زياد الرحباني.. آثار على الرمال

نحبّ زياد لأنه يذكرنا بإنكساراتنا لا بإنتصارتنا- هذا إن وجدت – ولا سيما عند جيلنا، جيل الثمانينيات الذي وُلدَ في خضمّ انهيار النموذج السوفياتي. نرى فيه تماثلاً مع حالتنا كأفراد مسحوقين في نظام وضع كل قيوده لأجل خنقنا. نحبُّ زياد الرحباني لأنه يُذكرنا بذواتنا المسروقة ومجتمعنا الغارق في الاستهلاك حتى الثمالة.. لهذا كله، تحب الناس زياد الرحباني.

أضحك زياد الرحباني اللبنانيين على أنفسهم وهذا ما ميّز أسلوبه الكوميدي. كان الجمهور يدفع ثمن بطاقة مسرحية يعرف سلفاً أنها ستسلط الضوء على عيوبه ممسرحة على الخشبة. عرّى زياد اللبنانيين أمام مرآة الحقيقة. قالها صراحةً لا مواربةً: “التوك” عند اللبناني متأصل في جيناته ولا لوم على نظام هو أصلاً تمّ تصميمه لقهر الناس وتعذيبها.

***

الرحباني في خساراته الكثيرة يشبه سيرة آل الجميل في السياسة اللبنانية: تراجيديا متواصلة. هنا الخسارات تتعدى شجرة العائلة البيولوجية. في هذه الحالة، لم يخسر فقط أبيه عاصي وعمّه منصور ( ثنائي لبنان المبدع)، بل تناسلت خسارات من بعدها لرفاق وأصدقاء شكْل وإياهم مشوار عمر طويل: رضوان حمزة، حسن إسماعيل، زياد أبو عبسي، وآخرين لا نعرفهم بالضرورة. هذا عدا عن خسارات ثقيلة في مسيرة اليسار اللبناني، منذ سطوع نجمه في السبعينيات إلى لحظة ضموره الحالي. هذه الخسارات هي بيولوجية المنشأ لأن زياد كان منتمياً إلى خيار سياسي أبى ألا يفارقه في زمن تلون النخب الثقافية وتشتتها وضياعها. ظلّ أميناً عاماً على إرث نضالي وفكري لم يخجل يوماً به واتكأ عليه في كل مسيرته.

***

في المسرح كما في الموسيقى والإذاعة والعمل السياسي، الخطاب نفسه ولكن بأدوات مختلفة لأن الحياة بالنسبة إليه منظومة واحدة. هذا مشتق من تفكير جدلي ديالكتيكي آمن به. كل ميدان امتداد للآخر. هي نوتة موسيقية تتماوج صعوداً أو هبوطاً حسب المرحلة. يكتب البيان السياسي بالرشاقة نفسها التي يكتب فيها نصاً مسرحياً لاذعاً. لا يطلب من الأشخاص تمثيل أدوار مسرحية. بالنسبة إليه، الواقع أعظم خشبة مسرحية والعمل المسرحي لا يؤتي ثماره إلا لأنه تجسيداً حقيقياً لواقع ملموس لا مزيف. زياد خبر حياة المقاهي والحانات والمطاعم. ثلاثة أماكن كافية لترشدك إلى الواقع. طوّع اللغة وتمرد عليها. أفرد لها مساحة خاصة في كل عمل بذل جهداً فيه. أيقن أنّ الكلام المنمّق لا يفيد في سياق ما يسعى إليه. أنزل الكلام من المعجم الماركسي الثقيل إلى لغة العامة. وهذه لم تكن مهمته بالأساس. كان يفترض على أحزاب اليسار أن تفعلها. لا أن يضع زياد جهداً ذاتياً في تحقيق ذلك. ولكنه لا يترك أمراً يعصي عليه بدءاً من ألحان عاصي الذي جددّها وصولاً إلى “كيفك إنت.. ملا إنت”.

***

السعي المستمر. مفردة تتلازم وزياد. السعي لتوظيف إمكانات وموارد وطاقات في حقول عديدة، خدمة لمشروع مشترك. بيد أن المشروع هذا الذي خُيّل لزياد – كما إلينا – أن يكون اليسار رافعته، بات في مشكلة بنيوية منذ تسعينيات القرن الماضي. إلا أن زياد لم يرفع راية بيضاء. أطلّ في “حوار العمر” مع جيزيل خوري ليُذكّر الناس من على منبر مؤسسة قريبة من اليمين اللبناني أن هناك فكراً شيوعياً لا يزال يخفق حتى بعد انهيار الحلم السوفياتي. حاول زياد مع نجاح واكيم تأسيس حالة شعبية مترافقة مع صعود “كاريزما” الأخير في المجلس النيابي المتأتية في جزء كبير منها من معارضته الشديدة لمشروع رفيق الحريري الاقتصادي.. وصولاً في السنوات الماضية إلى تأليف إطار داعم للحزب الشيوعي اللبناني أسماه حينها “كوليكتيف”. انتظر زياد طوال عمره تعافي اليسار وعلى رأسه الحزب الشيوعي اللبناني كي يُوظّف طاقاته كما طاقات غيره ضمن لوائه. بيد أنّ زمن الانتظار طال كثيراً. طال حتى ممات الرحباني نفسه.

