الإنسان عميق الغور فرداً ومجتمعاً، كما كان يقول ياسين الحافظ. والنتائج تتعدى بكثير نتائجها المباشرة. هي حدثت وحسب. يكفي الإقرار بذلك. والنتائج لا تُرى، أو لا تظهر إلا على مدى سنوات، وربما بعد عقود من السنين؛ كما أن الأسباب تعود الى تراكمات من الأسباب والمسببات تتعلّق بالمجتمع وبنيانه ومظالمه. هي محاولة استرداد الناس لحريات وحقوق سلبها النظام على مدى طويل. النفس القصير لدى المثقفين والقائمين على الثورة يؤدي بهم الى البحث في أسباب مباشرة ونتائج مباشرة. ربما كان أهل السلطة أطول نفساً وأبعد بصيرة، إذ يعمدون الى إخمادها ولو بوسائل العنف والإكراه. كل نظام وكل سلطة تؤبد، أو تحاول تأبيد نفسها، بوسائل العنف والإكراه.
أزمة مالية واقتصادية خانقة بعد الثورة في لبنان أدت الى إنهاك الناس وتلاشي قدرتهم على المبادرة لإستعادة حقوقهم المسلوبة. نظام السلطة قائم في كل العالم، منذ الأزل، على السلب المعنوي والروحي. صارت مدينتنا، وبلدنا عامة، بلا روح، إضافة الى بلا مال، نتيجة الثورة. فهل تحمل الثورة هذه النتائج، أم هي صنع الثورة المضادة التي نواتها طبقة سياسية خطّطت للأمر، عن قصد أو من دون قصد، لكن عن وعي بأهمية الحدث. لو خطّط الثوار أو برمجوا مسبقاً لكن الأمر انقلاباً. الانقلاب انتقال السلطة من يد الى يد، وربما الى الأسوأ. تعودنا منذ أمد ليس بالقصير أن نكره الانقلابات ونعتبرها مشبوهة. الثوار الدائمون بعضهم الآن هم من يحاولون ركب الموجة. ركب الإسلاميون الثورة في إيران وسمّوها ثورة إسلامية، وأبادوا خصومهم، ولو نجح خصومهم لفعلوا بهم الأمر نفسه، كما فعل خصوم الإسلاميين بهم في مصر. الثورة تأكل أبناءها. الثورة روح الناس. روح الجمهور. الثورة لا تأكل أبناءها، بل السلطة هي التي تأكل ما تسلب وتنهب.
تكون الثورة ديموقراطية عندما يتحرر الناس من مطلب الشريعة. ويكون ذلك بأن يصير الدين جزءاً من المجتمع، لا كل المجتمع. هذا يتطلّب تحرير الدين من الشريعة واقتصاره على الإيمان وخضوع الدين للسياسة. يعني ذلك أن الإيمان علاقة فردية بين الإنسان والله. وإجراء تغييرات في البنية الدينية، وفصل المعاملات عن العبادات، واقتصار الدين في الحياة اليومية على العبادات. يستدعي ذلك ثورة في الثقافة السياسية
ليطمئن أصحاب الثورة وأعداؤها. النتائج غير متوقعة، كما الأسباب غير مباشرة. الثورة الحقيقية التي حدثت لم يتوقعها أحد. لا يستطيع أحد توقعها. تقدمت العلوم الحديثة كثيراً. لكن لا أحد يستطيع توقع لحظة انفجار بركان ما في هذه البقعة أو تلك؛ مع كل الاحترام لعلم الجيولوجيا، لو كانت الزلازل قابلة للتوقع (حسب مؤشرات العلم الحديث أو القديم)، لتم إجلاء كل منطقة مُعرّضة لذلك. حتى الأزمات أو الانهيارات المالية مستحيلة التوقّع برغم أن المتاجرين في البورصات عددهم قليل. وهم مع عتاد هائل من الحواسيب، يعملون عادة لدى عدد قليل من أصحاب المال والاستثمارات. هناك كتاب منسي لجون كينيث، بتكليف من السلطة، عن أسباب انهيار البورصة عام 1929. قال أن كل ما تستنتجه عن الانهيارات المالية هو فقاعات مالية تنفجر بعد انفجار فقاعة ارتفاع الأسعار العقارية. لا ننسى أن رئيس الولايات المتحدة كان قبل أيام او أسابيع من انفجار 1929 يتحدث عن الازدهار والرخاء والتقدم العظيم. ولا ننسى الكؤوس التي قرعت بين الشاه محمد رضا بهلوي وجيمي كارتر قبيل “الثورة الإسلامية” في ايران. وكان الشاه صاحب ألدّ أقبية التعذيب يشاد به أميركياً كواحد من معالم الديمقراطية والإنسانية. عهد السلطة يؤدي بها الى عمى البصيرة.
