جلسنا أيامًا أمام الشاشة نتابع مسارَ السفينة مادلين وعلى مَتنها اثني عشر شخصًا. رأينا رجالًا ونساءً، متفاوتي الأعمار، مُختلفي الجنسيات، تجمع بينهم صفاتُ الشجاعةِ والجَّرأةِ والاتساق مع الذات، وتحركهم قبل هذا وذاك ضمائرٌ يقظة؛ أبَت التواطؤَ على جرائم الاحتلال في غزة وسائر الأرض الفلسطينية؛ ولو بالصَّمت. لم تتمكَّن السفينةُ من الوُصول بأمان إلى مَرساها. هاجمتها قواتُ الاحتلال ومنعتها استكمال طريقها، ثم اعتقلت ركابها.
لا مفاجأة فيما جرى؛ فالحال أن حكوماتِ الدول الكبرى التي تقف في الظاهرِ ضدَّ حربِ الإبادة؛ لم تزل تقدِّم خطوةً وتؤخر الثانية باتجاه الإجراءات العملية التي من شأنها كفّ المَقتلة. الحالُ أيضًا أننا صرنا مواتًا؛ لا نغضب لإهانة ولا نبادر بفعل من أفعال الكرامة؛ ولإن رَست السفينةُ بعيدًا عن مُبتغاها، فقد انحرف بنا السبيلُ عن مقصده أميالًا.
***
المَرسى اسمُ مكان من الفعل رَسا وهو المَوضِع الذي تستقر فيه السفن والبواخر على السَّاحل. الفاعلُ راسٍ والمفعول به مَرسُوٌّ عليه، أما المصدر فرسوٌّ بتشديد الواو وضمّها، وعلى الخارطة عددٌ من المحافظات والمناطق التي تحمل هذا اللقب؛ بدءًا من مَرسى علم ووصولًا لمَرسى مَطروح؛ تلك المنطقة السَّاحرة التي تتعرَّض اليوم لاقتطاع مساحات كبيرة من شواطئها وأراضيها.
***

على خلفية الأحداث المُتعاقبة؛ تداول بعضُ المَعارِف والأصدقاء سؤالًا بديهيًا مُوجعًا: لماذا لا يتوجَّه أسطولٌ ضخم من السُّفن، لكسر الحصار المفروض على غزة؟ لماذا سفينةٌ وحيدة متوسطة الحجم لا تحمل سوى عددٍ صغيرٍ من البشر؟ امتد الحوار فأفضي إلى أسئلة أخرى متشابكة؛ أما عن الإجابات فبعضها جاء مُشينًا والبعض الآخر بدا منقوصًا وقاصرًا عن الإقناع. الأنظمةُ السياسية العربية مَفروغ من أمرها؛ إنما نحتاج إلى دراسات مُعمَّقة على مستوى الجماهير العريضة التي تمسُّها القضية مسًّا صريحًا مباشرًا، والتي تستحلُّ أداءَ الشعائرِ والفُروض، ثم الجُّلوسَ إلى المقاهي والمطاعم، فالمشاركةَ في فعاليات التَّسرية المُخجِلة والترفيه؛ بينما الحدود تُنتَهك وأخوةٌ في الدَّم يُجوَّعون ويُقصَفون ويُحرقون.

***

في عالمِ التجارة والأعمال، يَرسو المزاد على فلان أو علان، فيحقُّ له الحصولُ على البضاعة بالثمن الذي عَرَضه. في بعضِ الأحيان تضمُّ المزاداتُ أشياءً غير مألوفة؛ لا يتأتى أن تُقاسُ بمادة أو تُقدَّر بمال، والشاهد أن المكانةَ والريادةَ والهَيبة قد أصبحت ضِمنَ المَعروضات؛ ينالها مَن يَملِك المُقابل المطلوب، وينظر لها بحَسرَة مَن أضاعَ الفُرصةَ وهَان.

***

قدَّم يَحيى الفخراني دراما “المَرسَى والبحَّار“ في عام ألفين وخمسة من إخراج أحمد صقر، وتدور قصته حول أزمات عِدة تواجه رجلًا عربيًّا يملك أسطولًا من مراكب الصَّيد بالاسكندرية ويُكافح من أجل البقاء. رغم وُجود مجموعة من كبارِ الفنانين بين طاقم العمل وعلى رأسهم جميل راتب ومُحسنة توفيق وسلوى خطاب؛ فإن المُسلسَل لم يأخذ حظَّه بين ثلة الأعمال التي يُعاد عرضُها مرارًا وتكرارًا.

