

شكَّل الهجومُ الذي شنّته الولايات المتحدة على المواقع النووية الإيرانية، الأسبوع الماضي، عقب حملة قصفٍ إسرائيلية استمرت أسبوعاً، نقطة تحوّلٍ بالنسبة لإيران. إنَّ تورط واشنطن في الصراع يُعدُّ أحد أكبر التحديات التي تواجه الجمهورية الإسلامية، منذ تأسيسها في العام 1979، كما يُعتبر لحظة حاسمة بالنسبة للمرشد الأعلى للبلاد، السيّد آية الله علي خامنئي، الذي حافظ على عداء إيران للغرب طوال سنوات حكمه الـ 36.
والآن، أصبح مستقبل البرنامج النووي الإيراني، ومصير وقف إطلاق النار الهشّ مع إسرائيل، مرهوناً بقرارات المرشد الأعلى الذي- كما يبدو- من غير المرجّح أن يتراجع عن مواقفه أو يُقدّم أية تنازلات، بالرغم من كل التهديدات الخطيرة التي تلوح في الأفق.
إن حُكّام إيران اليوم ليسوا غرباء عن الحروب. فغالبية كبار المسؤولين، بمن فيهم رئيس البلاد ووزير الخارجية وعددٍ من القادة العسكريين البارزين، هم من قُدامى المحاربين، الذين شاركوا في حرب الثماني سنوات الطاحنة مع العراق (في ثمانينيات القرن الماضي)، والتي كلَّفت إيران مئات الآلاف من الأرواح ومليارات الدولارات.
وفي ظلّ قيادة آية الله علي خامنئي، الذي تولى رئاسة الجمهورية الإسلامية من العام 1981 إلى العام 1988، وأصبح المرشد الأعلى في عام 1989، أصبحت دروس تلك الحرب المريرة أساس الرؤية الاستراتيجية للنظام، وتُوجّه سياساته نحو العالم وفي مجال الأمن القومي أيضاً، حتى اليوم.
يرى خامنئي أن إيران تخوض صراعاً وجودياً مع الولايات المتحدة وحلفائها، وعلى رأسهم إسرائيل. ومنذ توليه السلطة، انتهج سياسات القمع الداخلي، وتوسع البرنامج النووي، ودعم الميليشيات التابعة، بما في ذلك حركة “حماس” وحزب الله – وكل ذلك في إطار استراتيجية تهدف إلى الانتصار في هذا الصراع المصيري. وقد تفاقم انعدام ثقته بواشنطن منذ انسحاب الرئيس دونالد ترامب، عام 2018، من الاتفاق النووي، الذي تفاوضت عليه طهران مع إدارة سلفه الرئيس باراك أوباما وأبرمته مع مجموعة 5+1 في العام 2015.
تُدرك الجمهورية الإسلامية حدود قدراتها في هذا الصراع. فجيشها يفتقر إلى الكثير مقارنة بالتفوق العسكري الأميركي الأكثر تطوراً، واقتصادُها يعاني من قيود خانقة نتيجة العقوبات الدولية المفروضة عليها منذ عقود.
وعلى الصعيد الداخلي، شهدت إيران، خلال السنوات الأخيرة، موجات من الاحتجاجت الشعبية ضد سياسة “العداء المستمر” التي ينتهجها النظام تجاه الغرب، ورفضاً للسياسات المحافظة والمتشدّدة التي تُمارس في الداخل.
في المقابل، حافظت الولايات المتحدة على وجودٍ عسكري قوّي في المنطقة، حيث يتمركز عشرات الآلاف من جنودها عبر شبكة واسعة من القواعد العسكرية.
وإذا كان هذا الماضي يُؤشر لما هو آتٍ، فإن خامنئي من غير المتوّقّع أن يتراجع، ولا حتى أن يستسلم. لقد وافق، حتى الآن، على وقف إطلاق النار مع إسرائيل، ولكن فقط لثقته بأن إيران صمدت في مواجهة الضربات الأميركية والإسرائيلية. في الماضي، أيضاً، قدّم خامنئي تنازلات عندما كانت الضرورة تقتضي ذلك. فطهران وقَّعت الاتفاق النووي عام 2015، ودخلت مرات عدة في جولات تفاوض غير مباشر مع واشنطن، حول برنامجها النووي، بهدف تخفيف الضغوط الاقتصادية المتزايدة عليها.
لا يرغب خامنئي في تقديم تنازلات من شأنها أن تُغيّر المسار الأساسي الذي تسلكه إيران. بل إنه شديد الحذر حتى من الظهور بمظهر المنفتح على الحلول الوسط، لأنه يعلم أن واشنطن ستفسّر ذلك على أنه علامة ضعف. وقد نُقل عنه قوله في اجتماع مع مستشاريه، عُقد قبل أكثر من عقد، إن “أميركا مثل الكلب. إذا تراجعتَ أمامها، فإنها ستنقض عليكَ، أما إذا هجمتَ عليها فسوف ترتدُّ وتلوذ بالفرار”.
