنة 1951 ـ 1952، والتي تريد أن تزاحمنا عليها كما هو ثابت في بعض المؤلفات، والتي سنتكلم عنها مفصلاً عندما ندرس الصراع القائم بين إسرائيل ولبنان” (أصدر لاحقاً كتاباً بعنوان “مشاريع اسرائيل وسياسة النعامة”).
رابعاً؛ البقاع مستودع العرب والشرق:
للشيخ موريس الجميل كرّاس تصميمي بعنوان “إمكانيات البقاع” يُفنّد فيه أهمية هذه المنطقة اللبنانية على المستويات الحضارية والإقتصادية والعالمية، ويدعو في تصميمه ذاك، إلى الإستثمار في المقومات البقاعية، ومحذراً في الآن نفسه من أن تسطو إسرائيل على الدور الإقتصادي والنهضوي والمصيري للبقاع، ويشرح ذلك بالقول:
“إن ثروة البقاع ليست في مساحته الشاسعة الخصبة التي كانت تموّن روما بالأغلال، كما أنها ليست أيضاً في مياهه المتوفرة بكثرة، ولا في طبقات الأرض الملأى بالمواد الطبيعية، بل إن ثروته الكبرى مرتكزة في مركزه الجغرافي، الذي يشكل النقطة النهائية لشبكة المواصلات البرية بين الشرق الأقصى والشرق الأوسط والشرق الأدنى والعالم الغربي، منذ أيام الرومان كانت أرضنا هذه ملتقى الممرات، من الصين وإيران والعراق، كانت البضائع تمر بمفرق الطرق الذي يقع فيه بلدنا، لتوزع من جديد بواسطة النوافذ البحرية في اسطنبول وأوروبا ومصر وليبيا والحبشة”.
ما المطلوب؟ يجيب موريس الجميل:
“يجب أن نعمل بكل قوانا حتى نجعل البقاع مستودعاً عظيماً للشرق، لأن الساحل اللبناني لا يكفي وحده لضمان هذا المستودع، بالنظر إلى امكاناته المحدودة”.
ومما الخوف والضرر؟ يقول الجميل:
“قد يكون الأمر أقل ضرراً لو أن المسألة تتوقف على عدم تفهم المسؤولين ـ اللبنانيين ـ لقيمة البقاع الإستراتيجية بشكل خاص، ولقيمة لبنان بصورة عامة في محور المواصلات الدولية، ولكن الذي يجعل الأمر أكثر خطورة، هو أن إسرائيل قد فهمت أهمية هذه المسألة وراحت تعمل في نقل مفرق الطرق العالمية من لبنان إليها”.
خامساً؛ مدينة صور عاصمة الإقليم:
في سياق مشاريع التنمية الشاملة التي كان يروم إليها الجميل، كان لمدينة صور الجنوبية نصيبها الوطني والإقليمي، بمرفئها وكهربائها، وحول ذلك كتب (19 ـ 1 ـ 1958) في صحيفة “التلغراف” اللبنانية فقال:
“إن الأسباب التي جعلت منك يا صور عاصمة العالم القديم، قد عادت إليك وهي تجثو تحت قدميك، من عند حدودك يا صور ستنطلق القوى الكهربائية إلى مصر وإلى الأردن وإلى قسم كبير من سوريا، ومن مرفأك يا صور سيؤمن ازدهار الأردن الشقيق وكثير من المدن الداخلية، إذ تنطلق من قلبك الطريق الشرقية الرئيسية: صور ـ المفرق ـ بغداد، وتمديداتها ومتفرعاتها”.
في مطلع حزيران/يونيو 1970، قرّرت الحكومة اللبنانية إنشاء “مجلس الجنوب” وخصّصت مبلغ 30 مليون ليرة لمساعدة الأهالي المتضررين من الإعتداءات الإسرائيلية على القرى الأمامية، وبحسب صحيفة “الأنوار” اللبنانية (6ـ 6 ـ 1970) “فوّض مجلس الوزراء الوزيرين موريس الجميل وأنور الخطيب وضع الصيغة النهائية لتنظيم مجلس الجنوب وصلاحياته”. وكان موريس الجميل أول رؤساء المجلس.
