

لم يكد دونالد ترامب يعلن “التدمير الكامل والتام” للبرنامج النووي الإيراني عقب ساعات من إلقاء القاذفات “بي-2” 14 قنبلة خارقة للتحصينات من نوع “بي جي يو 57” على منشأتي فوردو ونتانز وإطلاق غواصة أميركية 30 صاروخ “توماهوك” على منشأة أصفهان، حتى فوجىء بتقرير استخباراتي لوكالة استخبارات الدفاع الأميركية يتحدث عن أن القصف الأميركي، قد “أخّر لأشهر” فقط، البرنامج الإيراني.
وزادت طهران من الغموض، بعدما قلّل مرشد الجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي من الخسائر معلناً “الانتصار”، بينما كان أكثر من مسؤول إيراني يؤكد أن الجهات المعنية نجحت قبل الضربة الأميركية، في إخراج 400 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المئة من منشآتها، وهي كمية في حال استطاع العلماء الإيرانيون توفير مكان سري لها مع عدد من أجهزة الطرد المركزي، يُمكن رفع نسبة التخصيب إلى 90 في المئة وصنع عشرة رؤوس نووية، وفق تقارير غربية.
إذا صحّ ما تعلنه إيران، فهذا يعني عودتها إلى الوضعية النووية التي كانت عليها قبل الحرب الإسرائيلية التي بدأت في 13 حزيران/يونيو الماضي. كما أنه يُفسّر عودة ترامب إلى لغة التهديد بجولة جديدة من القصف، في حال استأنفت إيران العمل ببرنامجها النووي، بعدما كان تبنى نبرة تصالحية عقب وقف النار الثلاثاء الماضي.
يسود الاعتقاد بأن ترامب ربما أخطأ في الحسابات، عندما افترض أن في امكانه إعلان النصر بضربة واحدة، ومن ثم الانتقال بسرعة إلى اتفاق. يتضح من ردة فعله الحادة على التقارير التي سرّبتها وسائل الإعلام حول محدودية نتائج الضربة للمنشآت النووية، أنه لا يريد العودة بالأحداث إلى المربع الأول.
هل بلغ النظام الإيراني مرحلة يشعر معها بأن استمراريته مُهدّدة، وأنه لا بد من أن يدخل في مساومات مؤلمة، ويعمل على تصويرها بأنها “نصر استراتيجي”؟ تخرج صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية بنتيجة مفادها أن “أعمدة النظام في إيران قد تضرّرت، لكنها لم تتدمر”
وطبعاً، يجد ترامب مساندة لآرائه من نائبه جيه. دي. فانس ووزير الدفاع بيت هيغسيث، في حين أن رئيس هيئة الأركان الجنرال دان كين ومدير وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي إيه” جون راتكليف، كانا أكثر حذراً. وكان لافتاً للانتباه أن يجد ترامب تأييداً من هيئة الطاقة الذرية الإسرائيلية، التي تحدثت عن إعادة البرنامج النووي الإيراني “سنوات إلى الوراء”.
وهناك تفسير آخر للغضب الذي يشعر به ترامب من التقويمات التي تُقلّل من نتائج الضربة الأميركية، ذلك، لأنها أثبتت صدقية التحذيرات التي كان يُطلقها مجمع الاستخبارات حول عدم قدرة القصف الجوي، على ضمان التدمير الأكيد للبرنامج النووي الإيراني. وفي 25 حزيران/يونيو، نقلت صحيفة “الواشنطن بوست” الأميركية عن النائب الديموقراطي مايك كيغلي: “أنه منذ سنوات ومسؤولو الاستخبارات في الولايات المتحدة يقولون لنا، إن أي هجوم جوي على المنشآت النووية الإيرانية لن يُحدِث تأثيراً مستداماً”.
وبينما التعاون بين طهران ومفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية على المحك، فإن أي تقويم نهائي للخسائر الفعلية التي أحدثها القصف الإسرائيلي والأميركي، سيبقى طي الغموض في الأسابيع المقبلة.
وهذه من الأوراق التي ما تزال إيران تملكها في أية مفاوضات محتملة مع الولايات المتحدة. وترى مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية، أن الطريقة الوحيدة لكسر المأزق بين أميركا وإيران، تكمن في تبني موقف أميركي أكثر مرونة يعطي إيران حق التخصيب المحدود في ظل قيود مشددة. لكن هذا سيضع ترامب أمام خيارين: إما ابتلاع كبريائه والقبول باتفاق شبيه باتفاق العام 2015 الذي مزّقه بنفسه في العام 2018، أو العودة إلى استخدام القوة، التي لا يتحمس لها الرأي العام الأميركي.
وبحسب استطلاع لشبكة “سي إن إن” التلفزيونية الأميركية، فإن 44 في المئة من الأميركيين أيّدوا الضربة الأميركية ضد إيران في مقابل 56 في المئة عارضوها، علماً أن الأميركيين يؤيدون في الغالب في المرحلة الأولى أي عمل عسكري تشنه بلادهم.
وحتى في صفوف الجمهوريين، أعرب 44 في المئة فقط عن “تأييد قوي” للضربة، في ما يعكس تأثير تيار “ماغا” (“لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”) الذي رأى في الذهاب إلى ضرب إيران، انحرافاً عن سياسة “أميركا أولاً”. وهذا ما يُهدّد احتمال أن يبقى الجمهوريون مسيطرين على مجلسي الكونغرس في الانتخابات النصفية في العام المقبل.
لذا، كان رهان ترامب على أن الحرب الإسرائيلية والضربة الأميركية، لا بد أن تحدثا تحولاً في موقف النظام الإيراني، الذي واجه أكبر اختبار له منذ الحرب العراقية-الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي. لكن هل بلغ النظام مرحلة يشعر معها أن استمراريته مُهدّدة، وأنه لا بد من أن يدخل في مساومات مؤلمة، ويعمل على تصويرها بأنها “نصر استراتيجي”؟ تخرج صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية بنتيجة مفادها أن “أعمدة النظام في إيران قد تضرّرت، لكنها لم تتدمر”.
ويقول مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ” تشاتام هاوس” بلندن سانام وكيل إن “النظام سيلاحق المتسللين ويجري عملية تطهير من الداخل.. وهناك مخاطر من زيادة القمع ضد معارضين محتملين.. لكن النزاع لم ينتهِ. وهذه على الأرجح مجرد وقفة، وقد ينفجر التصعيد في أي لحظة، إلا إذا تم التوصل إلى صفقة”.
في هذه الغضون، يصعب التنبؤ بوجهة الأحداث. وبعض النواب المتشددين في مجلس الشورى الإيراني، يدعون فعلاً النظام إلى سلوك خيار صنع السلاح النووي، لردع هجمات مستقبلية. بيد أن الزعماء الإيرانيين يعتقدون أن مثل هذه الخطوة تحمل مخاطر كبرى في الوقت الحاضر، بينما ترامب وإسرائيل يُهددان باستئناف الضربات للحؤول دون حيازة إيران للقنبلة.
في الخلاصة، ثمة أسابيع حاسمة، يتخللها طرق أبواب متبادل بين واشنطن وطهران لتلمس ملامح تعاملهما مع العديد من الملفات المشتركة، وحتماً سيكون وجود بنيامين نتنياهو في واشنطن في النصف الثاني من شهر تموز/يوليو المقبل، إذا تم تثبيت موعد زيارته، مناسبة لتحديد رؤية الجانبين في كيفية التعامل مع الملف النووي الإيراني وما تبقى من نفوذ لطهران في منطقة الشرق الأوسط.