“استراتيجية الأخطبوط”.. خطة إسرائيل لتغيير النظام الإيراني!

إنها لحظة استثئنائية في تاريخ إيران الحديث. أحداث، بكثافتها، هي الأقسى في العقود الخمسة التي حكم فيها نظام الجمهورية الإسلامية. المشهد الأقرب إلى ما يجري اليوم، هو غزو عراق صدام حسين لإيران عام 1980. حينها، في العام الأول بعد الثورة، كانت الدولة الثورية شابّة وفي قمة ألقها المعنويّ، وقادرة على تعبئة مئات الآلاف لمواجهة العدوّ الخارجي.

اليوم، وبعيدًا من تحليل نقاط القوة والضعف الإيرانية، ثمّة سؤال تستدعيه وتيرة الضربة الإسرائيلية بطبقاتها المتعدّدة: هل هذه حملة عسكرية لفرض وقائع سياسية مرتبطة بالملف النوويّ، أم أنّها حرب لتغيير النظام؟ وماذا إن تطوّرت درجة الاغتيالات نحو رأس النظام؟

يبدو جلياً أن خطة الإغراق التي تعرضت لها إيران، من خلال استهداف درعها الدفاعي ضد الطيران والصواريخ، ونخبة قادتها العسكريين، وأهم علمائها النوويين، عبر أدوات مختلفة، من داخل البلاد وخارجها، تهدف إلى تقطيع أوصال القيادة والسيطرة من جهة، وإزالة عوائق الاستهداف، ومحاولة وأد إمكانية ذهاب إيران نحو خيار صناعة القنبلة النووية بسرعة.

في الشكل، يبدو الهجوم الإسرائيليّ دمجاً بين حرب العراق 2003، وحرب إسرائيل على حزب الله 2024، وسقوط نظام بشار الأسد 2024. ورغم أن إسرائيل وأميركا لا تعلنان صراحة أن هدفهما هو إسقاط النظام، إلا أنّ كل المؤشرات تدل على أم ما يحدث يهدف إلى أمر من اثنين: إما فرض تسوية بالقوة تنهي البرنامج النووي الإيراني وتترك النظام ليتآكل من الداخل، أو مواجهة كبرى تسعى إسرائيل ومن خلفها أميركا لأن تكون نهائيّة وتؤدي إلى إسقاط النظام.

ولا يمكن فصل ما حدث عن السياق التراكميّ للأشهر التسعة الماضية، منذ لحظة عملية “البيجرز” أو “أجهزة النداء” في لبنان ضد حزب الله، ثم الوزن النوعي الذي استهدف القدرة الصاروخية، وبعدها اغتيال الأمين العام السابق السيد حسن نصرالله. تسعة أشهر كانت كافية لتصل إسرائيل إلى الخطوة الأخيرة التي كان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ينظّر لها منذ سنوات:  ضرب رأس الأخطبوط الإيراني.

دخلت الاستراتيجية الإسرائيلية مرحلتها الحاسمة: ضرب الرأس نفسه. فبعد أن تم إنهاك الأذرع أو تحييدها، اتجهت الضربات مباشرة نحو العمق الإيراني، نحو المنشآت، والقيادات، والبنية التحتية الحيوية

رأس الأخطبوط

وما تشهده إيران اليوم ليس مجرد تصعيد كبير، بل يمثل تجسيداً عملياً لاستراتيجية إسرائيلية وُضعت منذ سنوات وتُعرف بـ”استراتيجية الأخطبوط”. تقوم هذه العقيدة على تصوّرٍ مفاده أن إيران ليست مجرد دولة ذات نفوذ إقليمي، بل “أخطبوط” له رأس في طهران وأذرع تمتد عبر لبنان، سوريا، العراق، اليمن، وغزة. هذه الأذرع، من وجهة النظر الإسرائيلية، تشكل تهديداً مباشراً ومتعدد الجبهات يجب التصدي له ضمن منهج شامل وليس عبر ردود موضعية.