***

ظنّ زياد الرحباني أن انشغاله بالموسيقى قد يترك مساحة وقت لأن يتعافى اليسار. تعب أكثر من طول الانتظار. هكذا هو زياد يبتعد عن المسرح لينشغل بالموسيقى. أو يبتعد عن الموسيقى ليشغل نفسه بالعمل السياسي ظناً منه أن اخفاقاً في ميدان معين سيقابله نجاح في ميدان آخر قبل أن يكتشف هو ونكتشف نحن معه أننا راكمنا خيبات. خيبات سياسية وحزبية وشخصية، مضافاً إليها انكسارات كل واحد منا في حيواته الشخصية والمهنية والاجتماعية والعاطفية.

***

صيف عام ٢٠١٨، أدركت أنها ستكون الحفلة الأخيرة. لم يخبرني بذلك لا هو ولا الأشخاص الذين واكبوا هذه الحفلة بالذات. كان مجرد احساس. وتأكد هذا الإحساس بالفعل إذ كانت ثلاث حفلات ضمن مهرجانات بيت الدين خاتمة مسيرة الرحباني الموسيقية. من شاهد هذا الحفل بالذات، أدرك أنّ الرحباني بذل مجهوداً استثنائياً في سبيل تفريغ طاقته آنذاك. ربما خطّط أن تكون هذه الحفلات هي الأخيرة وربما لم يعرف. بيد أنّ بيروت في ذاك الوقت، كانت تخبرنا أنها ستخبو قريباً. مدينة الألق والأرق ستصاب بخريف عمرها بدءاً من عام ٢٠١٩. مدهش هذا التشابه بين المدينة وزياد. كلاهما سار في خريفه بشكل متزامن. الأولى غابت والثاني انكفأ. وكأنّ الرحباني كان لحن هذه المدينة التي تموجت على شاطىء متوسط بلع حروباً وأزمات وكوارث.

إقرأ على موقع 180  الدولة كلها.. يعني كلها

***

رفض زياد فكرة التعب، برغم أنه يحقّ له أن يتعب على قاعدة أن السعي المستمر يُتعب وبخاصة في ظروف بلد كلبنان وفي منطقة كالشرق الأوسط. المدهش هنا أن زياد أجّل التعب كفاتورة مستحقة ولكن بعد تعب الآخرين. وكأنه يقول: لست متعباً إلا بمقدار ما خسرنا. لاحظوا أنه يتكلّم دوماً بصيغة الجمع. لا تكلفةً أو علو شأن، وإنما يحسب نفسه دوماً في صلب نهج فكري وخط سياسي منخرط فيه حتى العظم. مشكلته مع من حوله ومع الناس عموماً أن درجة انخراطهم فيه لم تكن بذات الحماسة والرغبة والاندفاع. هكذا هو زياد. ينبوع أفكار طويل كنصّ صديقه الراحل رضوان حمزة عندما كتب الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع.

***

غير متكلّف وبسيط. لا يحب الحياة الاستهلاكية. يبغضها. “يسستم” العالم وفق منظوره الخاص. خلاف الكثيرين معه حول قضايا سياسية لم يلغ قط كتاباتهم الحزينة عنه على وسائل التواصل الاجتماعي. والسبب أن الرحباني بالنسبة لكثيرين هو مدخل إلى مراهقتنا وأحلامنا. مدخل إلى تشكل وعينا السياسي.. مبتدأ الشيوعية.. هو مفتاح أملنا برغم انكساراته وانكساراتنا. ربما لهذا نحب زياد: هو مرآتنا التي تهشمّت وتحطمت. نحبّ زياد لأنه يذكرنا بإنكساراتنا لا بإنتصارتنا. نشعر بالتماثل معه وإن كان عزاؤنا اليوم أننا سنكمل هذه الحياة من دونه. من دونه نعم ولكننا سنعيش مع كل ما أنتج شعراً ونثراً ومسرحاً وموسيقى. هل يكفي هذا؟ لا بالتأكيد. ولكن شكراً زياد الرحباني على كل لحظة أمتعتنا فيها.

***

حينما تذهب مشواراً إلى البحر، ثمة “آثار على الرمال” لا بد أن تكتشفها. هذه واحدة من الدلائل على أن زياد الرحباني ما يزال “على قيد الحياة”.

Print Friendly, PDF & Email
عطالله السليم

كاتب وباحث سياسي

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  تشاك شومير للإسرائيليين: إن فقدتموني، فأنتم فقدتم بايدن!