قولٌ في رجلٍ إشكالي: لبنان ما قبله.. لبنان ما بعده

بعضهم من دون أن يحدّد، تمثّل بقوّل بسمارك "الذهاب إلى حربٍ استباقيّة مخافة الموت في حربٍ مؤكدّة مثل استعجال الموت المتوقّع بالانتحار المؤكّد". وبعضهم رأى من دون أن يكتشف مقولة كونفوشيوس "العاشق الحكيم مثل الطبّاخ الماهر يعرف جيداً متى عليه أن يطفئ النار".

ليس سهلاً أنّ تُفرد مساحة لشخصٍ؛ ليس ابن زمانه تماماً، فالسجال حولهُ لن ينتهي في الراهن والمنظور على حدّ سواء. شكّل وجودهُ حالة استثنائيّة لم يعهدها الكثير من حولنا ومن خارج بلادنا، فهو أشبهُ بأولئك الذي نذروا حياتهم لأفكارٍ يعلمون جيداً أنّ تحقيقها مرهونٌ بزخمٍ كثيفٍ من الايمان، أكثر من كونها نتاج فرز تاريخي مرحلي ومستقبلي. والحقُّ أنّ الفرز هذا، ليس وليد التفكير الحادّ أو العبقريّة النابهة، بل إنّه نفسه مثل الايمان تماماً، يزيد وينقص. ومؤخّراً، يتناقص تارةً ويتكاثر أخرى.
لكنّ الأغرب ليس الجدل الذي خلنا أنّه لن ينتهي في حياة السيد حسن نصرالله، وإنّما ذلك الاستغراب من الوصول إليه وتحديد مكانه، بطريقة رأى الكلّ من دون استثناء بأنّها كانت محيّرة بنفس مقدار الحيرة في تحديد الموقف منها ومنه معاً. لكن وبرغم ذلك، سرعان ما تمّ البناء من قبل خصومه على رحيله بسرعة كبيرة، في حين بقي أنصارهُ في حالة التباس مطوّل.
يُدرك هؤلاء الأنصار أنّ حزب الله حاول أن يكون حزب مؤسسات لا يتضعضع باستشهاد رموزه، ولكن ومع الوقت استولت ملامح الفشل في تقييم ذلك الرهان أكثر من تحرّي علامات نجاحه، ليس لكون كوادر الحزب غير مؤهلة لذلك، وإنّما لأنّ الشخصيّة التي بنت الحزب بشكل فعلي، طاغيّة بفعل الكاريزما والنفوذ العاطفي على كل أركانه ومساراته، حتى ولو فوّضت نصف صلاحياتها في حياتها إلى نوّاب كُثّر وأشخاص متعدّدون من أجل خلق حدود عريضة أكثر متانة في تقوية الحزب وتعزيز امتداداته. وبقي الأمر ذاته دوماً: السيد هو الحزب والحزب هو السيد، كما يقول خصومه ومناصروه معاً.

***

في البناءات غير الهرميّة للسلطة، بمعنى التشكيلات السياسيّة القويّة على جانب الدولة، غالباً ما تستمدّ هذه المجموعات قوّتها من شخص قائدها، ونادراً ما يتّصف نائبٌ بنفوذ القائد، لأنّ الأنصار والمناوئين يقفون على الهيكل الأوّل الذي اكتسب بفضلهِ التشكيل اتّساقه وجزءاً من نفوذه ونفاذه وربما لاحقاً سيكون السبب في نفاده.
ثمة زعامة دينيّة ممزوجة بأخرى روحيّة وتعلّقٌ إيماني أو شغفٌ بشخصه، التحمت كل هذه العناصر وتوزّعت على سائر الايديولوجيّات التي وقفت معهُ، ولم يعد الشرط الديني والطائفي الوحيد الذي يستولي على تسبيب حالة التعلّق به، وفي الآن ذاته، الكراهيّة التي يكنّها البعض لهُ، بيد أنّها محفوفة بنوعٍ من التقدير المعاكس: العدوّ الذي يستحق أنّ ننفق جزءاً من العمر في كراهيته!
البعض يرى أنّ الحرب كانت قدراً مقدوراً في كل الحالات، فإن لم يذهب إليها الحزب جاءتهُ، فيما رأى البعض الآخر أنّ الحروب دوماً حالة احتمال مزمن، والحصيف من يتجنّب توفير سببٍ لها. الكلّ أدلى بدلوه في نقاش مستمر إلى الآن، شأنه شأن اللجاج حول ما انتهت إليه الحرب: منْ هزمَ منْ؟