ولعل ما يمنح هذه الاستراتيجية طابعًا رسميًا معلنًا هو أن نتنياهو كرّر وصف إيران في خطاباته العلنية بـ”رأس الأخطبوط”، معتبراً أن “حزب الله” و”حماس” و”الحوثيين” ليسوا سوى أذرع لإيران. وخلال الأشهر الماضية، عاد نتنياهو لاستخدام هذا التشبيه في ستّ مناسبات رسميّة موثقة، من أبرزها:

  • تشرين الثاني/نوفمبر 2024: “أولاً، الرأس… رأس الأخطبوط – إيران. لقد دمّرنا أجزاء رئيسية من منظومة دفاعها الجوي ووجّهنا ضربة قوية لبرنامجها النووي”.
  • 27 تشرين الأول/أكتوبر 2024، بعد عملية واسعة: “لقد ضربنا رأس الأخطبوط… النظام الإيراني نفسه.”
  • وفي بيان للكنيست في الفترة نفسها، قال: “نحن نقطع أطراف الأخطبوط الإرهابي، ونضرب الرأس”.
  • وخلال صيف 2025، وبعد ضربات شملت أهدافًا في اليمن وسوريا وداخل إيران، كرر التحذير: “هذه رسالة موجهة إلى رأس الأخطبوط الإيراني: أنتم المسؤولون المباشرون”.

هذا التكرار المتعمد للمجاز ليس مجرّد أداة بلاغية، بل هو أداة هندسة سرديّة تضع إيران في قلب معادلة التهديد، وتمنح إسرائيل، في الخطاب السياسي والإعلامي، غطاءً لشرعنة الانتقال من ضرب “الوكلاء” إلى استهداف المركز مباشرة. إن هذا التصوّر، الذي بات يُترجم اليوم على الأرض في إيران، يعكس نقلة نوعية في عقيدة المواجهة الإسرائيلية، حيث لم يعد الردع كافياً، بل بات الهدف هو شلّ القدرة على بناء التهديد من جذوره.

ضرب الأذرع

في المرحلة الأولى، ركزت إسرائيل على ضرب الأذرع:

  • استنزاف حزب الله في لبنان عبر هجمات دقيقة وممنهجة.
  • تصفية حضور إيران في سوريا عبر آلاف الغارات الجوية.
  • تفكيك الفصائل العراقية عبر الاغتيالات والحصار السياسي.
  • الحرب على حماس عسكرياً وسياسياً بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر.

لكن الجديد الآن هو أن الاستراتيجية الإسرائيلية دخلت مرحلتها الحاسمة: ضرب الرأس نفسه. فبعد أن تم إنهاك الأذرع أو تحييدها، اتجهت الضربات مباشرة نحو العمق الإيراني، نحو المنشآت، والقيادات، والبنية التحتية الحيوية.

الضربات الإسرائيلية الأخيرة على الأراضي الإيرانية، والتي شملت اغتيالات لقيادات في الحرس الثوري وتدمير أنظمة دفاع جوي ومنشآت نووية، تمثل تحولاً نوعياً وخطيراً: إسرائيل لم تعد تحارب “التهديدات الخارجية لإيران”، بل أصبحت تتعامل مع إيران نفسها كساحة قتال مباشرة، وتستخدم فيها أدوات جوية واستخباراتية فائقة الدقة، بتنسيق ظاهر أو مستتر مع شركاء إقليميين ودوليين.

بهذا المعنى، فإن استراتيجية “ضرب الأخطبوط” لم تعد مجرّد نظريّة أمنيّة، بل أصبحت واقعاً متسارعاً يغيّر قواعد الاشتباك الإقليميّ والتوازنات. لم يعد السؤال الموضوعيّ: “هل سترد إيران؟”، بل: هل لدى بنية الردع الإيرانية ما يسمح لها بالرد بشكل يعيد تثبيت المعادلة؟

إقرأ على موقع 180  مُسيّرات إيران تقتحم مجلس الأمن.. والأهداف ليست أوكرانية!

ديبلوماسية البارود

وقد عادت إلى الواجهة مسألة استهداف إيران عسكرياً، بالتوازي مع تحديد موعد جديد لجولة مفاوضات مع الولايات المتحدة بشأن البرنامج النووي. ثم جاء التصويت في مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإدانة إيران، مما فتح الباب أمام خيار إعادة فرض العقوبات، ولعلّه كان أقصى ما في بال الإيرانيّين، بالتوازي مع قرار أميركي بإخلاء طوعيّ لعائلات الموظفين في المنطقة.

