غالباً ما يتمّ تشبيه قيادة الطائرات بقيادة الدول. بالنظر إلى نوع وخطورة بعض “الاضطرابات والمطبّات” التي تعترض مسارات رحلاتهما، وتتهدّدها. فما بالُنا، متى انطلقت صفّارات الإنذار في مطارات دولٍ تتآكل أنظمتها السياسيّة، تحت أعين الملائكة، ولا يتحلَّى مسؤولوها بأيّ حسٍّ بالمسؤوليّة، أو بأيّ جدارةٍ ومهاراتٍ للقيادة؟
“هذا ما نخشاه في الجوّ”، عنوان المقالة التي نشرها، قبل أربع سنوات، موقع uk.businessinsider، وفيها ينقل كلاماً عن قبطانٍ بريطاني. يحدِّد هذا القبطان ستّة أمورٍ، صنّفها بـ”الأكثر رعباً وأسوأ ما يمكن أن يحصل” معهم، كطيّارين، أثناء طيرانهم: الأمر الأوّل، فقدان الطائرة كامل طاقتها الكهربائيّة؛ الثاني، تلوّث قُمْرة القيادة بالأدخنة السامّة؛ الثالث، فقدان القبطان الوعي؛ الرابع، مرور الطائرة في السُحُب البركانيّة الرماديّة؛ الخامس، وجود قنبلة على متن الطائرة؛ أمّا الأمر السادس، فهو الاصطدام بطائرةٍ أخرى في الهواء (أو على مدرج الطيران). لكنّ كاتب المقالة، لم يسأل طيّارنا عن مصير الرحلة، متى كان الربّان مُستهتِراً أو فاشلاً أو أرعن؟ “نهاية مأساويّة للرحلة”، كان سيجيبه، حتماً.
أقلعت الدولة اللبنانيّة، بقيادة طاقمٍ من “نخبة” ربابنةٍ يتّصفون بكامل الأوصاف المُشينة. فلوَّثوا قُمْرتها بشتّى أنواع السموم. اخترقوا، وسْط الظلام الدامس، سُحُباً بركانيّة ملوَّنة بكافّة ألوان الطيْف. وبأعجوبةٍ نجَوْا، مرّةً ومرّات، من عناقيد القنابل (الموقوتة وغير الموقوتة) التي انفجرت باللبنانيّين أثناء الرحلات. لم تبقَ طائرةٌ، في الأعلى أو في الأسفل، إلاّ وتشظّت بعدما فَقَد هؤلاء الربابنة وعيهم، وقدرتهم في السيطرة على الطائرة. مزّق الصراخ الفضاء، فاتّسع المدى وسمع الربّ صياح الركّاب وهم ينادون: أين قائد الطائرة؟
أقرّوا (إنّما همساً) بأنّ حروب الإلغاء هي الحلّ. كيف لا، ولهذه الحروب، في بلاد الأرز، أربابها. ولكن، مَن يُلغي مَن؟ ومَن يُلغى أكثر من الآخر؟ ومَن يُلغى قبل الآخر؟ هنا بيت القصيد
الصمت في كلّ مكان. ولا يُسمَع غيرُ تلك الجَلَبة المنبعثة من بعيد، حيث يقبع بلدٌ صغير محجورٌ عليه. ما مصدر هذه الجَلَبة؟ جُلَّ ما نقلته الأوساط المطّلعة إلى بعض وسائل الإعلام، أنّ السياسيّين، وعلى اختلاف مشاربهم، اعتزلوا العمل السياسي بعدما ثبُتَ، بالوجه الشرعي، إفلاس لبنان. ففتحوا مزاداً علنيّاً، لبيْع وتصفية كلّ ما تبقّى من موجوداتٍ وكرامة. حينئذٍ، اندلعت المعارك الضارية بين السّاسة لتَحْصيص الغنيمة. وفعلوا ما تفعله الضِّباع (ليلاً)، عندما تتقاسم الجِيَف المسروقة من السِّباع، أو ما تبقّى من فضلات موائدها. فانقضّ الجميع على جيفة الدولة يتناتشونها. القضمات الكبرى تؤول، بديهيّاً، إلى مَن كانت مخالبه حادّةً وطويلة وصلبة أكثر. وبدؤوا يُسرِّعون بالإلتهام، قبل انتهاء وقت المزاد ويقهقهون. فالضِّباع تضحك؛ وهذا ما يميِّزها عن باقي الوحوش. ومن المعروف أنّها تُصدِر مجموعةً متنوِّعة من الأصوات. لكنّ ما تشتهر به، بالتحديد، هو هذا الصوت الشبيه بالضحك الهستيري الذي يسري لمسافة ثلاثة أميال (ويكون عادةً للتنبيه إلى مصادر الطعام). صار كلُّ ضبعٍ من ضِباعنا يُخَشْرِم وهو يأكل وينظر إلى الآخر. وكلُّ آخر يقضم ويتربّص (شرّاً) بالآخر. لا مجال أو إمكانيّة للتنازل عن أيّ فُتات. فكيف سيتنازلون، ونفوسهم محشوّة بهذا القدْر من الكره والبغض، تجاه بعضهم والجميع؟ وتستمرّ فعاليّات المأدبة بشراسةٍ موصوفة أفاضت معها كأس المكبوتات في الصدور. ولا سيّما، بعدما بدأ بعضُ الضِّباع يزايد بحقوقٍ حصْريّة ومَوروثة ومُكتسَبة و… أشياء من هذا القبيل. لم ينتهِ المزاد ولا المأدبة، إنّما اتّفقوا على ألاّ يتّفقوا. وأقرّوا (إنّما همساً) بأنّ حروب الإلغاء هي الحلّ. كيف لا، ولهذه الحروب، في بلاد الأرز، أربابها. ولكن، مَن يُلغي مَن؟ ومَن يُلغى أكثر من الآخر؟ ومَن يُلغى قبل الآخر؟ هنا بيت القصيد.
