ميادين في حياتي من القاهرة إلى بيونس إيرس

خلفت تجاربي مع الميادين أحاسيس وعلاقات تجمع بين الأبهة والفخامة والعظمة والزعامة والنظافة والقوة والوطنية والجيوش الجرارة والخطب الرنانة والفراغ المهيب والازدحام المخيف والتاريخ الذي لا يغيب والأضواء الكاشفة والفن الجميل.

كنت دون العاشرة عندما دخلت أول تجاربي مع الميادين وكانت مع ميدان عابدين وسط القاهرة. كنا نذهب إلى الميدان الذي يطل عليه المقر الرسمي لجلالة ملك مصر مرتين كل عام لننشد أناشيد الولاء للملك والوطن، مرة احتفالا بعيد ميلاد جلالته يوم 11 فبراير/شباط ومرة أخرى احتفالا بعيد الجلوس يوم 6 مايو/أيار. كنا آلاف التلاميذ صبيانا وبنات نصطف في منظر مبهر في ملابس رياضة ناصعة البياض نرسم بأجسادنا الصغيرة لوحات فنية وبأصواتنا “المسرسعة” نغني الأناشيد الحماسية.

***

كبرت على سن الأناشيد ولم تتوقف علاقتي بميدان عابدين. كان لا بد لنا، والدي وأنا المطبق على يده، أن نقطعه صباح كل يوم جمعة في طريقنا إلى قاهرة المعز لزيارة الأقارب ولصلاة الجمعة.

***

لم أشأ وأنا في الهند أن يفوتني الاحتفال بيوم الجمهورية، وهو اليوم الذي تحتفل فيه البلاد بذكرى تفعيل دستور الاستقلال. يجري الاحتفال في شارع بعرض ما تصورته دائما عرض أي ميدان، ولكنه في الطول اختلف فصار في واقع الأمر شارعا طويلا وعريضا. إنه ميدان أو شارع راجباث الموصل إلى أهم قصور الدولة حيث البرلمان وقصر الرئاسة وقصور الحكومة. أظن أنني لم أشاهد روعة في تناسق الألوان وبهجة الصور في الاحتفال بعيد وطني مثلما شاهدت في هذا الميدان في يوم 26 من يناير/كانون الثاني عام (1958). شاهدت جيشا عمره لا يزيد عن ثماني سنوات مزهوا بالمناسبة، ضباطه وجنوده يركبون الخيل والجمال في أناقة وجمال والناس على ناحيتي الميدان يهللون بأعلام دولتهم الجديدة وولايات الهند العديدة وقبائل وطوائف يصعب على وافد جديد أو قديم، أن يلم بعددها.

***

الميادين في روما رموز حية لدولة، بل ولأكثر وأكبر من دولة. أذكر أنني طلبت من نبيل العربي، صديقي وزميل دفعتي في وزارة الخارجية وقد كلف نفسه بمهمة مرافقتي في سلسلة رحلات سياحية نجوب فيها أرجاء العاصمة، طلبت منه أن نبدأ بالميدان الذي وقف يخطب من إحدى الشرف المطلة عليه بنيتو موسوليني الزعيم الفاشي خلال سنوات الثمانينيات والأربعينيات. يومها، وأقصد يوم السياحة في التاريخ مع نبيل، عرفت أن الميدان الذي أعنيه والمرسوم في مخيلتي اسمه ميدان فينيسيا، ولكن سرعان ما جرى تنبيهي إلى أن ميادين أخرى يعتز بها أهل روما، وإيطاليا بشكل عام، بأكثر من اعتزازهم بميدان فينيسيا، وهو الاعتزاز الذي تراجعت مرتبته مع هزيمة الفاشية وإن بقي فاعلا في نشاط حزب سياسي يمثل الفاشية. قيل وهو صحيح أن الفاشية بكل صورها “بسبع أرواح” وبالفعل عاد الحزب هذه الأيام بفاشية مجددة أو منقحة إلى الحكم بعد مرور حوالي ثمانين عاما على اندحار الفاشية في الحرب العالمية وعودة الديموقراطية النيابية وهيمنتها على الحياة السياسية.

