هَل كَانَ بالإِمكان.. تجنُّبُ الحَربِ على لُبنان؟

يكثرُ في هذه المرحلةِ الحديثُ عن أنّ "حزب الله" قد "ورّط" لبنان في هذه الحرب المفتوحة مع العدوّ الإسرائيلي، لا سيّما من خلال اتّخاذ قرار مساندة غزّة يوم ٨ تشرين الأوّل/أكتوبر ٢٠٢٣.. أي غداة عمليّة "طوفان الأقصى". ومنهم من يذهب، بشكل أقلّ حِدّيّة وعِدائيّة إن شئت، أقلّه في الظّاهر، إلى الادّعاء باختصار: بأنّه كان بالإمكان، عند انطلاق "الطّوفان"، تجنّب الحربِ وما كَان!

هل تَصُحّ هذه الفرضيّة؟ لا أعتقد بذلك أبداً، بل أرى أنّ لدى بعضنا جهلاً مُبيناً بالطّبيعة العدوانيّة لهذا الكيان الغاصب من جهة، و/أو جهلاً حقيقيّاً بالعقل الاستراتيجيّ والعقائديّ لهذه المقاومة اللّبنانيّة بالذّات من جهة ثانية.

بناءً على ذلك، لماذا أعتقدُ إذن ببُطلان.. قولِ البعضِ إنّه كان يُمكن تجنّبُ ما حَصَل وكَان؟

لأسباب متعدّدة أهمّها، في اعتقادي:

أوّلاً؛ DNA “حزب الله” على المستوى العقائديّ المُقاوم:

هل من العقلانيّ الاعتقاد بأنّ تنظيماً طويلاً عريضاً، يبني عقيدَتَه منذ ما يقارب الـ٤٠ سنة، على مواجهة ومقاومة العدوّ الإسرائيليّ بكلّ الوسائل المُتاحة، وعلى دعم القضيّة الفلسطينيّة، وعلى الدّفاع عن حقوق الشّعب الفلسطينيّ لا سيّما عن حقّه الطّبيعيّ في مُمارسة المقاومة العسكريّة المنظّمة وغير المنظّمة..

هل يُمكن لتنظيم كهذا، مهما كان رأيُهُ الحقيقيّ في توقيتِ وحجمِ عمليّة “الطّوفان” التي حصلت السّنة الماضية، أن يتّخذ موقفاً لا يقوم بشكل أساسيّ على النُّصرة الواضحة والبيّنة للمقاومة ولشعبها المظلوم في غزّة؟

هل يُنظَّر ٢٠ أو ٤٠ عاماً لدعم المقاومة الفلسطينيّة بكلّ الوسائل الأمنيّة والعسكريّة وغيرها، ثمّ لنوعٍ من وحدة السّاحات المُقاوِمة مؤخَّراً، ثمّ.. يكون القرار، في ٨ تشرين الأوّل/أكتوبر من عام ٢٠٢٣، هو موقف يقترب – لا سمح الله – من التخلّي أو من الهروب أو من التّخاذل (إلى ما هنالك من تسميات، حسب وجهة النّظر هذه أيضاً)؟

للإنصاف، لقد حاولَتْ قيادة المقاومة اللّبنانيّة طوال عامٍ تقريباً، وبكلّ الوسائل، تجنيب لبنان حربٍ من النّوع المُوسّع أو المَفتوح كالتي نعيشُها اليَوم. وربّما لم تنجحْ في ذلك في نهاية المطاف، حتّى وصلت بها الأمور إلى بَذل أغلى التّضحيات وأسماها، وعلى رأسها استشهاد عدد كبير من المدنيّين، إلى جانب استشهاد قائدها ورمزها وسيّد شهدائها.. أي سماحة السّيّد “الحَيّ” حسن نصرالله.

هل كان يُمكن لهذه المُقاومة، بما هِيَ هِي، وكما هِي، ألّا تكونَ في موقع الاسناد لغزّة في أقلّ تقدير؟

أكادُ أَقطَعُ باستحالة ذلك، بناء على ما سبق شرحه عموماً: لا يُمكن لمقاومة كهذه، عند اتّخاذ خُطوة “جهاديّة” فلسطينيّة كُبرى بهذا الحجم.. ألّا تكون، في أقلّ تقدير، ضمن المعركة وبشكل مباشر وبَيِّن لا لبسَ فيه ولا شكّ ولا مجال لِتَشكيك.