***

بعضُ الناس يتعرَّضون لهِزَّات كبرى في مجالات أعمالهم، قد تطيح بأحلامَهم وتهدم ما بنوا على مدار الأعوام، والبعضُ الآخر يملِك أقدامًا راسِية؛ تصعب خلخلتها. يعرف هؤلاء الذين تمرَّسوا بالأسواق أن عليهم الاحتفاظَ بخيطٍ ما؛ يربطهم بدوائر السُّلطة ويُؤَمِّن ظهورَهم، مع هذا؛ منهم من يُخطئ الحسابات ومَن تُفلت منه الخيوطُ وتتقطع، وعلى كل حال فإن العِبرةَ بالقُّدرة على الصُّمود ومُعاودة النهوض.

***

المَرسَى والمَرفأ والميناء مفردات نستخدمها بالتبادل؛ مُتغاضين عن الاختلافات بين معانيها. المَرسَى مكانٌ محدود مُجهَّز لوقوف السُّفن والمراكب، بينما المرفأ مكان الرسُوُّ ذاته وقد تصنعه الطبيعة دون حاجة لتجهيزٍ وترتيب، في حين تمثل الميناء مُنشأة أكبر وأكثر تعقيدًا ويجري فيها تفريغُ الشحنات وتحميلها، وغالبًا ما تستوعب أعدادًا من البواخر والسُّفن.

***

تُكنى الجِّبالُ بالرواسي كونها أوتادَ الأرض التي تحفظ توازنها، واللفظةُ من المَوروث الديني ولها وقعٌ موسيقيٌّ مُؤكِّد للمعنى والدلالة، والرَّاسية هي الثابتة والثباتُ صفةٌ تميِّز الجامدَ في حقيقته، وتَصِفُ مجازًا الحيّ.

***

ربما تردَّد الواحد تجاه أمرٍ ما؛ فتنقل بين وجهات نظر مُتعدِّدة وأحيانًا مُتناقضة، دون أن يتمكَّن من اختيار إحداها واستبعاد الأخرى. يَنصحه الناسُ في هذه الأحوال بأن يَرسوَ على برّ؛ والمُراد أن يَستقرَّ على رأيٍ مُحدَّد واضح يطمئن إليه؛ كي يتمكَّن من التقدُّم في طريقه. التردُّد سِمةٌ سَلبيَّة، تعطلُ المرءَ عن اتخاذ خطوة للأمام؛ فيما خطوةً واحدةٌ -ولو في الاتجاه الخطأ- هي أفضل من التجمُّد في المكان؛ إذ الخطأ مصدرٌ للتعلم واكتساب الخبرة وبناء الثقة في الذات، أما الثباتُ فخسارة أكيدة.

***

زُرت قبلَ ما يزيد على عقدين من الزَّمان سيدي عبد الرحمن؛ تلك المنطقة ذات الشاطئ فائق التميُّز، المتمتع بفطرة رائقة لم تلوثها المبالغات. كانت مصيفًا مُفضلًا، إلى أن توسَّعت وتضخَّمت وتحوَّلت إلى مَراسي، وباتت المَراسي بدورها مَصدرًا للقيل والقال؛ خاصة فيما يتعلق بتغيير خصائص المكان وصفاته البيئية. عزفت عن التوجه إليها من جديد لعديد الأسباب منها فقدان ذاك الرونق القديم الذي حفظته الذاكرة؛ ولم أزل آملة في أن تعود ذات يوم لأصلها.

***

إذا قيل فلان عاقل وراسٍ؛ فالقصد أنه حكيمٌ لا يأخذه الشططُ ولا تتلاعب به الظنون. العقلُ أداة التفكير والتدبُّر، والرسُوُّ حالٌ من الهدوء والرزانة؛ فإن اجتمعا سويًا اكتملت لصاحبهما الآيات، وإن غابا أو اختل ميزان أحدهما؛ توترت الأفعال والتصرفات. بعض الأحيان يتصنع الشخص صورة ما، توحي للآخرين بغير الحقيقة.

إقرأ على موقع 180  موكب الحرب اللبنانية.. ثلاثة بواحد

***

التفاعُل مع الشَّخص الرَّاسي سَهلٌ هَين، والتعامُل مع هذا الذي فقدَ البُوصلة أمرٌ مُرهق عصيب. حار كثيرون أمام مَسلك الرئيس الأمريكي وخِطابه الذي لا يَرسو على رأيٍ ولا يَستقرّ على توجُّه؛ بل وتبدو كلماتُه مُجردةً من كلِّ مَنطق وحِسٍّ سليم، حافلة بالتضَاد والتناقُض، والحقُّ أنه لا يقف وحيدًا في خندق الخطباء الذين ينضح حديثهم بالحمْق والتهَلهُل وانعدام التماسُك؛ فمثله قد رأينا كثيرين، لكنا عجزنا عن مواجَهتهم بنقائصهم وآفاتهم.

Print Friendly, PDF & Email
بسمة عبد العزيز

طبيبة وكاتبة مصرية

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الهويّات الفرعية والكلية.. والأوهام الكبرى!