إنّها، في الواقع، شبكة “كلمات متقاطعة” يستحيل حلّها. فكلّ فريقٍ يعتقد بتساميه الخُلُقي تجاه الفريق الآخر، ومتأكّد أنّ لديه ما يميّزه للاستعلاء على الفريق الآخر، ولا يرى إمكانيّةً للنجاة إلاّ بسحْق الآخر. غير أنّ الجميع توافقوا (وعلناً)، على غسْل اليديْن من أيّ مسؤوليّة عن التسبّب بالإفلاس اللبناني المستدام (للأجيال القادمة).
يا وجعي علينا. مَن يحكم لبنان؟ هذه، أيضاً، شبكة “كلمات متقاطعة” ولكن من نوعٍ آخر.
بات لبنان، وبفضل ضِباعه الضاحكة، بلد الـ”كل مين إيدو إلو”. ربّما لا مرادف لغوياً ملائماً أكثر من هذه الجملة، لتوصيف “الفوضى الخلاّقة” التي يُحكَم بموجبها لبنان. كنّا نسمعها صغاراً في مسلسل “صحّ النوم”، أشهر المسلسلات الكوميديّة العربيّة التي عُرضت في سبعينيّات القرن الماضي. ففي هذه الحارة الشاميّة، التي سُمِّيت ووُصفت بذلك الوصف، كلُّ واحدٍ كان يفعل بها ما يحلو له، من دون حسيبٍ أو رقيب، ومن دون أن تتدخّل السلطة (المتمثّلة برئيس المخفر بدري أبو كلبشة)، إلاّ بعد أن يقع الفأس في الرأس. وبات الاستشهاد باسم تلك الحارة رائجاً. يتمّ إسقاطه على كلّ الظواهر والأوضاع التي يغيب فيها القانون، أو تُستضعَف فيها هيبة السلطة، أو يهتزّ فيه مفهوم الدولة.
عجباً حالكم يا أهل لبنان! عجباً منكم، أنتم الذين مشت الأرض معكم في ذاك اليوم التشريني، كيف لا تخرجون، جميعاً، شموساً مشرقة في الساحات
في حارة “كل مين إيدو إلو” اللبنانيّة، ليس هناك من “بدري أبو كلبشة”. بمعنى آخر، لا يعرف أهلُ لبنان، مَن يرأس “مخفر حارتهم”. وبمعنى أوضح، لا يعرف اللبنانيّون، أسماء المقيمين على ضفّة السلطة الفعليّة في بلدهم. وبمعنى أدقّ، لا تعرف الجماعاتُ اللبنانيّة، أيَّ “بدري” هو القوي، وأيَّ “بدري” هو الأقوى. في الحقيقة، حيّر لبنان قلوب قواميس “علم السياسة”، كي تُوجِد له توصيفاً لشكل الحُكم الذي يعيش، بظلّه، مواطنوه. أي:
هل إنّ نظامهم برلماني؟ جمهوري؟ رئاسي؟ علماني؟ ديني؟ مذهبي؟ عشائري؟ قَبَلي؟ كوكتيل “مشكَّل”؟ ما هو بالضبط؟ السؤال صعب. إذاً، فلنسألْ غيره. كيف يعيش اللبنانيّون اليوم؟ هل يعيشون نهايةَ عهد؟ أو مرحلةً فاصلة بين عهدٍ ونصفِ عهد؟ عهد توافقات؟ عهد تسويات؟ عهد مساومات؟ عهد استعادة الصلاحيّات؟ هل هو عهد ظلّ؟ أم فراغٌ رئاسي مستمرّ؟ هل هو بروڤا للعهد المقبل؟ أم خاتمة العهود؟ أيضاً، السؤال صعب. فلنسألْ غيره، وهذه المرّة هناك جائزة كبرى، لمَن يستطيع التكهّن بتركيبة الحكومة الحاليّة:
أهي حكومة متجانسة؟ حكومة بلونٍ واحد؟ أم أكثر من لون؟ أهي حكومة ظلّ؟ مُطعَّمة؟ حكومة بديلة عن الأصيلة؟ سياسيّة؟ شبه سياسيّة؟ تكنوقراطيّة؟ شبه تكنوقراطيّة؟ إصلاحيّة؟ إنقاذيّة؟ هل هي “لويا جيرغا” على الطريقة اللبنانيّة؟ لا جواب أيضاً. لأنّ مَن كان لنظامه ولعهده ولحكومته، كلّ هذه الأشكال المتعدّدة، فهذا يعني أنّها بلا شكلٍ على الإطلاق! وهذا يعني، كذلك، أنّ هكذا أسئلة تُعتَبَر تعجيزيّة في دولة لبنان الكبير. ومَن يطلب أجوبةً عليها، كمَن يطلب من الضبع (من الصنف اللبناني أو غيره) أن يدرِّب فَرْغَله على الطيران!