مهما أغضَبَنا ذلك أو أزعَجَنا.. فهذا هو الواقع من هذه الزّاوية تحديداً. أمّا مناقشة “طبيعة” هذه المقاومة ذاتها، فليس هذا موضوع الحديث هنا: لأنّنا أمام مُقاربةٍ للواقع، لا أمام مُقاربةٍ لتمنّياتنا ولحواراتنا الأيديولوجيّة القديمة والحديثة.

إنّ الحدّ الأدنى من الأمانة الفكريّة يُبيّن لنا بوضوح كبير نسبيّاً أنّ كلّ يوم بعد “طوفان الأقصى”.. كانت المقاومة اللّبنانيّة تقترب، أكثر فأكثر، من لحظةٍ تعرفُها جيّداً، وهي لحظةُ التّخييرِ ما “بَين السِلَّةِ والذِّلَّة”… وهل في DNA القوم هؤلاء إلّا جواب: أَلا “هيهات.. هيهات منّا الذّلّة”

ثانياً؛ حتميّة الحرب الإسرائيليّة على لبنان.. بمعزل عن “الطّوفان”:

بعدَ ما تبيَّن من خلال مجزرة “البايجر” وأجهزة الاتّصال اللّاسلكيّ، وبعدَ ما تبيّن في ما يعني تجهيز العدوّ لنفسه، لتنفيذ ضربةٍ واسعةٍ وقويّة، بل ومُباغتة، للمقاومة اللّبنانيّة وللبَلد.. هل يُمكن أن نشكّ، بعدَ ذلك كلّه، في حقيقة أنّ الحرب الواسعة على لبنان كانت مسألة وقت وتوقيت؟

أعتقد اليوم، بصراحة، أنّه يمكننا القيام بهذا الادّعاء نفسه.. ولو بمعزل عن حرب “طوفان الأقصى” وفتح جبهة الاسناد من جنوب لبنان من أساسهما!

في سبيل اختصار هذه النّقطة التي أصبحت واضحةً اليوم باعتقادي، فلنتوقّف عند زاويَتَين أساسيَّتَين لها:

  • من جهة، يبدو أنّ قيادة المقاومة في لبنان كانت مقتنعةً بأنّ العدوّ يضعها ويضع لبنان كهدفٍ تالٍ.. بعد الانتهاء من غزّة، أو أقلّه بعد الوصول إلى حائط مسدود في غزّة (وهذا ما حصل عمليّاً. أليس كذلك؟)؛
  • لكن، ومن جهة ثانية، فمن الواضح أيضاً أنّ العدوّ كان أصلاً يُحضّر نفسَه لحرب مُباغتة وواسعة على المقاومة وعلى لبنان.. بمعزل عن قضيّة اسناد “طوفان الأقصى” من أساسها إذن.

مُجدّداً: بعد كلّ الذي حصل، هل يُمكن بعدُ التّشكيك جدّيّاً في هاتَين الزّاويَتَين.. والإصرار على فرضيّة أنّه كان بالإمكان غيرُ ما كان.. في ما يخصّ الحربَ على لبنان؟

ثالثاً؛ البُعد التّاريخيّ والمذهبيّ في الحُسبان:

إنّها نقطة قد تكون أشدّ حساسيّة واقعاً من أغلب النّقاط الأخرى المذكورة وغير المذكورة.

لا يُمكن للمُطّلِع على الحدّ الأدنى من التّاريخ المشرقيّ والعربيّ والاسلاميّ.. أن يتغاضى عنها أو يُقلّل من أهمّيّتها، خصوصاً إذا ما تذكّرنا المجازر وحملات التّخوين والتّكفير الكُبرى التي حصلت مع عدد من الجماعات الشّيعيّة عبر التّاريخ، بحجّة “التّخاذل” في نصرة قضيّة أو معركة اسلاميّة أساسيّة مُعيّنة.

