في تشرين الأوّل/أكتوبر 2011، كنتُ في زيارة لمصر لحضور فعاليّةٍ مع الأمم المتحدة. وكنت متخوّفاً من تفاقم الصراع في سوريا وانتشار العنف؛ عنف السلطة وعنف تنظيماتٍ مسلّحة عرفتُ أبّانَ ندوةٍ حضرتها في حزيران/يونيو أنّها ذاهبة أبعد بكثير من “ثورة سلميّة” للحرية والكرامة. وكانت “المعارضة السياسيّة” قد انقسمت حينها بشكلٍ حادّ بين ما سمّي معارضةً داخليّة، أي “هيئة التنسيق الوطنيّة”، وبين ما سمّي المعارضة الخارجية، أي “المجلس الوطني” الذي نادى “بإسقاط النظام بكلّ رموزه وأركانه” وبالتدخّل الخارجي على غرار ما طالب به “المجلس الانتقالي” في ليبيا.
كان نبيل العربي أميناً عامّاً للجامعة العربية حينها وصديقاً مقرّباً من عمّي، الذي شاركني المخاوف وأخذ لي موعداً معه. استقبلني وزميل لي في “هيئة التنسيق”، وعند اللقاء بدا أنّه تتملكه الهواجس ذاتها. بعد الغوص في التفاصيل، سألنا: “ما الذي يُمكِن فعلُه؟” فخرجت فكرة المراقبين العرب، دون أن تكون مهمّتهم حقّاً مراقبة من يطلق النار، بل أساساً التواجد في المكان لمنع ازدياد العنف. وفي مساء اليوم نفسه، فوجئنا أنّ مجلس الجامعة العربيّة أقرّ الفكرة.
وما زلت أذكر جيّداً كيف وثّقَت وسائل الإعلام تمسّك المحتجّين في بلدات عديدة ببقاء المراقبين في المكان وكيف ركض يوماً جنديّ سوريّ إلى نافذة إحدى حافلات المراقبين وهو يصرخ: “أنقذونا”!. وكما هو معلوم تمّ تخريب مهمّة المراقبين العرب عبر جرّهم إلى وسائل الإعلام التي كانت أصلاً تُحرِّض على تفاقم العنف. كما تمّ من بعدها إفشال مهمّة المراقبين الدوليين.
خلال هذا كلّه استمرّ التواصل مع الأستاذ العربي. وباختصار كان واعياً لمسار التخريب الممنهَج لمهمّة المراقبين. وتمّ التوافق على أنّ ما يُمكِن أن يكسِر هذا المسار هو محاولة توحيد المعارضة السوريّة ووضع أسس للتفاوض مع السلطة القائمة في سوريا. السياسة بدلاً من العنف.
وفعلاً قمنا بدعوة ممثّلين عن كافّة أطياف المعارضة للقاءٍ في القاهرة يتبعه لقاء مع الجامعة العربيّة للمرّة الأولى. وبرغم اتفاقٍ جرى في الدوحة في آب/أغسطس 2011 على توحيد الجهود (لم أحضره شخصيّاً)، لم يقبل سوى عضوٌ بارزٌ واحدٌ في “المجلس الوطني” المشاركة، ثمّ تخوّف في اللحظة الأخيرة من الحضور. إلاّ أنّ الأسوأ هو أنّ “المعارضة الداخليّة” رفضت أن يكون وفدها إلى الجامعة العربية مشتركاً. ذهب وفد “هيئة التنسيق” وحده وتعرّض للضرب على مدخل الجامعة، برغم تحذير معاوني الأمين العام من ذلك. وبالنتيجة تأجّل الموعد مع الأمين العام ليصبح موعدين، الأوّل، مع “هيئة التنسيق” والآخر مع من استنكروا الانقسام. ثمّ جاء لاحقاً “المجلس الوطنيّ” وحده للقاء الجامعة مطالباً بأخذ شرعيّة تمثيل سوريا سياسيّاً!. وهو ما لم يقبله نبيل العربي، وانتهى الأمر بعد سلسلة من الضغوط إلى تجميد العضوية فقط.
تطوّرت الأمور لاحقاً، وسمّت الأمم المتحدة مبعوثاً لها عن سوريا هو السيّد كوفي عنان الذي أطلق برنامج النقاط الستّ لحلّ الصراع الناشئ. وتابع هو والجامعة العربيّة كيف قُمنا، مع ميشيل كيلو وآخرين، بإنشاء “المنبر الديموقراطي السوري” بصيغةٍ مفتوحة لرأب صدع المعارضة وضمّ ممثّلي الشباب الناشطين في الداخل، حيث أقيم مؤتمرٌ كبيرٌ في القاهرة في نيسان/أبريل 2012 حضرته محطات الإعلام العربية الكبرى وتقصّدت التعتيم عليه.
