التقيت وأصدقاء قدامى وتشعَّب الحديثُ في أكثر من اتجاه، ثم راحت الأغلبية تتبادل الآراء بشأن المَهْرَب المناسب؛ ما وقع انفجارٌ نوويٌّ وانبعثت الإشعاعات. جاء اللقاءُ قبل توقُّف الحرب بين إيران والكيان المُحتل، وقد اتخذ الكلامُ طابعَ الهذر والتنكيت وتعالت القهقهاتُ بما جاوزَ حجمَ المَخاوف التي انتشرت في الأجواء؛ فما كان من أحد الرِّفاق أصحاب الحِسِّ السَّاخر سوى أن أعلن عن لا مبالاته؛ دافعًا بالمثل الشعبيّ الشهير: "ضربوا الأعوَر على عينه"؛ فهتف الباقون في صوت واحد: "قال خسرانه خسرانه".

المَهْرَب اسمُ مكان من الفعل هَرَب، الفاعل هارب والمصدر هَرَبٌ وهُروبٌ وهَرَبَان، وإذا كان الشَّخصُ كثيرَ الهُروب؛ قيل إنه هرَّابٌ بفتح الراء وتشديدها.

***

أحيانًا ما يكون الفزع شديدًا والرعب هائلًا وفيرًا؛ يصيب المرءَ بحال من الشلل. يعجز الواحد عن النطق ويرتجف جسده، وقد يشحب لونه بصورة ملحوظة ويقال حينها: هرب دمه. الوصف من الناحية العلمية دقيق؛ فمن الناس من يتعرض لصدمة عصبية هائلة في أوقات الخوف أو عند تلقي مفاجأة كبرى، وتتسع حينئذ أوعيته الدموية بما يُقلّل من تدفق الدماء للبشرة، ويصبح جلده أبيض اللون وباهتًا على غير المألوف. هروب الدماء من الوجه علامة دالة؛ تشير إلى عمق التأثر بالموقف، وقد يتطور الأمر حد فقدان الوعي.

***

عثرت على كتاب قديم مهترئ الأوراق يسوده الاصفرار، يحمل غلافه الممزق من هنا وهناك عنوان “الهروب الكبير”، بدأت في قراءته فإذا بي أمام الرواية التي أخذ منها الفيلم الشهير تحت الاسم ذاته، والذي أنتج في ستينيات القرن العشرين وتدور أحداثه حول خطة مبهرة وضعها معتقلون عسكريون قضوا أعوامًا في الأسر داخل سجن ألماني شديد الحراسة وافر الاحتياطات إبّان الحرب العالمية الثانية، وقد تمكنوا بها من الهرب والتغلب على سمعة المكان المدوية، وجعلوا منه أضحوكة.

للهرب من المكان أو من شيء معنوي مكانة لا تنكر في الدراما. قدم عبدلله غيث مسلسل ”هارب من الأيام“ بمشاركة كوكبة من الفنانين بينهم حسين رياض وتوفيق الدقن ومحمود الحديني في مطلع ستينيات القرن الماضي. القصة لثروت أباظة والسيناريو لفيصل ندا أما الإخراج فلنور الدمرداش، أما فيلم ”الهروب“ الذي قدّمه المخرج عاطف الطيب فبطولة أحمد زكي وهالة صدقي وهو مأخوذ عن رواية ألكسندر دوما ”كونت دو مونت كريستو“، وعرض في التسعينيات الماضية.

***

بعض المرات يخفق الواحد في موقف دقيق، ويخونه التعبير الوافي عن مقصده وقد يأتي بعكس المراد، فيقال له: هَرِبت منك. القصد أنه لم يكن موفقًا فيما انتقى من فعل أو حديث، والعادة أن يتدبر المرء كلامه وأن ينظر نتائج أفعاله قبل الشروع فيها؛ لكن حال السيولة العجيبة التي نعيشها تستوعب كل الهفوات وترحب بالزلات ولا تجد فيها غضاضةً مهمًا عظمت.

***

بعضُ البلدان تترك لمواطنيها حقَّ الاختيار حينما يتعلق الأمر بأداء الخدمة العسكرية. بلدانٌ أخرى تجبِر الشُّبان على الالتحاق بالجيش، وقضاء المدة المقررة بغض النظر عن توفر الرغبة. عرفت من حاولوا التهرُّب من الاستدعاء، ومن رَضوا بالواقع المفروض، ومن سعوا لتغييره بالطرق القانونية لكنهم فشلوا. أحد العوامل التي تدعو إلى التهرُّب؛ تلك المعاملة التي تقوم على القسر والإجبار وتستبعد أفعال الإرادة الحرة كجزءٍ أصيل من الإعداد والتدريب. الطاعةُ التامة قوامٌ رئيس يُغرَس في شخصية المجند، أما الرفض أو المعارضة؛ فكلماتٌ غير مقبولة.