الجمهورية الإسلامية، رغم الجراح، تاريخيًا تتقن العمل من العدم، وسبق أن فاجأت خصومها بقدرتها على قلب الطاولة، ولا سيما حين تجد نفسها في الزاوية. قد تكون اللحظة الحالية لحظة انكسار، لكنها قد تتحوّل – في نظر النظام الإيراني – إلى فرصة لإعادة بناء السرديّة، واستعادة زمام المبادرة بطرق غير متوقعة، والتاريخ في هذه المنطقة، دائمًا ما يترك مساحة للمفاجآت

إيران قرأت التصعيد على أنّه تهويل تفاوضيّ. لكن، بالتوازي، كانت هناك تقارير عن عملية إيرانية خاصة نجحت في الحصول على وثائق نووية إسرائيلية.

 ترافقت هذه التقارير مع تصريحات من المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل غروسي لصحيفة إسرائيلية، قال فيها “إنّ الإيرانيين أبلغوه بأنهم إذا تعرضوا لهجوم على منشآتهم النووية فسيسعون إلى تصنيع سلاح نووي”.

وأضاف: “البرنامج النووي الإيراني يعمل على نطاق واسع وبتعقيد كبير. العديد من هذه المنشآت محصّنة بشكل كبير، ولإلحاق الضرر بها يتطلب الأمر قوة تدميرية هائلة. لكن قد تكون لهذا الفعل عواقب أخرى؛ منها أن تسعى إيران إلى امتلاك سلاح نووي أو أن تنسحب من معاهدة عدم الانتشار”.

يوم الضربة

العملية الجارية ضد إيران ليست مجرد حملة عسكرية، بل هجوم منظم يشبه “عملية إزالة منظومة ردع”. تشمل الضربات:

  • اغتيالات نوعية لقادة في الحرس الثوري وعلماء نوويين.
  • تدمير متسلسل لأنظمة الدفاع الجوي (S-300، صياد، باور).
  • غارات جوية وصواريخ من غواصات استهدفت نطنز، تبريز، كرمانشاه، إيلام، شيراز.
  • شلل شبه تام في القيادة الإيرانية.
  • تدمير مخازن أسلحة ثقيلة وطائرات دون طيار.

الهدف يبدو أنه ليس فقط تقليم أظافر إيران، بل فرض “شروط ترامب” بالقوة أو دفع إيران للانهيار من الداخل. ومع أن الردّ الإيراني لا يزال احتمالًا مطروحاً، فإنّ طهران تبدو حتى اللحظة مكبّلة بسبب الضربات المركزة التي طالت بنيتها القيادية والعسكرية.

ماذا بعد الضربة؟

السؤال الأخطر لا يتعلّق فقط بمصير الجمهورية الإسلامية، بل بمستقبل الإقليم برمّته: ماذا لو نجحت هذه الحملة في ضرب الرأس الإيراني؟ من يملأ الفراغ؟

الجواب ليس بسيطًا. فإيران، على مدى أكثر من عقدين، لم تكن مجرّد دولة، بل كانت نظام تموضعٍ إقليمي، يمتد في الجغرافيا والسياسة والعقيدة. وإذا تمّ إسقاط هذا النظام أو تعطيله، فإنّ المنطقة كلها قد تواجه مرحلة إعادة تشكيل دون قواعد مسبقة، تُفتح فيها أبواب التسابق النوويّ، أو يعود فيها مشهد الجماعات العابرة للحدود، كما حصل بعد إسقاط نظام صدام حسين.

وفوق كل ذلك، لا ينبغي استبعاد إيران أوراقًا غير مكشوفة. فالجمهورية الإسلامية، رغم الجراح، تاريخيًا تتقن العمل من العدم، وسبق أن فاجأت خصومها بقدرتها على قلب الطاولة، ولا سيما حين تجد نفسها في الزاوية. قد تكون اللحظة الحالية لحظة انكسار، لكنها قد تتحوّل – في نظر النظام الإيراني – إلى فرصة لإعادة بناء السرديّة، واستعادة زمام المبادرة بطرق غير متوقعة، والتاريخ في هذه المنطقة، دائمًا ما يترك مساحة للمفاجآت.

(*) المصدر: “الجادة

Print Friendly, PDF & Email
علي هاشم

صحافي وكاتب لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الكورونا في حيّ دمشقي.. مصدرها اسبانيا