

من المنظور الأوروبي والأميركي، هذه الإبادة كانت ضرورة مُلحة للإجهاز على نزعات المُستعمَر في المضي ببناء بنية تحتية تُمكنه من الخروج عن قواعد الردع ورسم إمكانات هجومية تغيّر من قواعد الاشتباك، سواء كان ذلك على مستوى كيان مسلح كحركة حماس أو كيانات مدنية معبأة بفكر المواجهة، أو ما تسمى بـ”بيئة المقاومة”. وللتوضيح فإن العقيدة المقرونة بـ”حق العودة” لدى اللاجئ الفلسطيني في غزة ما هي إلا مثال على هكذا بيئات. إذن فعملية الإجهاز هذه لن تأتي إلا من خلال إبادة شاملة تطال كل مكونات الحياة البيولوجية التي تنتمي إليها وتنبع منها هذه البيئة، إيكولوجية كانت أم عمرانية أم فكرية أم انجابية. في جزئيّة من هذا الشمول رسالة واضحة للعالم أجمع حول المصير المُنتظر لكُل من يحاول ترجمة فكر تحرري إلى فعل اشتباك بنيوي؛ فإن أراد قومٌ أن “يؤمنوا” فلهم أن يؤمنوا طالما أنهم لن يحولوا إيمانهم إلى بنية مادية متحرّكة.
هذا الانقلاب الحاصل في دول المركز تجاه دولة الكيان، والذي تزامن مع تجاهل الرئيس الأميركي دونالد ترامب دولة إسرائيل في أولى زياراته الرسمية الخارجية والتي خصّ بها المنطقة، بعد مرور ما يقارب من العامين على المذبحة، وما تبعه من استدعاءات للسفراء الإسرائيليين في بعض الدول ولا سيما الأوروبية، ومن تهديدات علنية بفض اتفاقات التسليح المُبرمة معها؛ هذه كلها تدل على شيءٍ واحد، وهو تذكير إسرائيل بأنها كيان وظيفي، ونحن سمحنا لكِ بالبدء بالمذبحة في غزة ونحن نُقرّر متى تنتهي.
التغيّر الحاصل اليوم في مواقف تلك الدول، ليس إلا نتيجة خلاف بين المستعمِر وأداته الصهيونية حول المدة الزمنية للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة. إذ بات استمرارها يُشكل عبئاً مادياً وسياسياً وعائقاً أمام المشاريع الكبيرة المُعدّة لمنطقتنا، سياسياً واقتصادياً وديموغرافياً.
إن هذا التحول لا يعكس فقط مزاجاً جماهيرياً لحظوياً، بل يُسلّط الضوء على ازدواجية المعايير في التعامل مع قضايا المنطقة، حيث المواقف تُبنى وفق المصالح، ويطرح تساؤلات جدية حول موقع القضية الفلسطينية في ضمير الشارع الأوروبي وفي حسابات العواصم الغربية
فالوحشية التي تُمارس بحق الفلسطينيين ليست مُستجدة على الرجل الأبيض، فما يحصل في غزة اليوم ما هو إلا النزر اليسير مما جرى من إبادات جماعية بحق الشعوب منذ بضعة قرون مضت في القارة الأميركية شمالاً وجنوباً كما في أستراليا والقارة الإفريقية. وعلينا ألا ننسى أن أوروبا نفسها لم تنهض من عصر الظلمات إلى التنوير إلا بنهب الشعوب الأخرى بعد إبادتها. فالإبادة الجماعية كمصطلح، ثمرة نهج أوروبي بامتياز، يعكس في الأصل معالجة الرجل الأبيض لسؤال هيمنته التوسعية في حدود قارته وما بعدها. فما نراه اليوم من إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني، ما كانت لتحصل لو لم يتم تشريعها من قبل دول المركز الإستعماري.
إن الغضب الأوروبي الذي تمثل في استدعاء سفراء الكيان، ودعوة بعض الدول لمقاطعة اسرائيل وعزلها دولياً، لم يأتِ نتيجة صحوة إنسانية إزاء هول ما يجري في غزة، بل نتيجة شعور تلك الدول أن هذا الكيان بدأ يخرج عن القواعد الوظيفية المرسومة له.
لذا نرى أن المجتمع الدولي الراعي لدولة اسرائيل، وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية، بدأ بتوجيه رسائل جدية لإسرائيل، مفادها أنه لا يمكن الاستمرار بهذا السلوك الوحشي الفاضح الذي تجاوز المدة الزمنية الممنوحة له لشل البنية الاجتماعية في غزة والقطاع، وبات من الضروري وقف اطلاق النار من أجل الانتقال إلى الطور الثاني من الابادة. فالعدول عن الطور الأول – العملية العسكرية – أصبح حاجة ملحة منعاً لارتداداته العكسية على دول الجوار، ولحماية المكتسبات المادية من هذه الابادة وصون وظيفتها التكاملية مع دولة إسرائيل. كما أن صون البنية الاقليمية، يتطلب بالدرجة الأولى الولوج في الطور الثاني المعتاد في حروب العقاب الجماعي وهو طور اقتصادات الغوث وإعادة الاعمار، وهي أداة من أدوات مكافحة التمرد وضبط الغضب الجماهيري المتوقع ضمن قنوات زبائنية وظيفتها “التسكين”.