***

تعرض قنواتُ التلفزيون الرسمية إعلانات لمواجهة التهرُّب الضريبي، تسعى لاستمالة فئة المُتهرِّبين وتعدهم بالمَيزات ما استجابوا. الضرائبُ في غالبِ البلدان يقابلها حصول الدافعين على خدماتٍ حقيقية، أما لدينا فإن المواطن باحثٌ في معظم الأحوال عن حقوقه الدنيا. على كلِّ، تحمل مفردة “التهرُّب” إيحاءً بالمراوغة الناجحة؛ تلك العملية التي نتقنها ونبرع فيها، فالحاجة دافع للتفوق ما اشتدت.

***

إذا جاء الحديثُ حول المهربين الذين يتنقلون عبر الحدود؛ قفزت إلى الأذهان عمليات بيع وشراء السلاح وكذلك المواد المخدرة، وعلى صَعيد أقل خطورة طائفة مُهرِّبي الملابس المستوردة، والحقائب والأحذية الفاخرة، الذين يبتكرون الحِيلَ لتمرير بضائعهم دون أن يضطروا لدفع الرسوم الجمركية الباهظة، أما تهريب إجابات الأسئلة في اختبارات الثانوية العامة؛ فصار من أهم ما يحتل السَّاحة على مدار الأعوام؛ وقد اختلت المعايير؛ فبات القادرون على شراء الدرجات لأبنائهم في مرتبة مَرموقة والعاجزون في ثوب المُهان.

***

قد يهرب المرءُ في الأوقات الصعبة من نفسِه ومن مواجهة أزماته بالاندماج في سلوك إدماني. التحديق في المحمول لفترات طويلة أحد السلوكيات المعروفة، التذرع بحجَّة الجُّوع والاحتياج الماسّ لتناول الطعام وسيلة هروب أيضًا؛ سرعان ما تتحول إلى إدمان يضرُّ ولا شك بالصحة. كذلك يُعَد الإفراطُ في التسوُّق وابتياع أشياء غير مُهمة ولا ضرورية ضمن سُبُل الهروب المعتادة؛ ما تهيأ الظرفُ وتوفَّر المال. ثمَّة من يهرب من واقعه السيئ بالتوغل في الدين؛ أي دين، ولا عجب أن يصبح الانتماءُ الديني المُتعصِّب بديلًا مناسبًا عن الانتماء للوطن المسلوب؛ لكنه يظل ضمن طائفة المسكنات الوقتية التي يزول حتمًا مفعولها؛ ما لم ينح الفرد واعيًا إلى تعرية جذور المشكلات المتأصلة، ويعمل على اجتثاثها.

***

إذا هرب النومُ من الأعين وساد الأرقُ وتمكن السُّهاد، قفزت إلى الذهن تلك النصيحة القديمة بتناول كوب من اللبن الدافئ؛ لكن تطبيقها يبدو في اللحظة الراهنة من المُحال، فواقعنا المُفزِع أكبر من النصيحة، واللبن أغلى من أن يتحوَّل لوسيلة استرخاء؛ في ظلِّ تدهور اقتصاديّ غير مسبوق.

إقرأ على موقع 180  جهوزية حزب الله في مواجهة إسرائيل.. على إيقاع البايدنية!

***

بعض الأحيان يمثِّل الظالمُ الملجأ الوحيدَ أمام المظلوم الذي يقول لسانُ حاله: أهرب منك إليك. يمثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ملاذًا لحكومات عربية عدة؛ تتقرب إليه بينما تعرف أنه في موقع الظالم المُتحكِّم، وأنه ينصر العدوَّ دون استحياء؛ لكنها تواصِل طرقَ الباب والتذلُّل؛ مرةً ببذل المال، وأخرى بإراقة الكرامةِ على الأقدام، وثالثة عبر التلويح بشتّى المُغريات؛ لكن هيهات أن تلقي الحدأةُ بالكتاكيت.

***

دأبنا على الهروب من الحقيقة إلى غيرها؛ لكنها تظل تطاردنا حتى تورثنا الإنهاك، وتضطرنا إلى التوقف ومجابهتها وجهًا لوجه. محاولة الالتفاف غير مجدية، والإفلات لا يمكن أن يتواصل إلى ما لا نهاية، والثابت ألا مهرَب من الخطأ ولا مفرَّ، فالمواجهة دومًا هي الحلُّ الناجع والأكيد.

Print Friendly, PDF & Email
بسمة عبد العزيز

طبيبة وكاتبة مصرية

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  "رحلة البنفسج" تذكرة شعبانية إلى عالم مُظفّر النوّاب