الكل يهرق طاقته في تحديد الموقف من ماضٍ قال كلمته ومضى. ولن تنفع المواقف الاعتباريّة المضفورة على أعناق الكلمات في تغيير الحالة التي فرضتها النتيجة. ليس سهلاً أن تنجح الكلمات المفردة في تغيير قناعاتٍ عزّزتها مواقف متتالية ومتعاقبة، إنّها حالة عامّة من التركيب العاطفي يجمعُ في تكوينهِ تراثٌ شخصي وجماعي من الابتهال والخشية والحقد والحب والكراهية.. لن تفلحَ عبارات مكرّرة من الصعب أن تشحنها بجديدٍ في تغيير ما يحب هؤلاء ويكره أولئك.

***

في صيف العام 2006 كتبت مقالاً في “المجاهد” الجزائريّة كان الزمان أقلّ جنوحاً من الآن نوعاً ما، دعوتُ فيه على ضوء ما انتهى إليه عدوان تموز 2006 على لبنان إلى تجاوز ثنائيتيّ “الهزيمة vs الانتصار”، لأنّها حسب تصوّري، انتهت بانتهاء الحروب التقليديّة. ورأيت بضرورة استبدالها تبعاً لتغيّر شروط اللحظة ودخول الحروب الحداثيّة اللّاتماثليّة ضرورياً، واقترحتُ بديلاً عنها: “إفشال عدوان أو مخطط vs إنجاح مشروع أو خطة”.
في فترتها كان يبدو هذا الكلام مجرد تنظير، لكن لاحقاً (من 2007 وما تلاها) أصبحت هذه المصطلحات بوّابة للخلافات. ومع ظهور وسائط التواصل الاجتماعي، بات واضحاً أنّ الوصول إلى مرحلة التقاذف بالشرف والخيانة والطائفة يبدأ بـ”انتصرنا” في مقابل “بل انهزمتم” أو العكس. وللأسف وكما في كل مرة تشغلنا عوارض الأمور عن متونها، فنحن إن قلنا هذا أو قلنا ذلك أو حتى لو تحايلنا على الرأيين ببعض العبارات، لن يفيدنا ذلك في شيّء إلا إذا استعدنا أنفسنا بشكل واحدٍ، لأنّ المصير بات واحداً أكثر من أيّ وقتٍ مضى، وأجرينا نقاشاً صريحاً تجاوزنا فيه اصطلاحات الخيانة العريضة، واحترمنا على الأقل نوايا الأشخاص الذي دفعوا حياتهم مقابلها، وكانوا على الأقل في نظر البعض صادقين في ذلك بعكس مجتمع الزيف العمومي الذي نعيش فيه على النحويين طولاً وعرضاً.

إقرأ على موقع 180  الصين في الخليج.. شراكة شاملة مع العرب (2/1)

***

ختاماً؛ يبقى رحيل السيد حسن نصرالله واستشهادهُ حدثٌ كبيرٌ تنتظره الكثير من الأحداث، لن يكون صعباً ولا سهلاً ترقّب ما بعدها، فلبنان يعيش “المابعد” بنفس القوّة التي عاش فيها “الماقبل”، وبالتالي سيكون الأصعبُ في التوقّع هو نفسه الصعب الذي عاشهُ، والعويص الذي ينتظره نسخة بديلة عن ضنكٍ جرّبه.

Print Friendly, PDF & Email
ضيف حمزة ضيف

كاتب وصحافي جزائري

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  "يسرائيل هيوم": حزب الله يشن حرباً إقتصادية ضدنا في الشمال