***

عرفت أيضا أن الميدان الأهم في روما وربما من أكبرها اتساعا وقيمة هو ميدان القديس بطرس الذي يتوسط مدينة الفاتيكان. هنا من الميدان ووسط حشود الحجاج والسياح حضرت أكثر من مرة مناسبة إلقاء البابا لخطاب. رأيته يطل من شباكه الشهير وقد تدلت منه سجادة مباركة، ورأيت الحشود وهي تتفاعل بمشاعر جياشة مع هذه الإطلالة أو ذاك الخطاب. كثيرا ما خطرت على بالي وقتذاك فكرة البحث المعمق في أصل ونشأة “الميدان” ومكانته في علم هندسة المدن، وعلاقته بقضية الإيمان الديني والأيديولوجي وحاجة الناس للتعبير عن مشاعرها وقوة إيمانها، وفي الوقت نفسه حاجة الحكام والزعماء إلى حشد هذا التعبير بين الحين والآخر. لا فرق وجدت بين حاجة نظام ديموقراطي وحاجة نظام غير ديموقراطي، كلاهما لا يستغني عن الميدان.

***

الحديث عن الميادين والفاشية يجرنا إلى الأرجنتين حيث كان يوجد في زمني “أوسع شارع في العالم” وأحب امرأة حاكمة إلى قلبي. بالشارع أقصد طريق التاسع من يوليو نسبة إلى عيد الاستقلال المتقاطع مع شارع الأول من مايو عند المسلة الشهيرة. لا مبالغة أرجنتينية عند التفاخر بعرض شارع التاسع من يوليو فهو يتسع كما يقال لعشرين حارة. وبالمرأة أقصد فتاة الريف الطموحة التي نزلت ذات يوم من قطار في محطة الريتيرو التي سكنت في مواجهتها لثلاثة أعوام. وصلت الفتاة إيفا دوارتي من مدينتها الريفية لتبحث عن عمل كممثلة إذاعة، ومن خلال عملها وهي في أوائل العشرينات من عمرها تعرفت على الكولونيل خوان بيرون وكان وزيرا للعمل في حكومة عسكرية.

هاما ببعضهما هياما فاقت حكاياته الأسطورة. تزوجا وانطلقت بكل ما أوتيت من جاذبية وضعف وماض بائس لتكسب قلوب وعقول الطبقات الفقيرة والعاملة في كافة أنحاء الأرجنتين. حملتها الجماهير، وبخاصة جماهير النساء، إلى مرتبة القديسين بعد أن أسّست تقاليد اجتماعية ونقابية ما تزال بعد أكثر من سبعين سنة مرعية بالحب والكره معا. لم تحتل إيفا، أو إيفيتا كما أحب الفقراء تسميتها، منصبا وزاريا، ولكنها تدخلت بطموحها وذكائها وحب زوجها لها فأرست قواعد حكم وعدم استقرار ما تزال فاعلة.

إقرأ على موقع 180  إغتراب الإنسان عن ذاته: كيف جرّدتنا الرأسمالية من مشاعرنا الطبيعية؟

زرت الساحة التي تؤدي إلى البيت الوردي، مقر رئاسة الجمهورية، البيت الذي كانت تطل من إحدى شرفاته على الوفود والمتظاهرين لتخطب فيهم. كنت هناك بعد مرور سنوات على رحيلها المبكر بسبب السرطان. رحلت وهي في الثانية والثلاثين بعد زواج دام ست سنوات مخلفة أساطير وروايات منها رواية إختفاء جثمانها وإشاعة إلقائه في نهر لا بلاتا ولم يتحقق السلم الأهلي في الأرجنتين إلا بعد عقود عديدة عندما قام الجيش بإعادته.

***

الميادين عديدة بعدد المدن القديم منها والحديث. لكل ميدان حكاية يجب أن تُروى، وفي بلدي ميدان حكايته لم تروَ بعد بكامل تفاصيلها.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  مراجعات يناير: كيف هوى نظام مبارك؟