وبدلاً من ذلك، سعى المرشد الإيراني إلى تحقيق توازنٍ يُمكن تلخيصه بـ”لا حرب ولا سلام”. فهو لا يريد مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة، ولا تطبيعاً للعلاقات معها. ما يريده هو أن تتوقف واشنطن عن احتواء إيران، وترفع القيود عن اقتصادها، وتسمح لها بأن تتبوأ المكانة التي تطمح إليها كـ”قوةٍ إقليميةٍ عُظمى”.
حتى الآن، كانت إيران تأمل أن تكون طموحاتها النووية وسيلة لتحقيق انفراجة دبلوماسية، تضع حداً لسياسة الاحتواء الأميركية، وتفتح الباب أمام رفع العقوبات. أما الآن، فقد يستنتج آية الله خامنئي أن السبيل الوحيد لتحقيق تلك الأهداف هو تجاوز الخط النووي، وبشكل لا رجعة فيه
يعتقد خامنئي أن إيران قادرة على تحقيق هذا الهدف في الوقت المناسب. ويعتقد أيضاً أنه إذا ثابرت طهران، فإنها ستتمكن في نهاية المطاف من تجاوز “شهية” واشنطن وتل أبيب للصراع معها. فعلى مدى عقود، بنى نظامه استراتيجيته العسكرية على مبدأي الصبر والتحمل، مما يعكس الدروس والعِبَر التي استلهمها قادة هذا النظام من تجربة الحرب الإيرانية – العراقية.
في عام 1980، شنَّ العراق هجوماً مفاجئاً على إيران، واستولى على آلاف الكيلومترات من أراضيها. لكن بعد عامين فقط، تمكَّنت القوات الإيرانية من التفوق على الجيش العراقي- الذي كان يُعدُّ الأفضل تسليحاً في ذلك الوقت- وذلك من خلال اتباع حرب العصابات وما يُسمى بـ”الأمواج البشرية”، مما سمح لها باستعادة الأراضي التي كانت خسرتها. كان الدرس، بالنسبة لآية الله خامنئي وأقرانه، هو أن إيران قادرة على إنهاك أعدائها، حتى لو كانوا يتفوقون عليها بالسلاح والعتاد، وحتى عندما تكون الظروف ضدَّها.
هذه العِبَرة كانت “الأساس” الذي بنت عليه إيران استراتيجية تعاملها مع الغزو الأميركي للعراق عام 2003. كان خامنئي متأكداً أن إيران ستكون التالية على قائمة واشنطن، لذلك كلَّف قائد الحرس الثوري آنذاك، اللواء قاسم سُليماني (اغتالته أميركا في العراق عام 2020) باستغلال حالتي الفوضى والتمرّد في العراق لإغراق القوات الأميركية في مستنقع. وبالفعل، شرع سُليماني في بناء شبكة نفوذ إيرانية في جميع أنحاء العراق، عن طريق استمالة سياسيين عراقيين، وحشد ميليشيات شيعية لتنفيذ هجمات ضدَّ القوات الأميركية. وقد نجحت هذه الاستراتيجية. وبحلول العام 2011، سحبت الولايات المتحدة معظم قواتها من العراق، بعد مواجهات مرهقة مع تمردٍ دموي استنزف قدراتها لسنوات.
في السنوات الأخيرة، كان لدى إيران متسعٌ من الوقت للاستعداد لصدّ أي هجومٍ أميركي أو إسرائيلي محتمل. فقد لجأت، على سبيل المثال، إلى دفن منشأة “فوردو” لتخصيب اليورانيوم في أعماق الأرض، وهو ما قد يكون حماها من دمار كامل بفعل القنابل الأميركية الخارقة للتحصينات. وإذا ما تكرَّرت هذه المواجهات بشكل أوسع في المستقبل فستكون أكثر تهديداً، وبخاصةً مع حالة التململ التي يعيشها الشعب الإيراني بسبب العقوبات وتدهور الاقتصاد.
في الوقت الراهن، يبدو أن طهران خلُصت إلى أنها قادرة على تحمّل التحديات الاقتصادية التي قد تفرضها الحرب، وأن الشعب الإيراني سيصطفّ خلف قيادته، ويوجّه غضبه نحو القوى الأجنبية المعتدية.