لم يقبل نبيل العربي برغم كلّ الضغوط العربيّة والدوليّة أن تشرعِن الجامعة العربيّة تدخّلاً أجنبيّاً في سوريا، كما فعلت بالنسبة لليبيا، ولا أن يُنزَعَ عن سوريا شرعيّتها كدولة مؤسسة للجامعة، وحاول جاهداً أن يعمل على مسارٍ تفاوضيّ.. نبيل العربي كان يُدرِك كمصريّ أنّ سلامة سوريا مسألةٌ رئيسيّة لمصر والعرب
لكن جاءنا بعد ذلك مبعوث نبيل العربي وأعلمنا أنّ الدول الفاعلة فَرَضَت على كافّة أطراف المعارضة القبول بمبادرة كوفي عنان والعمل على برنامج مشترك للتفاوض وأنّ علينا أن نقوم بـ”صلة الوصل” بينها. هكذا ذهب وفدٌ من المنبر إلى استنبول لحضور لقاء مع “المجلس الوطني” للتفاوض على أعضاء لجنة تحضيريّة لمؤتمر المعارضة. وكذلك جرى التفاوض مع “هيئة التنسيق” وغيرها.
وفعلاً اجتمعت هذه اللجنة التحضيريّة في القاهرة برعاية الجامعة العربيّة على مدى أكثر من عشرين يوماً. وكان التفاوض شاقّاً، بخاصّةً مع تواجد ممثلي دول و”مراكز أبحاث” في الفندق جعلوا الوصول إلى توافقات بين سوريين صعباً للغاية. لكنّ الجهد أدّى في النهاية إلى إنتاج وثيقة “عهد وطني لسوريا” ما زالت لها أهميّتها إلى اليوم، وكذلك وثيقة تصوّر لمرحلة انتقالية. وتمّ بجهدٍ كبيرٍ التوافق على أسماء من يحضر مؤتمر واسع لكلّ أطياف المعارضة لإقرار هذه الوثائق التفاوضية، ضمن خطّة كوفي عنان التي تضمّنت أيضاً لقاءً للدول المؤثّرة في الصراع السوري أنتَج في 30 حزيران/يونيو عام 2012 ما سمّي حينها وثيقة “جنيف 1”.
بعدها بأيّام، وتحديداً في بداية تموز/يوليو 2012، انعقد فعلاً مؤتمر المعارضة في القاهرة برعاية الجامعة العربيّة. وجرت مفاوضات لم أشارك شخصيّاً فيها بين “رموز المعارضة”، أدّت إلى التراجعٍ، تحت الضغوط، عن أمورٍ مهمّة في “وثيقة العهد الوطنيّ”، مثل حذف شعار “الدين لله والوطن للجميع”، المؤسّس تاريخياً لسوريا، وإخضاع المطالبة بالمساواة التامّة بين المرأة والرجل للأعراف والتقاليد، وغير ذلك. لكنّ همّي حينها اتجه نحو رأب الصدع بين الأحزاب الكرديّة السوريّة، وبينها وبين أطياف المعارضة الأخرى.
لقد حضر سفراء أجانب المؤتمر “كمراقبين”، لكنّ بعضهم أحضروا برفقتهم سوريين لم يكونوا ضمن التوافقات الصعبة. جال هؤلاء ضمن الاجتماعات يدفعون هذه الفكرة أو تلك. ولكنّ الأقسى كان بينهم اثنان افتعلا إشكالاً عربيّاً كرديّاً أثناء الاجتماع الكبير النهائي جعل الأستاذ نبيل العربي يدخل إليه غاضباً وينتزع الوثيقتين المعدّلتين ثمّ يخرج بهما على أنّهما تمثّلان توافق المعارضة المنشود.
كانت تلك آخر لحظات محاولة الخروج من الصراع السوري بتفاوضٍ سياسيّ. تطوّرت الأوضاع بعدها إلى حربٍ أهليّة، ولا سيما بعد اغتيال “خليّة الأزمة” في سوريا التي جرت معها بدايات تفاوضٍ، ومع دخول فصائل مسلّحة مجهّزة جيّداً “لتحرير” الشمال السوري. بالتوازي فقد كوفي عنان الأمل في حلٍّ تفاوضي وتخلّى عن منصبه في آب/أغسطس 2012 بعد محاولة إصدار قرار لمجلس الأمن تحت الفصل السابع، تبعه الأخضر الإبراهيمي الذي فهمَ أنّ الصراع في سوريا أضحى صراعاً بالوكالة بين دول.
مضى على كلّ هذا أكثر من عشر سنوات وأصبح تاريخاً. تاريخٌ يحمل شعوراً بالألم مصدره أنّه كان بالإمكان تجنّب الدمار والتقسيم الذي حصل في سوريا والتهجير والإفقار الذي جرى لشعبها. هذا مهما كانت النظرة إلى تصرّفات السلطة والمعارضة السياسيّة و”الثائرين” على الأرض والمتخوّفين من “ثورتهم” والقوى الخارجية.
وفي سياق ذلك التاريخ، لا بدّ من الإشادة بمواقف الأستاذ نبيل العربي والدور الذي لعبه. إذ أنّه لم يقبل برغم كلّ الضغوط العربيّة والدوليّة أن تشرعِن الجامعة العربيّة تدخّلاً أجنبيّاً في سوريا، كما فعلت بالنسبة لليبيا، ولا أن يُنزَعَ عن سوريا شرعيّتها كدولة مؤسسة للجامعة، وحاول جاهداً أن يعمل على مسارٍ تفاوضيّ برغم معرفته الدقيقة بمنطق جميع الأطراف وتصرّفاتها؛ الأطراف السوريّة والأطراف الخارجيّة. نبيل العربي كان يُدرِك كمصريّ أنّ سلامة سوريا مسألةٌ رئيسيّة لمصر والعرب. رحمة الله عليه.