إلا أن دولة الكيان لها وجهة نظر أخرى حول كيفية تجاوز أي ارتدادات عكسية على دول الجوار نتيجة فشلها في إخضاع الغزيين. فتوجيه ضربة لإيران بعد إخضاع لبنان وتحييد العراق إحتواء اليمن نسبياً (الاتفاق الأميركي اليمني)، من شأنه أن يُعطي المعركة بُعداً إقليمياً كفيلاً بإزاحة الأنظار عن الإبادة الجارية في غزة وإغراق المنطقة في بحر من الخيبات والتباينات، بالإضافة إلى تخفيف الضغط عن حكومة الاحتلال في الداخل، الأمر الذي بات ضرورة ملحة منعاً لتفاقم التصدع المجتمعي الداخلي في دولة الكيان. وبعد منحه الفرصة التي أراد، لم تأتِ النتائج بمستوى طموحاته، فما كان على مانحيه تلك الفرصة وعلى رأسهم الولايات المتحدة إلا العمل من جديد على صون البيئة الاقليمية. فـ”رأس المال بطبيعته جبان”، كما يقول المثل الشعبي.
وعليه ليس من قبيل الصدفة ما جرى في حزيران/يونيو الجاري، حيث شهدت العاصمتان النمساوية والألمانية وما تمثلان من عصب البطش الشرطي، أكبر مظاهرتين جماهيريتين منذ اندلاع الحرب على غزة، وهما مظاهرتان بتوقيتهما وحجمهما تطرحان أكثر من سؤال حول دوافعهما وأسبابهما.
إذ تشير مصادر الشرطة في فيينا وبرلين إلى أن الجالية الإيرانية شكّلت الكتلة الأكبر من المتظاهرين، وهو ما يعيد ترتيب أولويات التحليل.
ما يُثير الانتباه أن شرائح واسعة من الجاليات، والايرانية منها على وجه التحديد التي غابت طيلة شهور عن الساحات الأوروبية برغم تصاعد المجازر في غزة، عادت الآن بزخم غير مسبوق. لكن هذا الزخم بدا أكثر تنظيماً، وأكثر ارتباطاً بسياقات إقليمية متحركة.
الأكثر لفتاً للانتباه هو أن أجهزة الأمن في البلدين ـ المعروفة سابقاً بتشددها إزاء الفعاليات ذات الطابع الفلسطيني – أظهرت هذه المرة درجة عالية من التساهل، بل والتعاون، في تنظيم المظاهرة. وهو ما يُقرأ، وفق مصادر مطلعة، على أنه يعكس توجيهاً سياسياً بعدم استفزاز الغضب الإيراني في هذه المرحلة، حتى لو رُفعت أعلام فلسطين وصدحت هتافات (محدودة) بالحق في المقاومة.
إن هذا التحول لا يعكس فقط مزاجاً جماهيرياً لحظوياً، بل يُسلّط الضوء على ازدواجية المعايير في التعامل مع قضايا المنطقة، حيث المواقف تُبنى وفق المصالح، ويطرح تساؤلات جدية حول موقع القضية الفلسطينية في ضمير الشارع الأوروبي وفي حسابات العواصم الغربية.
غير أن ما يستحق التأمل حقاً لا يكمن في الحشود ذاتها، بل في البنية الفوقية التي سمحت لها، بل واحاطتها بشيء من الرعاية الصامتة؛ إذ تبدو قرارات التساهل في هذا المنعطف الجيوسياسي الحاد، أقرب إلى انعكاس لخطاب سلطوي أوروبي يعيد تموضعه لا على أساس أمنيات الشعوب، إنما وفق خرائط الهيمنة والتحالفات، حيث تُدار العواطف كما تُدار المصالح بخيوط غير مرئية، ولكن شديدة التوجيه.
أمام هذا الواقع المقلق، سيُسارع النظام الدولي بجناحيه الأميركي والأوروبي من جديد لإتباع أسلوب أكثر صرامة مع إسرائيل يُجبرها فيه على الوقوف عند هذا الحد من الإبادة. إلا أن دولة الكيان ما زالت ترى أن ظروف المنطقة مثالية في السير قُدماً نحو تنفيذ رؤيتها الإستراتيجية حول مستقبل كيانها وانتقالها من طور الصهيونية إلى طور “الصهيونية الجديدة” وبناء الدولة القومية اليهودية، وهذا ما سنتناوله في المقالة المقبلة، كون هذا المشروع لديه تعقيدات كثيرة لا بد من تفكيكها، علّنا لا نضيع وقتنا في لحظة تاريخية قادمة بدعوات تستنهض العواطف الأممية ضمن محددات حراكات تضامنية سلمية واهية!