إن حُكّام إيران اليوم ليسوا غرباء عن الحروب. فغالبية كبار المسؤولين، بمن فيهم رئيس البلاد ووزير الخارجية وعددٍ من القادة العسكريين البارزين، هم من قُدامى المحاربين، الذين شاركوا في حرب الثماني سنوات الطاحنة مع العراق والتي كلَّفت إيران مئات الآلاف من الأرواح ومليارات الدولارات
وقد بدا واضحاً، أنه إنطلاقاً من هذه الحسابات، ووضعها في الاعتبار، شعر خامنئي بأنه مُجبرٌ على الرد لإثبات أن إيران لم تُهزم. وهو يسعى أيضاً لايصال رسالة مفادُها أن واشنطن لا تستطيع تحقيق أهدافها بالقوة، سواء كانت تلك الأهداف تغيير النظام أم تفكيك البرنامج النووي الإيراني. فإيران تسعى إلى الردع لا التصعيد. ويبدو أن حجم وتوقيت إطلاق الصواريخ التي استهدفت قاعدة “العديد” الجوية الأميركية، في قطر، كانا مُدروسين بعناية، فالمسؤولون الإيرانيون أعطوا أطرافاً إقليمية، إشعاراً مسبقاً، بالضربة.
إذا انهار وقف إطلاق النار، واستؤنفت الحرب، فقد تقرر إيران مهاجمة السفن، أو القواعد الأميركية في منطقة الخليج العربي، أو حتى إغلاق مضيق هرمز. وسواء فعلت ذلك أم لا، فإن ما يهمها أكثر من أي شيء آخر هو قدرتها على إبقاء العالم في حالة ترقّب وقلق، باستخدام حالة عدم اليقين لزعزعة صفو أسعار الطاقة وحركة التجارة العالمية.
أما إذا وجدت إيران نفسها مضطرة لأن تهاجم، فمن المرجح أن تُركز ضرباتها على هدف جرّ إسرائيل والولايات المتحدة إلى حرب استنزاف. فهي تعتقد أن إطالة أمد الصراع سوف يُفشل خطط واشنطن وتل أبيب ويمنعهما من تحقيق نصر حاسم، ويُرغمهما على القبول بتسوية تحت وطأة التكاليف المتزايدة وردود الفعل السلبية التي سيتعرضون لها داخل مجتمعاتهم المحلية.
لذلك، فإن إيران، في الوقت الحالي، لن تتعامل مع دعوة ترامب للعودة إلى طاولة المفاوضات كـ”مخرج دبلوماسي” مرحب به. ولن ترضى بالتفاوض إلّا بعد أن تستعيد قدراً من قوة الردع، وربما بعد امتلاكها سلاحاً نووياً.
فهل يمتلك نظام آية الله خامنئي القدرة العسكرية، والتماسك الداخلي والسياسي المطلوب لخوض حرب استنزاف طويلة الأمد؟ هذا الغموض؛ في حد ذاته؛ هو جزءٌ من خطة المرشد الأعلى. وما قد يهمُّ أكثر ليس قدرة إيران على القتال إلى أجلٍ غير مُسمى، بل ما إذا كانت ستقدر على القتال والصمود لفترة أطول مما يمكن لواشنطن أو إسرائيل تحمّله وبخاصة إذا تمكنت من إعادة بناء بنيتها التحتية النووية في هذه الأثناء، وحتى تجميع ترسانة نووية متكاملة.
ستعتمد حسابات إيران، إلى حدٍٍ كبيرٍ، على تقييمها لحجم الأضرار التي لحقت ببرنامجها النووي، جراء القصف الأميركي، ومدى قدرتها على تحويل مخزونها الحالي من اليورانيوم عالي التخصيب إلى سلاح نووي.
قد تعمد طهران، قريباً، إلى إغلاق منشآتها النووية أمام المفتشين الدوليين. وحتى لو بقيت – رسمياً – طرفاً في معاهدة حظر الانتشار النووي، ستُبقي العالم في حالة شكٍ دائمٍ بشأن أهدافها ونواياها.
من جهتها، قد تحاول واشنطن عرقلة تقدّم إيران، ولكن إذا لم تُرسل قوات برّية، وتُبدي استعدادها لتدخل عسكري برّي مباشر، فإن قدرتها على إحداث تأثير يُذكر سيظلُّ محدوداً.
وقد يكون هذا، بالضبط، ما يُراهن عليه خامنئي: أن مجرد احتمال اندلاع “حرب استنزاف طويلة الأمد” أخرى في الشرق الأوسط هو أمرٌ مُخيفٌ بما يكفي لإبقاء الولايات المتحدة بعيدة. ويبدو أن طهران نجحت بالفعل في إقناع ترامب بطلب وقف إطلاق النار.
حتى الآن، كانت إيران تأمل أن تكون طموحاتها النووية وسيلة لتحقيق انفراجة دبلوماسية، تضع حداً لسياسة الاحتواء الأميركية، وتفتح الباب أمام رفع العقوبات. أما الآن، فقد يستنتج آية الله خامنئي أن السبيل الوحيد لتحقيق تلك الأهداف هو تجاوز الخط النووي، وبشكل لا رجعة فيه.
– ترجمة بتصرف عن “نيويورك تايمز“.
(*) والي نصر، باحث في الشؤون الإيرانية والسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وعميد كلية بول هـ. نيتز للدراسات الدولية في جامعة “جونز هوبكنز”. وشغل منصل الممثل الخاص للولايات المتحدة في أفغانستان وباكستان، بين عامي 2009 و2011.