كل ذلك لا يمنع أن يكون لبعض الثورات صنّاع تاريخ. النبي رأى بالبصيرة الثورة قادمة، أو قد بدأت، ووقّع صلح الحديبية. لينين رأى الثورة حادثة فوقّع صلح بريست ليتوفسك. الثورة الفرنسية، برغم عصر الأنوار الذي سبقها، لم يكن لديها قادة من صنّاع التاريخ. أكلت أبناءها. بالغت بالتطرّف حتى كادوا ينصبون للعقل تمثالاً. انتهى أمرها الى قيادة طاغية اسمه نابوليون. كان عبقرياً إلا فيما يتعلّق بشؤون الثورة. نصّب نفسه امبراطوراً ووزع الألقاب الفيودالية على أعضاء حاشيته وذويه. تحولت الى ملك عضوض. كما سمّى المسلمون السلطة منذ معاوية. السلطة العثمانية التي كانت من أطول السلطات عمراً في التاريخ حكمها سلاطين قتلوا آباءهم وأخواتهم وأبناءهم. باني مجد سلطة ايفانوف في روسيا علّق ابنه. تولت ابنته كاترينا الأولى الحكم لا أخوها. الى أن جاءت كاترين الثانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولم تكن روسية الأصل، وحقّقت انتصارات كبرى.
قد يحدث التغيير الثوري من فوق؛ قد يتقدم بعض أطراف السلطة بالتغيير الجذري كما بطرس الأكبر والثورتان الانجليزيتان في أواسط وأواخر القرن السابع عشر. في احداهما أعدم ملك، وفي الثانية خلع ملك واستورد آخر من هولندا. كذلك ماليزيا في النصف الثاني من القرن العشرين، وسنغافورة بقيادة لي كوان يو. ثورات أحدثت تقدماً اقتصادياً كبيراً، وتقدماً بطيئاً للحرية. في معظم البلدان الأوروبية أنظمة ملكية تطورت نحو الديموقراطية ونمت فيها الحريات الى جانب التقدم الاقتصادي. في أميركا اللاتينية، كما في الصين، جمهوريات تلت ثورات تحرر وطني. الهند ربما كانت من بين قلائل الدول التي تلت ثورة التحرر الوطني فيها ديموقراطية. في كل بلاد المسلمين ثورات تحرر وطني تلتها أنظمة استبداد بعد الاستقلال، تارة باسم الشريعة وتارة باسم القومية. في الحالتين تكون القضية السامية، الإسلامية أو القومية، ذات أولوية تتقدم على وجود الناس. في جميع هذه الحالات يُخيّر الناس بين الحرية من ناحية والخبز (المعيشة) الى جانب صد المؤامرات الخارجية من جهة أخرى. عادة ما يخسر الناس حريتهم ومستوى معيشتهم. حكم الاستبداد ظاهرة عامة في بلاد المسلمين، سواء حكم ليبراليون (تركيا) أو إسلاميون (إيران) أو قوميون (البلدان العربية).
نزيه الأيوبي على حق في أن الدولة، بالأحرى السلطة أقوى من المجتمع. وائل حلاق ربما كان على حق في أن مفهوم الشريعة، والمطالب المترتبة عليه، وشعار الأمة الإسلامية يعيقون نشوء دولة ديموقراطية أو دولة بأي معنى حديث. وربما كان أدونيس على حق في أن الثقافة الإسلامية تعيق الثورة بشكل أو بآخر. ومع ذلك كانت ثورة العرب في 2011 ثورة شعبية حقيقية مطلبها “إسقاط النظام”. يسيطر الإسلاميون أحيانا، لكنهم عند العرب سرعان ما يسقطون أو يغرقون البلد في حرب أهلية، بتعاون مع السلطة أو في نزاع معها. في الحالتين تكون الأولوية ليست للناس أو الجمهور أو الشعب، بل لقضية ما (إسلامية أو قومية) تطمس قضايا الناس. يقود ذلك الى الاستنتاج أن المزاج الإسلامي السائد والمطالب بالشريعة، وهو في غالب الأحيان مطلب عام، هو في آن معا معيق للثورة وفي كل حال يلغي مطلب الحرية. تكون الثورة ديموقراطية عندما يتحرر الناس من مطلب الشريعة. ويكون ذلك بأن يصير الدين جزءاً من المجتمع، لا كل المجتمع. هذا يتطلّب تحرير الدين من الشريعة واقتصاره على الإيمان وخضوع الدين للسياسة. يعني ذلك أن الإيمان علاقة فردية بين الإنسان والله. وإجراء تغييرات في البنية الدينية، وفصل المعاملات عن العبادات، واقتصار الدين في الحياة اليومية على العبادات. يستدعي ذلك ثورة في الثقافة السياسية. لن يتأتّى ذلك إلا بنقد التراث. النقد يستدعي الوقوف خارج التراث. ليس إنكار التراث، فهو هناك وجزء من الماضي. الخطورة عندما يعتبر تاريخاً ويسعى الإسلاميون الى جعله بصورته الموروثة جزءاً من المستقبل أو كل المستقبل. لا لزوم لإعادة أسلمة المسلمين، كما دعا سيد قطب، متهما المجتمع الراهن بالجاهلية. الحكم الإسلامي في الزمن الراهن “جاهلية جديدة”. لن يخرج المسلمون من جاهليتهم الجديدة إلا بالتجاوز، تجاوزهم تراثهم، وتجاوز ذاتهم الموروثة؛ على أن يتزامن ذلك مع خروج الى العالم وتبني ثقافة عالمية. تستحيل الثورة باتجاه الدولة والحرية إلا بإخضاع الدين للسياسة. هذا معناه، ونكرر، بأن يصير الدين جزءاً من المجتمع وليس القطاع الأوحد فيه. يبدو بأن البلدان العربية تسير بهذا الاتجاه على عكس ما يحدث في إيران وتركيا. هم العرب يريدون لدولهم أن تكون دولاً فيها الأولوية للوجود الإنساني على كل قضية، بما في ذلك قضية فلسطين. التحرير يكون بالحرية في كل قطر عربي وتلبية مطالب الناس، وأهمها مستوى المعيشة، والتقدم العلمي والتكنولوجي، مع اولوية العلوم الحديثة. هذه مصدرها الثقافة العالمية التي لا خوف على الدين من تبنيها. الاندراج في العالم عن طريق مجتمع مفتوح أولوية أولى. لا بدّ للثورة، وهي على العموم حدث سياسي، من تطوّر ثقافي. وهذا ما يحدث في أحشاء المجتمعات العربية. ثورة 2011 سوف تتبعها ثورات أخرى. فجائية أو تطورية.