إقرأ على موقع 180  أوميكرون إنتشار أسرع.. مخاوف أقل ولكن

دون الدّخول في التّفاصيل والتّعقيدات، يمكن ذكر مِثالَين معروفَين جدّاً: مثال الاحتلال الصّليبيّ لبعض الأجزاء من المشرق؛ ومثال الغزو المغوليّ لعاصمة عربيّة-اسلاميّة كبغداد. كم من وقائع التّشكيك والتّخوين، بل والتّكفير والافتاء بالذّبح والقتل لم تزلْ موجودةً في كتب بعض المدارس الإسلاميّة، بخصوص شيعة أهل البيت، بسبب هذه الحوادث التّاريخيّة (المبنيّة على الظّلم والبهتان، وعلى الإثم والعدوان، في أعمّها الأغلب طبعاً)؟

باختصار، ركّزوا معي على المشهد الممتد من يوم ٧ تشرين الأول/أكتوبر٢٠٢٣ وحتى لحظة إستشهاد زعيم حركة “حماس” الشهيد يحيى السنوار يوم الخميس الماضي:

  • خطوة “جهاديّة” كبرى يقوم بها الجناح العسكريّ المقاوم لحركة “حماس”، وهي فصيل فلسطينيّ مقاوم يُشكلّ جزءاً مُهمّاً ورمزيّاً من محور المقاومة.. وتنطلق من خلفيّة حركيّة إسلاميّة ضمن ثقافة تقوم مذهبيّاً وفقهيّاً، على مذاهب أهل السُّنّة والجَماعة؛
  • يُصرّح قادة “كتائب القسّام”، ويبعثون برسائل تُعلن أنّ هناك معركة تحريريّة كُبرى قد بدأت للتّوّ؛
  • يدعون بقيّة فصائل وجهات محور المقاومة، و”أحرار الأمّة”، إلى الانضمام إلى هذه المعركة التّحريريّة الكُبرى كما وصفوها؛
  • ثمّ، بعد ذلك وبالإضافة إليه، يبدأ العدوّ الإسرائيليّ بارتكاب مجازر إبادة جماعيّة كُبرى ضدّ الشّعب الفلسطينيّ في غزّة، هذا الشّعب الذي يظهر أنّه ما من ناصرٍ ينصُرُه أو يقف إلى جانِبِه.. وتظهر المقاومة الفلسطينيّة في مظهر المُستَفرَد به من كلّ الجهات.

دون ضرورة للإطالة وللتّفصيل، ركّزوا معي جيّداً وبموضوعية على المشهد، خصوصاً من زاوية القادة المعنيّين في لبنان وفي أغلب “المحور”:

هل يُمكن لقيادة كقيادة “المقاومة الإسلاميّة في لبنان”، ضمن إطار كلّ ما سبق.. أن تتحمَّل، ولو لِلَحظة.. امكانيّة أن تحمِلَ وزرَ قولِ أجيالٍ مُسلمة لاحِقة: إنّها، كمُكوّن “شيعيّ” في المعركة إذن، “لم تَكُن حيث يَجب أن تَكون” ضمن هذه الأخيرة؟

للأسف ربّما.. قد تكون الحرب على لبنان قد غدت حتميّة، وعلى المدى المنظور يومَها، منذ صباحيّة ٧ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢٣. ربّما كان أغلَبُنا بعيداً عن الحقيقة.. أو مُكابراً بشكل واعٍ أو لا-واعٍ.

***

لذلك، انطلاقاً من كلّ ما سبق من نقاط أساسيّة، فإنّ الحدّ الأدنى من الأمانة الفكريّة يُبيّن لنا بوضوح كبير نسبيّاً أنّ كلّ يوم بعد “طوفان الأقصى”.. كانت المقاومة اللّبنانيّة تقترب، أكثر فأكثر، من لحظةٍ تعرفُها جيّداً، وهي لحظةُ التّخييرِ ما “بَين السِلَّةِ والذِّلَّة”.

وهل في DNA القوم هؤلاء إلّا جواب: أَلا “هيهات.. هيهات منّا الذّلّة”.

فلننتبهْ جيّداً إلى معاني المرحلة الرّاهنة هذه بشكل عامّ، وإلى معاني ما سينتج عنها حول مستقبل البلد ومستقبل المنطقة.. ولنَتَنَبّه أيضاً إلى المعاني الحقيقيّة، من وجهة نظر هؤلاء القوم تحديداً، لما يدورُ اليوم في ميادين القتال والوَغى.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  يا بت يا ربى.. هتكتبي ايه؟