وفي حوار مع “الأنوار” (7 ـ 6 ـ 1970)، يُعدّد موريس الجميل مهام “مجلس الجنوب” ومن ضمنها “طريقة الدفاع الذاتي للأهالي، وذلك بإقامة تحصينات وتدريبات وتسليح المواطنين، وفقاً لمخطط يُوضع بالإشتراك مع المراجع المختصة المدنية والعسكرية”.
هل هي مقاومة شعبية؟
هكذا يُفهم، فالشيخ موريس الجميل كان مأخوذاً بالنموذج السويسري في مجالاته المختلفة، ومن غير المستبعد انجذابه إلى المثال الدفاعي في سويسرا، وحول “المقاومة الشعبية” وتسليح وتدريب أهالي الجنوب، هذه الشواهد العائدة إلى أرشيف صحيفة “الأنوار” في حزيران/يونيو 1970:
ـ 18 ـ 6: ورد في البند الخامس من مقررات مجلس الوزراء المتعلقة بـ”مجلس الجنوب” ما يلي: “تدريب الراغبين من أهالي القرى وتعزيز وسائل الدفاع المدني، على أن يجري ذلك بإشراف قيادة الجيش العُليا وتدفع الأكلاف من قبلها”.
ـ 19 ـ 6: من “البرنامج التفصيلي لخطة عمل مجلس الجنوب الدفاع المباشر وذلك بتسليح وتدريب السكان وإنجاز أعشاش مقاومة”.
ـ 24 ـ 6: عقد نائب رئيس “مجلس الجنوب” سليمان الزين مؤتمراً صحافياً قال فيه “سيجري بالتعاون مع السلطات المختصة وبواسطة هذا المجلس، تعميم على أهالي قرى الحدود الجنوبية يتعلق بالتدريب وبأوقات التدريب وتعزيز وسائل الدفاع المدني، ليؤدوا واجب الدفاع عن أنفسهم وواجب الدفاع عن الوطن من الإعتداءات الإسرائيلية التي يتعرضون لها”.
يقترب جورج فريحة المُقرب من بشير الجميل في كتابه “مع بشير ذكريات ومذكرات” من القول إن موريس الجميل كاد يفوز برئاسة الجمهورية اللبنانية لولا معارضة الشيخ بيار الجميل والرئيس كميل شمعون، وفي روايته:
“كانت ولاية الرئيس شارل حلو على وشك الإنتهاء، والمجلس النيابي كان مقسوماً بين المؤيدين للرئيس فؤاد شهاب ونواب الحلف الثلاثي، وبعدما قرّر شهاب العزوف عن الترشح، أوفد الرئيس شارل حلو، رئيس مجلس النواب صبري حمادة ورئيس مجلس الوزراء رشيد كرامي والسفير جوزيف أبو خاطر ليقنعوا الشيخ موريس بالترشح لرئاسة الجمهورية، كثرت المحادثات والمفاوضات بهذا الشأن، لكن أولاد الحلال أدخلوا في رأس الشيخ بيار أنه الأفضل له أن يترشح لرئاسة الجمهورية، استساغ الشيخ بيار فكرة ترشيحه، وزاد في هذه الدغدغة الرئيس شمعون، صدّق بيار الجميل خدعة شمعون، وسها عن باله أن موريس مقبول أكثر منه في الأوساط الإسلامية والنهجية ـ الشهابية”، وجراء استبعاد موريس الجميل عن الترشح للإنتخابات الرئاسية استقال من حزب “الكتائب”.
في ندوة عن موريس الجميل، أقامتها “جامعة الكسليك” عام 2011 برعايته، يقول رئيس مجلس النواب نبيه بري (الموقع الرسمي لمجلس النواب 11ـ 5 ـ 2011):
“لقد حاول ـ موريس الجميل ـ إحداث ثورة في خطة مواجهة اسرائيل عبر نشر وعي عن مشروعها وأخطارها على المنطقة وعبر اعتبارها لبنان منافسها الأول ومزاحمها الخطر من بين سائر الدول العربية”.
أخيراً؛ من تراث الشيخ موريس الجميل أنه من المساهمين في إطلاق “مؤسسة الدراسات الفلسطينية” عام 1963 مع الرئيس شارل الحلو وادمون رباط وقسطنطين زريق وسعيد حمادة ونجلاء أبو عز الدين وبرهان الدجاني وفؤاد صرّوف ووليد الخالدي ووداد قرطاس ونبيه أمين فارس.