تستحيل الثورة باتجاه الدولة والحرية إلا بإخضاع الدين للسياسة. هذا معناه، ونكرر، بأن يصير الدين جزءاً من المجتمع وليس القطاع الأوحد فيه
للمثقفين دور أساسي في ذلك. يساهمون في تقدم مجتمعهم، أو في تراكم الثورات، عندما يحاربون، عن وعي، الثقافة السائدة لدى العرب والمسلمين عموماً. يدعمون مطالب الناس السياسية المعيشية، بتطوّر ثقافي، وتحوّل في الوعي السائد يحاصر السلطة، السلطات القائمة، وينقلون الثورة من حدث، مجرد حدث، الى تحوّل دائم مؤسس على العلوم الحديثة، وهادف الى دولة حديثة يكون الفرد فيها مواطناً مشاركاً؛ وتكون الدولة وعاء المجتمع، حاوية له، لا سلطة فوقه. السلطات التي فوق المجتمع قابعة خارجه. الثورة نضال في الداخل. الثورة المضادة نضال من الخارج والى الخارج يعود. فمن هم أولياء أمر السفارات؟
لم يعد شغل النخبة يقتصر على ما كانت عليه النخبة في أيام العباسيين وقبلهم وبعدهم. لا نملك عن تاريخنا سوى أخبار النخبة وهم من كان يمكن أن يعيش حتى يبلغ الستينات أو أكثر. لا نملك الكثير عمن كانوا يقومون بالعمل المرهق والذين كانوا يوفرون للنخبة الفائض الكافي كي تعيش وتعمّر. أولئك المنسيون هم الذين كانوا لا يتوقعون العيش الى أكثر من الثلاثينات. هؤلاء كانوا الذين يعملون وينتجون وكانوا من تعيش النخبة على فائض عملهم؛ ليس من يفيض عن عملهم الضروري كي يعيشوا ويتمتعوا، بل الفائض الذي كان وما يزال يقتطع من عملهم كي يعيش الآخرون ويتمتعون بها. هذه النخبة هي التراث. هي بالأحرى من أنتج هذا التراث الذي نتغنى به. على النخبة أن تتخلى عن دورها الموروث، عن التراث، كي تساهم في صنع تاريخ جديد. تراث جديد. عليها أن تؤمن أن الحاضر والمستقبل لم يعد ملك نخبة تعيش أكثر من ستين عاماً على حساب عامة تعيش ثلاثين عاماً أو ما يقارب ذلك. صار على النخبة أن تعبّر عن هذه العامة، الكثرة، التي ما كانت موجودة في تراثنا وتاريخنا المكتوب. الخروج عما هو “مكتوب” في التراث يتطلّب نخبة من نوع جديد؛ نخبة تعبّر لا عن نفسها أو أولياء أمرها، بل نخبة تعبّر عمن هم الأدنى في السلم الاجتماعي. نخبة تعبّر عما ليس تراثاً.
فليشرح لنا النبهاء لماذا الكتاب العزيز أسهل على الفهم من جميع كتب التفسير، ناهيك بالتأويل. ولماذا يحتاج الكتاب الذي أرسل للناس، عن طريق الوحي، الى تفسير؟ إذا كان يحتاج الى تفسير، فهو يحتاج الى من يفسره. ومن يفسرونه هم الوسطاء بين الله والعباد. وهل يحتاج الله الى وسطاء؟ مجتمعنا بحاجة الى مواجهتهم وانتزاع المعرفة من أيديهم وحصر مجال عملهم، أو تحويلهم الى البطالة، أو الى مجال آخر. لن يحسوا بمشاعر الطبقات الدنيا الحقيقية إلا عندما يعملون مثلهم في الزراعة والصناعة والحرف، على الأقل لتفادي السمنة.
(*) الجزء الأول: الثورة بحدوثها، بنتائجها أو أسبابها