بطبيعة الحال، لا يملك أحدٌ في لبنان قياساً لمعرفة اتجاه الرأي العامّ. لكنّ أهل البلد يستشعرون (بفطرتهم)، أنّ “الهوّيات السياسيّة” للمتحكِّمين بمصائرهم تُفبرَك في مكانٍ ما، ومن أجل غاياتٍ لا يفقهون معظمها. فضحالة المسؤولين، تُفصِح، فوراً، عن هوّية “مشغِّليهم” (خلف الحدود البريّة والبحريّة). ولا سيّما، حين تكشف “المواقف المعلنة” (للبعض) أخطاءً في فكّ رموز الإملاءات المكتوبة لهم بالحبر السرّي. يا حسرتي عليهم.
لم يحصل مرّة في تاريخ لبنان، أنْ كانت قاعدة ارتكاز نظامه بمثل هذا الضيق. لم يحصل مرّة في تاريخ لبنان، أنْ وُجِد البلد في لحظة انقطاعٍ حادّ عن العالم، كتلك التي يمرّ بها راهناً. لم يحصل مرّة في تاريخ لبنان، أنْ كانت سلطته معزولةً ومنزوعة الصدقيّة وسفيهة إلى هذا الحدّ. لم يحصل مرّة في تاريخ بلدٍ من البلدان، المختلفة والمتخلِّفة، أنْ هُجِيَت وهُزِّئت سلطته أو شُتِم وأُهين مسؤولوه، كما حصل (ويحصل) في لبنان! حتى حكّام جمهوريات الموز، لا يرتضون لحالهم، ما ارتضاه نظراؤهم اللبنانيّون لأنفسهم. أيُعقَل هذا الرضى اللامتناهي لحكّامنا بالذِلَّة؟ كأنّ شيئاً (من كلّ تشكيلة الـ”لم يحصل” هذه) لم يحصل على الإطلاق.
ولكن، هل اشتعلت الثورة ضدّهم؟ كلا.
عجباً حالكم يا أهل لبنان! عجباً منكم، أنتم الذين مشت الأرض معكم في ذاك اليوم التشريني، كيف لا تخرجون، جميعاً، شموساً مشرقة في الساحات؟ لم يَعُد ممكناً إنقاذ أيّ شيء، من دونكم. ها قد وصلنا إلى النهاية، بعدما طغى التخفُّف على أوجه حياتنا كلّها. بقينا عمراً، بأكمله، نتبع الطُرق التي حفرها لنا حفّارو قبورنا. لكنّنا، ما عدنا نتحمّل. ما عاد لبنان المنكوب يتحمّل. آن الأوان، لنقتلع كلّ “ما” و”مَن” يذكّرنا بحياتنا التي ستصبح، بعد حين، “حياتنا السابقة”. منذ مُدّة، رأيتُ مناماً: رأيتُ فيه العديد من الذين أحببتُهم يموتون على تخوم قلبي. وكنتُ أرفض أن أصدِّق. فأُغلق عينيْ كأيّة بومة يؤلمها التحديق بالشمس. وعندما فتحتُهما، شاهدتُ جميع حكّام لبنان يتساقطون من طائرة عمري. الواحد تلو الآخر. واستمرّيتُ أحلِّق فرِحةً بسقوطهم. لكنّني فجأةً استيقظتُ والخوف يتملَّكني، من أن تتحطّم الطائرة بنا. إقتضى إسقاطهم، قبل سقوط الطائرة.